(عميرة هاس:الكتل الاستيطانية اليهودية مسمار في نعش الدولة الفلسطينية المجاورة)
عميرة هاس، اليهودية الطيّبة، ابنة لأبوين نجيا من المحرقة النازية، قدّمت في كتابها وصفاً مفصلاً لما كان يحدث في التسعينيات في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة. الوصف الذي تورده عن أوضاع غزة في أواخر القرن الماضي مفيد وكاشف ولا يتطلّب أي تعليقات إلا لبيان أن ما حدث بعد انسحاب إسرائيل من القطاع في 2005 وما تلاه من حصارها الكامل له ليس سوى استكمال لنهج استعماري إحلالي يستهدف في المقام الأول حملَ الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال إلى الكُفر بالحياة ودفعهم دفعاً نحو الموت. ولهذا أنقل مقتطفات من خاتمة كتابها المهمّ:
"[...] بحلول العام 1996، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في غزة بنسبة 37 بالمائة منذ العام 1992؛ انخفض إجمالي الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 18.5 في المئة. وفي ستة أشهر ارتفعت نسبة البطالة بنسبة 8.2% لتصل إلى 39.2%. وشهد سكان غزة الذين كانوا محظوظين بما فيه الكفاية للعمل في القطاع انخفاضاً بنسبة 9.6 في المائة في الأجور الحقيقية في العام 1995. وخسر أولئك الذين عملوا في إسرائيل 16 في المائة من أجورهم. ومما لا شك فيه أن سياسة الإغلاق الإسرائيلية هي المسؤولة عن هذه الأعداد المروّعة. ومن الصعب تخيُّل أن صنّاع القرار في إسرائيل لم يدركوا العواقب الحتمية المترتبة على فرض ما يعتبر في الواقع حصاراً دام سنوات طويلة. وكما رأينا، فإن إسرائيل تفسّر عمليات الإغلاق ببساطة باعتبارها ردّ فعل لا مفرّ منه على الإرهاب وباعتبارها الطريقة الوحيدة لمنع المزيد من الهجمات. لكن التحليل الدقيق لهذه السياسة وعواقبها - إلى جانب التدابير الإسرائيلية الأخرى المتخذة في سياق اتفاقيات أوسلو، مثل إغلاق طريق المرور الآمن بين غزة والضفة الغربية - يشير إلى فهم مختلف لعمليات الإغلاق".
"[...] بدأت الحكومة [الإسرائيلية] في تنفيذ خطة قديمة لربط مستوطنات الضفة الغربية بإسرائيل من خلال شبكة من الطرق السريعة. وفي اللغة الجديدة لأوسلو، أصبحت هذه الطرق "طرقاً التفافية"؛ قطع إسفلتية واسعة وعالية السرعة من شأنها، كما تقول إسرائيل، أن تضمن سلامة وحرية حركة المستوطنين اليهود. وقد أدّى مشروع البناء الضخم هذا إلى مصادرة وتدمير آلاف الهكتارات من الأراضي الفلسطينية المزروعة، وغيّر إلى الأبد النسيجَ الطبيعي الذي يربط بين مدن وقرى الضفة الغربية. وقد تمّ الحصول على الموافقة الفلسطينية بسهولة، ويبدو أن الطرق الفرعية صُمّمت لزيادة نجاح المرحلة المؤقتة، وحماية المستوطنين اليهود، وبالتالي السماح لجميع الأطراف بالوصول إلى طاولة المفاوضات دون الكثير من الحدّة".
"إن شبكة الطرق الثانوية، التي تكلّف بناؤها مليارات الشواكل، حصرياً لاحتياجات الأقلية اليهودية الصغيرة، ستلعب دوراً هاماً في مفاوضات إسرائيل حول الاحتفاظ بالأراضي. ومن يستثمر ثروة في الطرق لا ينوي تفكيك المجتمعات التي تستخدمها. علاوة على ذلك، فإن هذه الشبكة، التي تضمن للمستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة شريان حياة آمن وسريع لإسرائيل، أُنشئِت في الوقت ذاته الذي فُرضت فيه قيود أكبر على حرية حركة الفلسطينيين".
"صحيح أنه منذ العام 1994، أصبحت المزيد من الأراضي خاضعة للسلطة الفلسطينية، ولكن الكتل الاستيطانية اليهودية وخليط الطرق الجديدة هي في الواقع مسمار في نعش الدولة الفلسطينية المجاورة، أياً كان شكلها. هذه الجغرافيا الجديدة تعني أن المجتمع الفلسطيني سيتجزّأ ويتقسّم إلى جيوب معزولة؛ حجم هذه الجيوب وقربها لم يتحدّد بعد، وسيتم تحديدهما من خلال قوة الموقف التفاوضي للفلسطينيين، لكن التنقّل بين الجيوب سيتطلّب دائماً المرور بحواجز طرق ونقاط تفتيش يحرسها جنود إسرائيليون. وفي الضفة الغربية، تضرّرت الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالفعل بسبب تجزئة المنطقة، وخاصة بسبب فصل الشمال والجنوب إلى منطقتين منعزلتين. ولكن بالنسبة للنموذج الحقيقي للمستقبل، فلا يحتاج المرء للنظر أبعد من قطاع غزة، ذلك الجيب المطوّق البالغة مساحته 147 ميلاً مربعاً".
أهدي هذه المقاطع من كتابات أشيل مبيمبي وعميرة هاس إلى جميع الأشخاص الذين، على الرغم من إدعائهم الإيمان بالديمقراطية ومناهضة للعنصرية، ينظرون بتعاطف إلى تصرفات دولة الاحتلال الإسرائيلي أو يستنكرون ما يسمّونه "خفوت الأصوات الغربية الداعمة لإسرائيل"، أو حتى من العائشين بيننا في منطقتنا يرطنون ويلوكون كلاماً خائباً وقاصراً عن مسؤولية "حماس" أو رعونتها أو ما شابه. ما تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين هو أنجح أشكال سياسات الإماتة، في حين لا يزال الخطاب الغربي ثابتاً على التعسكر في الجانب الإسرائيلي و"مواساتها" بحجة حقّها في الدفاع عن نفسها، معطوفاً على الاستقواء بعقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود، مثلما لحسابات سياسية في استحقاقات إنتخابية مرتقبة، أو اندماجاً في استقطاب عالمي متعدد الأسباب والدوافع. عماء إنساني وانحطاط أخلاقي يكشفان ما وصل إليه حال العالم "المتحضّر" و"الحرّ" إذ يتبنّى ويدافع عن أحقر كيان سياسي عرفه العالم الحديث.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها