الجمعة 2023/11/03

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

"فلسطينياذا" علي العامري.. القصيدة تناضل وتنتصر

الجمعة 2023/11/03
"فلسطينياذا" علي العامري.. القصيدة تناضل وتنتصر
"هذا العالم أعمى/ هذي طروادة عصر أعمى"
increase حجم الخط decrease
لا يملك الشعر العربي النابع من الحالة الفلسطينية الاستثنائية سوى أن يكون فلسطينيًّا واستثنائيًّا. فهو شعر قضية مصيرية بالضرورة بجناحه الأساسي الأوّل، الذي لا ينكسر أبدًا ولا يلين، في ملاحم المقاومة والنهوض والتحليق في سماء الانبعاث والأمل. 
 
وهذا الشعر نفسه، هو شعر جماليات تعبيرية خاصة بجناحه الثاني الغض المتين، المشحون (بالضرورة أيضًا) برائحة الأرض، وسنابك الخيول، وأعشاش الطيور، واحمرار الدم، وذهب الشمس، وفضة القمر، وعصارات الصبّار واللوز والزيتون والبرتقال وزهور الدحنون، ونكهة القهوة، وحكمة الأجداد، ومخاض الأمّهات والنخلات، وحماسة الأناشيد، ورهافة المواويل والنايات والقيثارات، وعبرة الأماثيل، ودهشة الأساطير.

إن ما يُنتظر من الشعر المنغمس في التربة الفلسطينية النضالية هو ببساطة ما يُنتظر من التربة البركانية الخصيبة نفسها، ومن النضال المتفجر المتجدد ذاته. إنه دائمًا الشعر الذي يحرص كثيرًا على "ماذا يقول" و"متى يقول"، بالقدر نفسه الذي يكترث فيه بـ"كيف يقول". 

هو الشعر الطامح إلى أن يُحدث أثرًا، بل آثار متنوعة على أصعدة متفاوتة، فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية. فهو شعر يؤرّخ ويوثّق ويسرد ويغنّي ويصيح ويزأر ويقذف كرات النار. شعر يوقظ ضمائر، ويحتفي ببطولات ومآثر، ويثبت حقوقًا، ويُحيي موروثًا، ويلملم أشلاء وشتاتًا من الأجداث والمنافي والاغترابات الداخلية في الذات. 

كما أنه، على الجانب الآخر، يفضح ممارسات العدو اللا-إنسانية، ويكشف دناءات وخيانات وتنازلات وتواطؤات ومصالح ممقوتة، ويمحو بالضوء الإلهيّ والبشريّ أشباح الملعونين الغاصبين إلى غير رجعة، استبشارًا بقدوم غدٍ منشود، وحلول قيامة مباركة تُبدّل الأوضاع وتمنح الشعب المثابر ثمرة كفاحه. 

وإلى هذا الشعر القابض على جمراته النبيلة وثمراته الوطنية الميمونة، ينتمي ديوان "فلسطينياذا" الصادر منذ أيام قليلة للشاعر الأردني الفلسطيني علي العامري، عن دار "الأهلية للنشر والتوزيع" في عمّان. وهو نص واحد مطول، بغير عناوين داخلية، إذ لا عنوان يجدي بالتأكيد أو يقدم إضافة تفصيلية بعد لافتة فلسطين العريضة في المفتتح. 

يستغرق نص العامري، الذي هُجّرت عائلته من بيسان العام 1948 جرّاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، قرابة 135 صفحة. وتتعدد أصواته بين الذاتية الغنائية، والسردية القصصية والمسرحية، والملحمية الأسطورية، ويفتح أبواب التناص واسعة مع المقدس الديني، والموروث الشعري والثقافي الإنساني، خصوصًا "الإلياذة" المنسوبة إلى هوميروس، والتي يُحال إليها الاشتقاق الدال للفظة "فلسطينياذا". 

كما تتنوع الإيقاعات الموسيقية الظاهرة أو التفاعيل الخليلية في نص العامري، المولود في قرية وقاص، والذي عاش طفولته في قرية القليعات الحدودية في وادي الأردن. وتتراوح هذه الإيقاعات علوًّا وخفوتًا بين مقطع وآخر، بحسب درجة حدّة النبرات، وطبيعة المواقف والأحداث، وعناصر المشهد ومفرداته وصراعاته وأجوائه وطقوسه النفسية، وغيرها من أبجديات المعالجة الشعرية المركّبة، بوجهيها: الصوتي المسموع، والبصري المقروء. 

في "فلسطينياذا" علي العامري، يمضي صاحب المجموعات الشعرية "هذي حدوسي.. هذي يدي المبهمة"، و"كسوف أبيض"، و"خيط مسحور"، صوب تأصيل الواقع الفلسطيني الحاضر وترسيمه مستقبليًّا وفق إرادة نصر قادم لا محالة، وذلك بالاستناد إلى معطيات ماضٍ جهادي بطولي على مر الأجيال، يهزم الموت بمبدأ يقول بأن الشهيد حيّ "مات جدّي وفي ساقه تستقرّ الرصاصة شاهدة في الزمان على نيزك في المكان".

ويبدو هذا التصور الواثق كاشفًا عن ذاته بوضوح منذ عبارة الإهداء "إلى جدّي وأبي وأمي، الذين علموني حكمة الأشجار". وعلى امتداد النص، يأتي هذا التشبث بالأرض والتمسك بالفكرة وتنسّم ريح الانتصار بمثابة حقيقة لا تتبدل أبدًا، بل هي حقيقة بأصالة الوجود وقوة المعتقد الديني الراسخ "كنا نلملم خبزنا والذكريات، نلمّ ظل البيت معْ ظل الحصان وبيدر القمح المذهّب، معْ رفيف الريش واللهجات/ جدّي يجاهر في الصلاة أمامنا: لا أرض إلا أرضنا/ والقش ينعس كلما هبّ النسيم على الرحى/ تمشي بحيرات على تلّ هنا، يرتاح صلصال قديم في المغارة، بينما في الصبح منديل يطير إلى الرعاة".

إنها سلسلة الوقائع النضالية الحقيقية، الثابتة في السجلات الفلسطينية، التي ليس بإمكان العدو رشقها بالزيف والتحريف. وهي في الوقت نفسه حكايات أرض الدحنون، وسيرتها الشعبية المرويّة بالألسنة، المنقوشة في الذاكرة، المتعمقة في القلوب، التي "يتسلمها الحاضر عبر بريد الماضي". ففي هذه البقعة السحرية من العالم "ضوء منحوت في كهف"، و"ضوء مغزول في المنديل"، و"ضوء معقود في الثوب المرقوم"، و"ضوء محفور في خشب الباب"

وفي هذه المساحة الخالدة من الوجود أو "فلسطين التي في دفتر التاريخ والجغرافيا"، هناك دائمًا تاريخ خالد لا تهترئ صفحاته، لأن في كل سطر من سطوره يتراصّ "جندي مجهول، وفدائي مجهول"، وتقف فدائيات مع الفدائيين جنبًا إلى جنب لصوغ معنى الحياة في عاصمة المعنى "حفيدات الملكات الكنعانيات سماوات في هذي الأرض، حفيدات الكنعانيات فدائيات ينثرن شموسًا في الطرقات، ويرفعن علامة نصر في القدس، العاصمة الأبدية للمعنى".

ويبدو الفعل الفلسطيني المتمرد، المتجاوز للجمود واليأس والقوانين المفروضة، منصرفًا إلى أفعال الحياة كلها في نص العامري المركّب. فالبطولة الفلسطينية هي القدرة على فعل كل شيء تقريبًا، رغم الحصار الشامل أو المطلق تقريبًا "هذا العالم أعمى/ هذي طروادة عصر أعمى". وتستوي هنا الأفعال البطولية الخارقة، ومواجهة القذائف والمدافع والرصاص بالحجارة والصدور العارية، والممارسات الاعتيادية اليومية في بيوت المواطنين وحقولهم ومتاجرهم وورشهم. وهي الممارسات التي تعني أنه لا مكان في فلسطين للخوف، ولا مجال للارتباك "كنا قد تركنا في الظلال ظلالنا، وخيوط كتّان، كؤوس الشاي بالنعناع، طيّاراتنا الورقية الأولى، التي كنا نطيّرها بعيدًا في الهواء، لكي ترى ما لا نرى".

وتتيح هذه الرؤية البعيدة المدى لمفاهيم الصمود والبقاء والثورة والكرامة والبطولة والنصر والتحرر إمكانية تحقيق المزج الفني السلس بين الأنساق والأصوات الشعرية المتعددة، والجمع الانسيابي بين مشاهد الحياة ومواقفها الطبيعية المتنوعة، وتكوين جمل مفيدة تضم الأسماء الحقيقية للعاديين والأسماء الحركية للمحاربين والأسماء الحُسنى للإله، معًا في سياق واحد. ويتأتى إبراز ذلك كله من خلال تخليق كادرات واسعة ولقطات تصويرية بانورامية، تشع تفاؤلًا وحميمية ودفئًا ومؤانسة، وتستوعب ببساطة الحركات المتناغمة لفصائل الشعب في جبهات الواقع الحيوية المتوازية والمتشابكة والمتدفقة والخصيبة "كنا نسينا طاسة للطبخ فوق النار، لحظة غارة جوية في الحرب/ طائرة رمت نارًا على حقل السنابل في القُليعات الوديعة/ والسماء تكسرت مثل الزجاج على بيوت الطين/ .. / كنا على وشك الغمام، وما بكينا لحظة/ جدّي على ظهر الحصان يروح مثل البرق ما بين الحقول ليطمئن على الظلال، يعود مبتسمًا لنا، ويقول: لا تنسوا دروسَ النهر".

ووسط آلاف المعاني التفصيلية في "فلسطينياذا"، التي ترسم ملامح الكينونة الفلسطينية بأناة وتعمق واصطبار كشأن الملاحم الكبرى الزاخمة، وتسجّل كافة الأمكنة ومواضع المعارك وخرائط المدن والقرى والحقول وأسماء البشر والطيور والنباتات ومعالم البيئة الفلسطينية الكاملة، يصير من الجائز في نهاية الأمر تعيين معنى جوهري غائي يمكن تسميته معنى المعاني، أو المعنى المركزي الذي يستقطب نحوه سائر التفريعات. 

وهذا المعنى، بالألف واللام، ينقسم بدوره إلى شقّين متصلين لا ينفصلان، ويمكن اقتناصهما من ثنايا النص الشعري. فالشق الأول، يمكن التمثيل له بـ"هذا المحتل، سيسقط في المحو، يجرجر عتمته المنقوعة بالعار الأعمى". أما الشق الثاني المتمم، فهو ذلك القائل "سوف يعود الضوء إلى أرض الضوء، وإن طال كسوف المبنى".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها