السبت 2023/10/14

آخر تحديث: 13:49 (بيروت)

"2077".. معالجة فلسطينية ألمانية لخريطة المستقبل

السبت 2023/10/14
increase حجم الخط decrease
يسعى عرض "2077" الفلسطيني/ الألماني، إلى الانتماء إلى المستقبل على جميع المستويات، ويمارس التحليق الافتراضي في خريطة هذا الفضاء الزمني الآتي، بأكثر من جناح. وهو ينطلق في حركته من مساحة الواقع الراهن المعيش بطبيعة الحال، لكنْ ليس باعتبار هذه المساحة الحقيقية أرضًا ثابتة نهائية، وإنما باعتبارها منصة للانفلات والتحوّل واستشراف ما هو قادم في الغد غير البعيد. 
 
ولقد استحق العمل المسرحي المونودرامي "2077"، من بطولة الفنان الفلسطيني إميل سابا وإخراج الألماني سيمون إيفيلر، شهادة التميز من مهرجان "أيام القاهرة الدولي للمونودراما" في دورته السادسة (أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، حيث جرى عرضه على مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية، ونال استحسان الحضور. 

وتنافست على جوائز المسابقة الرسمية للمهرجان، عروض مونودرامية متنوعة، من مصر وتونس والجزائر والعراق والكويت والإمارات والسودان وفلسطين وإيطاليا والأرجنتين وألمانيا وفرنسا وجورجيا. وانعقد المهرجان المصري تحت شعار "القاهرة عاصمة المونودراما"، برئاسة المخرج الدكتور أسامة رؤوف. وتشكلت اللجنة العليا من الفنانين إيهاب فهمي، لطفي لبيب، صفية العمري، لقاء الخميسي، في حين تكوّنت لجنة التحكيم من: محمد أبو داود من مصر، باسم قهار من العراق، مروة قرعوني من لبنان.

يستمد عرض "2077" مقوّمات اختلافه وتميزه وتجاوزه للسائد من ذلك الرهان الذي يعقده على الخروج من اللحظة الحالية صوب آفاق تخييلية تتجلى فيها صورة بانورامية لما سيكون عليه عالمنا في عام 2077 الميلادي. وينخرط العرض بكل ما يحمله من معطيات وشحنات في رسم ملامح هذا المستقبل القريب وخصائصه وشعاراته وقوانينه وتفاصيله، من جهة.

كما أن العرض، من جهة أخرى، يمضي نحو التماهي مع هذا المستقبل ومنجزاته وتطبيقاته المذهلة، ليبدو ذاته وكأنه عرض تَصَوُّري سيجري إنتاجه أيضًا في عام 2077! وفي سبيل الإيحاء بذلك الأمر، يحفل العرض بكل ما هو تجريبي ومبتكر وتثويري ومتمرد، من حيث الفكرة والنص والمحتوى والمعالجة والأداء التمثيلي والحركي والجسدي والإخراج والسينوغرافيا، وسائر عناصر العمل الفني ومفرداته وآلياته المتقدمة المنسجمة مع بعضها البعض، والمتسقة مع الحالة الطقسية والشعورية والذهنية التي يبلورها العرض.

في إطار سرديات الممثل الواحد، وحواراته الأحادية مع ذاته، وذكرياته الشخصية، وحكاياته عن علاقاته مع الآخرين من حوله، وفق قواعد المونودراما في تخليق الأحداث وتشبيكها، تشق مسرحية "2077" نافذة ضوئية إلى ذلك الوجود الآتي المرعب. وهو ذلك الوجود، الذي سيقل فيه حتمًا الاعتماد على البشر إلى أدنى درجة، ويتفوق الذكاء الاصطناعي إلى أقصى حد، وتضطلع الروبوتات بمهام تحكمية وتخطيطية وإنتاجية واسعة، غير مسبوقة. 

وسيصاحب ذلك كله، تفاقم حدة الصراع الشرس بين الإنسان والآلة، وهو صراع تميل نتائجه يومًا بعد يوم إلى صالح الماكينة المتوحشة. وفي لحظة ما، سيزداد المشهد قتامة، ويصير قرار استمرار الآدميين في ممارسة هذه الحياة الممسوخة معلقًا وضبابيًّا، وذلك في ظل الهزيمة، والانكسار، والتضاؤل، والتلاشي التدريجي الممنهج "من يريد البقاء؟ من سيكمل الحياة؛ نحن البشر، أم الكائنات الجديدة التي نصنعها؟!".

تجسّد المسرحية، التي تمزج العربية الفصحى بالمحلية الفلسطينية الدارجة، محطات متفرقة من رحلة محقق شرطة، يتصدى خلالها لفك شفرات الكثير من القضايا الملتبسة، وشديدة الغموض، التي تتضمن عادة حالات غياب واختطاف وتعذيب، ومحاولات قتل، وما إلى ذلك. ويتقمص المحقق في استقصاءاته ومطارداته المثيرة، ذات الطابع البوليسي اللاهث، أكثر من وجه. فإلى جانب شخصيته الأصلية كمحقق، هو أيضًا رجل بوليس آخر يختفي في ظروف غريبة معقدة، لا يفلح أحدٌ في تفسيرها. وهو كذلك صيغة مهندسة من ذلك الشخص المسمّى "آدم"، الذي يمثّل باكورة الإصدار الجديد المعدّل من البشرية. 

وهذا الإصدار البشري المعدل هو جيل الروبوتات المصنعة بتقنية الذكاء الاصطناعي، ويتطابق ذلك الروبوت مع الإنسان من حيث الشكل المتماثل، ولا يخضع لأية سيطرة برمجية من جانب البشر الذين فقدوا سيطرتهم عليه، فيتصرف من تلقاء ذاته وفق برنامجة الشخصي الذي يدير به ذاته، وهنا تبدو الكارثة الكونية محتملة في أية لحظة.

ويتمادى العرض الفانتازي في قراءة تغيرات العالم الآلي الجديد، ورصد تأثيرات الذكاء الاصطناعي على كل ما يدور فوق الكوكب الذي تستعمره الماكينات. ومن هذه التمظهرات، إنشاء جدار عازل ضخم للفصل بين منطقتين، بحيث يعاني المقيمون في المنطقة الأولى داخل الجدار من القيد والألم والبؤس والجوع والحرمان، في حين ينعم المقيمون في المنطقة الثانية خارج الأسوار بالرفاهية والتكنولوجيا الحديثة والحياة الخالية من العوائق والمنغصّات.

ولقد خاض المحقق عشرات القضايا التي أخفق في معظمها، لكنه ينجح في قضيته الأخطر، إذ يتمكن من اكتشاف الجيل المقبل للبشرية، جيل الروبوتات. ويمضي هذا الجيل في ممارسة سطوته وقسوته، فيتخذ قرارًا بإبادة الجميع. وهنا، تلجأ المليارديرة إليزابيث إلى اختطاف المحقق، لتطلب منه المساعدة في العثور على آدم، مخترع النسخة البشرية المدمِّرة، لإنقاذ الآدميين من الفناء. ويتضح أنها كانت من أؤلئك المساهمين في مشروع تصنيع أبناء الذكاء الاصطناعي، ويستجيب المحقق لطلبها، للبحث عن آدم، الذي تدّعي السيدة أنه ابنها الغائب المفقود. 

ورغم انحياز العرض إلى فكرة انتصار الماكينات على البشر، فإن الصراع بين المحقق وآدم لا ينفك يفسح الأمل الخافت في إمكانية أن يفعل المحقق شيئًا يستحق الثناء. ويظهر ذلك من خلال الثقة الكبيرة التي توليها المليارديرة إليزابيث للمحقق، ومحاولاتها المتكررة إقناعه بأن يتولى مهمة البحث عن آدم، قائلة له "آدم هرب وراء الشيطان. عيّنتُ كل المحققين ليجدوه، فقتلهم كلهم ما عدا أنتَ. ذكاؤه سيزيد، ولن يمكن إيقافه. ربما يصير أفضل ما للبشرية، أو أسوأ ما لها، وقد يكون آخر شيء للبشرية. ساعدنا أيها المحقق كي يرجع آدم لنا. اجعل ولاءك لنا، وستكون مكافأتك كبيرة!".  

وبإسدال ستار الختام على ظلام دامس ينطوي على توجيه تحية الوداع المتبادلة بين المحقق وآدم معًا، تظل النهاية مفتوحة، وإن كانت ملوّنة بالاسوداد الناجم عن جثوم كارثة الروبوتات والذكاء الاصطناعي فوق الأرض بغير رجعة ولا تراجع عن هذا المصير البائس للبشرية، الأمر الذي يقلل احتمالات النجاة أو الهرب من الخطر الكابوسي المتمدد الذي أفرزته التكنولوجيا الخبيثة. 

ومما يُحسب للعرض المونودرامي "2077"، أنه إلى جانب جاذبية الفكرة والمحتوى والتصاعد الدرامي المحبوك للعرض، فإنه يقدّم على صعيد الرؤية الفنية والمعالجة والأداء جماليات إبداعية متناغمة، فائقة الحساسية والرهافة، فضلًا عن الحضور التقني ولوازم الإثارة والإبهار وفق تجهيزات المسرح العصري الحديث ومؤثراته المتكاملة.

وتنصهر عناصر العرض ومفرداته جميعها في سياق واحد متآلف، فالسينوغرافيا تعكس أجواء الغموض والتحقيقات البوليسية والصراعات المتفجرة، من خلال ذلك التضاد بين الظلام المطبق، وأضواء كشّاف المحقق المكثفة. كما يؤدي كرسي الاعتراف وسط العلبة المسرحية أدوارًا مركّبة كمكان لإجراء جلسات التحقيق، واستدعاء الذكريات والمونولوجات الذاتية والحوارات مع الآخرين، وغير ذلك. وتغلّف الموسيقى والإيقاعات المشاهد كلها بالمزيد من التشويق والصبغة الضبابية التي تضفي سخونة وتوترًا على الأحداث المتنامية.

وتلتحم براعة الأداء التمثيلي للفنان إميل سابا، بقدرته على تقمص أكثر من شخصية في الإطار المونولوجي الصعب، وامتلاكه مهارات الأداء الحركي والجسدي والإشاري خصوصًا في مواقف الاختطاف والمطاردات، وتمكنه من النطق اللغوي الواضح والمعبّر، بالفصحى والعامية معًا، بسلامة وسلاسة وعدم تكلف. ورغم صعوبة السيناريو وعمق الفكرة وتعدد طبقاتها، فإن ذكاء الإخراج وتركيز السينوغرافيا وتلقائية الأداء التمثيلي وراء وصول النص إلى المتلقي من أقصر الطرق، وإحداثه التأثير المطلوب، عقليًّا ووجدانيًّا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها