الأربعاء 2023/10/04

آخر تحديث: 12:28 (بيروت)

مؤتمرات الهامش.. الثقافة الموازية في مصر

الأربعاء 2023/10/04
مؤتمرات الهامش.. الثقافة الموازية في مصر
جانب من المؤتمر
increase حجم الخط decrease
يفرض الواقع الراهن على الحالة المصرية وضعًا استثنائيًّا في ما يخص المشهد الثقافي والفكري والإبداعي، ومقوّمات القوة الناعمة عمومًا. هذا الوضع، تبدو فيه المؤسسة الرسمية المحافظة بإدارتها البيروقراطية السلطوية واستراتيجيتها الشعارية الدعائية وإفرازاتها النمطية ونتاجاتها المكرورة في جهة، والثقافة الموازية البديلة، القائمة على الجهود الفردية والمبادرات الأهلية والمستقلة، في جهة أخرى مُقابِلة.

وليس من قبيل المبالغة القول إن ثقافة الهامش والفعاليات الشعبية الحرة في مصر قد نضجت خلال السنوات القليلة الأخيرة، لا لتستكمل نواقص ثقافة المتن فحسب كما في مجتمعات وحالات أخرى، وإنما لتحل كلية محل ذلك المتن الماضوي الاستنساخي المتآكل، فارضة حضورها الطاغي المتوهج المؤثر كلاعب وحيد في الساحة.

ازدواجية مفرطة
ويكفي اتخاذ الشعر وحده، بجناحيه الإبداعيين؛ الفصيح والعامي، وأنشطته ومؤتمراته ومهرجاناته وجوائزه، مثالًا بارزًا على تلك الازدواجية الثقافية المصرية، وذلك الفصام الكائن بين الثقافة النظامية الأحادية المنغلقة على ذاتها، المتكلسة في أروقة وزارة يديرها الموظفون والمسيّسون والمدجّنون والتابعون والرافضون للتغيير، تكريسًا لما هو مستقر وسائد، والثقافة الأخرى التحررية المستقلة، المشحونة دائمًا بالتمرد والتفجير والتثوير والانفلات، والقادرة على التجديد والتطور، والحريصة على التنوع، والانفتاح على الآخر والتفاعل معه، وإحداث حراك حقيقي يدفع إلى الأمام، ويحطّم القيود البالية، ويتجاوز الدوائر المفروضة والفاسدة.

وتبدو الرؤية الرسمية للشعر انتقائية إقصائية إلى أبعد الحدود، متذرعة بدوافع نخبوية منحازة إلى ثقافة الصالونات المعرفية الانعزالية المتعالية، المنفصلة عن حركة الحياة ولغة العصر. فقصيدة النثر مثلًا، المتحققة فعليًّا منذ أكثر من نصف قرن، لم يفز شعراؤها بجوائز الدولة (التشجيعية، التقديرية، التفوق، الخ) التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة عبر سنوات طويلة إلا مرة واحدة أو مرتين. ويندر اختيار هؤلاء الشعراء المجددين والطليعيين لتمثيل مصر في الملتقيات الدولية الخارجية، ولا يُسمح لنسبة كبيرة منهم بالمشاركة في الفعاليات الرسمية الداخلية، مثل ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي، ومعرض القاهرة الدولي للكتاب، ومعرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب، وغيرها.


ولا تتحمس الجهات الثقافية الرسمية الحماس الكافي لإقامة مؤتمرات شعر العامية باللهجة المصرية الدارجة، بل إنها عمدت منذ شهور قليلة إلى محاربة إقامة مؤتمر شعبي مستقل حول "شعر العامية" بحضور مئات الشعراء من المحافظات والأقاليم المختلفة، وأوصدت أبوابها ومنابرها وهيئاتها في وجهه أملًا في إلغائه وسحقه. ولولا مثابرة منظّميه من الشعراء والنقّاد الذين قاوموا التهديد بالمقاضاة وآليات القمع المختلفة، لتعرض المؤتمر للإيقاف الدائم. 

وتُجسّد الكرنفالات الرسمية المعنيّة بالشعر المعنى الكامل للرجعية والكساد والمركزية المتوهَّمة البائسة، وذلك بقائمة الأسماء الثابتة المحفوظة المرضيّ عنها، ومحاور النقاش المقتولة بحثًا، والهيمنة الأبوية لجيل الستينيات وشعراء القصيدة النسقية الوظيفية، وعلى رأسهم أحمد عبد المعطي حجازي مقرر "لجنة الشعر" الأسبق في المجلس الأعلى للثقافة، وهو صاحب الوصف الهزلي لقصيدة النثر بأنها "قصيدة ناقصة" في كتابه ''القصيدة الخرساء''، الذي لقي سخرية واسعة من المنتقدين على امتداد خريطة  الوطن العربي. كما أنه ذاته الشاعر الذي "منح نفسه" جائزة ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي عام 2009، حين كان مقررًا للملتقى، في واقعة كارثية يصعب تصديقها!

إرهاصات فاعلة
وعلى الجانب الآخر، فإن ثقافة الهامش الفاعلة (التي صارت متنًا) تؤتي أكلها المثمر، بنتاجاتها الإبداعية الخصيبة، ومؤتمراتها وملتقياتها ومهرجاناتها التي تتنفس حرية في الهواء الطلق، رافضة الوصاية الفوقية والمسارات الجامدة والذهنيات الجاهزة، ومنتصرة لأصالة الإبداع وتلقائيته وقدرته على مخاطبة الجمهور والتلاحم الحي معه وإشباع احتياجاته وذائقته الجمالية. ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في الدورات المتتالية من "مؤتمر شعر العامية"، و"مهرجان طنطا الدولي للشعر"، و"مؤتمر قصيدة النثر"، وغيرها من الإرهاصات المستقلة والأهلية في الحقل الشعري الثري تحت مظلة فكرة أن "الشعر للجميع"، ويجب أن يبقى للجميع... وفي هذا الإطار، اختتمت منذ أيام قليلة في سبتمبر/أيلول 2023 فعاليات الدورة السابعة من "مؤتمر قصيدة النثر المصرية" تحت شعار "في الإبداع متسع للجميع.. خمسون عامًا من التدفق". وهو المؤتمر الذي انعقدت معظم دوراته السابقة في "أتيليه القاهرة – جماعة المثقفين والكتّاب"، في حين أقيمت دورة هذا العام بمقر "بيت السناري" الأثري في القاهرة، وهي خطوة جيدة أن تدار فعاليات شعرية أهلية مستقلة على هذا النحو في مكان يتبع قطاع التواصل الثقافي بمكتبة الإسكندرية. 

وقد تنوع برنامج مؤتمر قصيدة النثر بين ثلاث أمسيات شعرية، ومجموعة من الجلسات البحثية والنقدية  حول قضايا الشعر المعاصر، والأساليب والتقنيات الخاصة بالقصيدة النثرية. كما أصدر المؤتمر "أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية" تحت عنوان "ينابيع تصنع نهرًا"، وتشتمل على نصوص الشعراء المشاركين في المؤتمر، إلى جانب مجموعة من الأبحاث والدراسات النقدية.

رهان الاستمرارية
وعن استمرارية "مؤتمر قصيدة النثر" ونجاحه في استيعاب عشرات الأسماء من الشعراء والشاعرات من أجيال متعاقبة، وسط حضور لائق من الجمهور ومحبّي الشعر، يوضح الشاعر عادل جلال مؤسس المؤتمر ومنسقه العام في حديثه لـ"المدن" أن المؤتمر قد "كسب رهانه بالبقاء والاستمرارية رغم كل الظروف، ساعيًا إلى الالتزام بالحياد والشفافية في التعامل مع الشعراء والشاعرات والنقاد".

ويؤكد عادل جلال "حرص المؤتمر على الوصول إلى الإبداع الحقيقي والمبدعين المصريين والعرب في كل مكان، والاهتمام بالأصوات الشابة اهتمامًا كبيرًا لا يقل عن الاهتمام بالأصوات الراسخة". ويرى أن "دعم هذه الأصوات الجديدة قد جعل دماء المؤتمر متجددة سنويًّا وممتدة لكل مكان في مصر، إلى جانب ضيوف الشرف من الشعراء العرب في دورات سابقة". أما سر نجاح المؤتمر فهو "العمل الدائم طوال العام، والتخطيط العملي لعدة دورات مقبلة، حيث جرى الانتهاء مثلًا من الترتيب لدورتي عامي 2024، و2025، وذلك على الرغم من الإمكانات البسيطة التي يعمل بها القائمون على المؤتمر".

القبض على النار
ويوضح الشاعر عمر شهريار، عضو اللجنة العليا المنظمة لمؤتمر قصيدة النثر، أنه ربما يبدو الرقم سبعة سهلًا لمن ينظر من الخارج، ويرى أن إقامة سبع دورات من مؤتمر مستقل تمامًا هو أمر متاح وفي المتناول "لكن صعوباته يدركها من يقبض على النار بيديه بكل محبة، ويعاني في تكوين صيغة ما لكل دورة، وأن يكون المؤتمر كل عام معبرًا بأكبر قدر ممكن، في حدود الإمكانات والقدرات، عن تنوع مشهد قصيدة النثر المدهش والمتسع، والعصي على الإلمام به".


وعلى مدار الدورات كلها، كما يوضح شهريار، وبعيدًا عن فعاليات المؤتمر نفسها في الأيام الثلاثة "كان أكثر ما يشغلنا هو الأنطولوجيا، التي نضيف فيها كل عام جزءًا، نقدم فيه جانبًا جديدًا من المشهد الشعري لقصيدة النثر". ويضيف "ربما لو نظر أحدهم، من بعيد، لدورة واحدة، وجزء واحد، لرأى أنها ينقصها الكثير، لكن لو رأى الأمر في شموليته، ونظر إلى أسماء الشعراء الذين شاركوا في كل الدورات، ووضع كل أجزاء الأنطولوجيا إلى جوار بعضها البعض، لعرف أنها تلم بأكبر قدر ممكن من مشهد قصيدة النثر في مصر، وفي عدد من الدول العربية التي حلت ضيوف شرف في الدورات السابقة".

وكان الهدف من البداية "أن تصبح الأنطولوجيا موسوعة شاملة في أجزاء متعددة لقصيدة النثر المصرية، تجمع كل رموزها وأجيالها واتجاهاتها، دون أحكام مسبقة أو تمييز، لتكون متاحة لمن يريد أن يعرف طبيعة هذا المشهد، من الباحثين والنقاد والشعراء من الأجيال القادمة". ويستطرد شهريار "هي ليست أنطولوجيا مصنوعة وفق ذائقتنا أو ما نحبه من الشعر، بل حاولنا أن نتقصى فيها أكبر قدر ممكن من الموضوعية والإتاحة. أما تقييم الأصوات الموجودة أو تصنيفها إلى طبقات مثلًا، فهو دور القارئ، سواء كان باحثًا أو شاعرًا أو متذوقًا، فنحن نضع أمامه المشهد بكل ثرائه، وربما عثراته، وليتلقاه هو كيفما يشاء، ونطمح أن نواصل في السنوات المقبلة تقديم أجزاء أخرى جديدة من المشهد الكبير والثري".

وإن هذا الطموح الهادئ، المتدرج، الذي يسعى المؤتمر إلى استكماله والإضافة له عامًا بعد الآخر، يقول عمر شهريار، هو "جزء من أهمية العمل الثقافي المستقل، البعيد عن الكرنفالات الرسمية. فأظن مثلًا أنه لا توجد مؤسسة رسمية ثقافية أو أكاديمية، اهتمت بتقديم موسوعة عن قصيدة النثر المصرية، وكل الأنطولوجيات السابقة كانت بمجهودات شعراء أفراد، وإن حكمت بعضها الأهواء وتفعيل الذائقة الشخصية بإقصاء كثيرين وعدم الاعتداد بهم كشعراء".

معاناة القصيدة الجديدة
ومن جانبها، تشير الكاتبة هناء نصير، عضوة اللجنة العليا المنظمة للمؤتمر، إلى أنه كما يوضح عنوان هذه الدورة من المؤتمر "قصيدة النثر.. خمسون عامًا من التدفق"، فهناك سعي إلى ترصّد هذا التدفق الجليل، الجميل والقبيح في قصيدة النثر المصرية. وإن طموح المؤتمر هو تقييم المشهد الشعري منذ البدايات المعروفة لكتابة قصيدة النثر. ولذلك، يحرص المؤتمر على الجانب البحثي، وتقديم دراسات نقدية، نظرية وتطبيقية، تلقي الضوء على المشهد الشعري والتجارب الشعرية المختلفة.

وتوضح هناء نصير في حديثها لـ"المدن" أن قصيدة النثر ما زالت تعاني من تجاهل على الصعيد المؤسسي الرسمي، إن لم يكن عداءً، وتقول "لقد أصبح من المتعارف عليه أن العمل الثقافي العام في مصر لا يستمر، ولذلك نحرص على استمرارية هذا المؤتمر الأهلي سنويًّا، ولم نتوقف سوى بسبب تداعيات وباء كورونا. ونحرص على تقديم أصوات شعرية جديدة كل عام، إلى جوار الشعراء المتحققين. ولقد ضمت الأنطولوجيا التي أعدها المؤتمر قصائد خمسة وثلاثين شاعرًا وشاعرة، منهم من يشاركون في المؤتمر للمرة الأولى، إلى جانب نشر الأوراق البحثية للنقاد في كتاب مستقل".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها