الثلاثاء 2023/11/14

آخر تحديث: 19:10 (بيروت)

نزع الجسد الغزاوي

الثلاثاء 2023/11/14
نزع الجسد الغزاوي
من رسوم الفنانة المصرية سالي سمير
increase حجم الخط decrease

غزة، الأشلاء. الأجساد المطمورة بالركام الذي لا وقود ولا عديد لآليات ترفعه من أجل انتشالها.

المرضى والجرحى واللاجئون في المستشفيات المستهدفة بالقصف الإسرائيلي، يموتون مرتين وثلاثاً وأكثر، ويصابون أضعافاً مضاعفة.

المَواليد الخدّج يُنقلون كلُفافاتٍ صغيرة وهشة وثمينة، من حاضناتهم التي قُطعت عنها الكهرباء وإمدادات الأوكسجين، ولا أحد يعرف كم صمَد منهم على قيد الحياة.

آلاف وآلاف مؤلّفة، ليس فقط من القتلى الأبرياء والمُصابين، نساء وأطفالاً، بل أيضاً ممن يدفنون أحبّة في مقابر جماعية تتسيدها الأرقام بعدما مُحيت مَعالمهم الأولية المُفترض أن تُعرّف بهم، ولعلهم يستدلّون إليهم بملمس شَعر أو حلية، برائحة أو لون بشرة.. كما لو أنها قصاصات من قماشة الجسد، الاجتزاء الذي لا بد أن يثبت لكل، عليه أن يفعل ذلك وإلا ذابت الحصاة الأخيرة التي تسند الخابية.

والآلاف أيضاً من النازحين قسراً، السائرين في الطرق "الآمنة" مؤقتاً، مُحتَمين برايات بيضاء، من دون أن يعني ذلك أنهم سالمون بالضرورة، إلا مَن يصطفيه القدر...

غزة هذه، ليست ضحية إبادة جماعية وعقاب للمدنيين فحسب، مع هَول ما تعنيه هذه الجريمة على الأرض. ففوق ذلك، الغزاويون العُزّل هم أيضاً فريسة فكرة وحشية إضافية، تطبقها ماكينة عسكرية تبلغ من الشراسة مبلغ الانفلات الروبوتي الذي لا رادّ له. هنا نزع للأجساد، لا ينحصر معناه في إنهاء حيوات، أو إسكات تلك الأجساد (بيولوجياً بالموت، أو معنوياً ورمزياً كما هو الحال مع قتل الصحافيين والناشطين واستهداف بيوتهم وعائلاتهم). بل يتجاوز هذا القتل الساحق كله، إلى إفراغ الأجساد من كينونتها الأصل. فصل كل جسد، حياً أو مقتولاً، عن النفس. جَعل كل جسد بلا ذات، قبل القتل وبعده.

هذه حرب تسلب الغزاويين ذواتهم، حينما تُسقط أجسادهم عن الهامش الآدمي، عدداً وتصنيفاً مقصوفاً. مثلما سُلبت حقوقهم التاريخية، وحقوقهم الأساسية المعاصرة، ومثلما يُحرمون من الماء والكهرباء والطعام والأدوية.



القتل والتشريد والحصار، حين يصبح كمّاً ملحمياً، ولا تمييزياً أعمى هكذا، يجرّد الضحية حتى من حقها في جسد ميت، أو جسد لاجئ، جسد مريض، مُصاب أو نازف. جسد يحمل جسداً آخر ويركض به، جسد يطبّب جسداً أو يكفّنه، جسد مضرّج بالثُّكل فيما يُخضّب بالجوع والعطش والألم بالمعنى الأوّلي البدائي للكلمة. جسد له اسم وهوية وشاهد قبر، تاريخه الخاص. جسد له رادع: رادع السن والجندر، العجز والضعف، ورادع الجسد الأعزل إلا من إنسانيته المحضة.


ربما، لذلك، تبدو أحياناً الرسوم التي ينشرها فنانون عن غزة الآن، أكثر بلاغة وتمثيلاً للمقتلة، من صور التلفزيونات في بثها المباشر والتي غالباً ما تساهم في طعن الأجساد الغزاوية بكاميرات لا تموّه ولا تراعي الزوايا الأكثر احتراماً للضحايا، خصوصاً أصغرهم وأكثرهم طراوة، ظنّاً من الإعلام المتعاطف بأنه هكذا ينصفهم. أما رسوم الفنانة المصرية سالي سمير، مثلاً، وهي رسّامة كتب أطفال، فكأنها تعيد إلباس الأرواح أجساداً أخرى من عندها، ليس فقط برسم المرأة والطفل، بل تولّف لذكراهم وذاكرتهم أوعية جديدة من كلماتهم الأيقونية. كلماتهم أجسادهم بعد أجسادهم.

في غزة، فائض الجسد-الضحية، وما يعانيه، وما يشكله ككُتل متراصّة في دريئة صرفة، بلا تبعات أخلاقية أو إنسانية، فردية أو مدنية جماعية،... الفائض الجسماني هذا، بعناصر لحمه ودمه وأطرافه وغضاضته واحتياجاته وعذاباته، هو بالضبط الحالة التي تفضي إلى نزع الجسد عن الجسد، عن حُرمته في ما يكابده، ولو لم يمُت. نزع الجسد عن اسم صاحبه وقصته ووجوده، أي نزع القيمة من الروح، تفتيت معناها بتمزيق قميصها. هذا بعض مما تفعله إسرائيل بالمدنيين الغزاويين، وهو ليس البعض القليل.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها