الأحد 2023/01/08

آخر تحديث: 09:49 (بيروت)

عن الاقتصاد والسياسة والحرّيّة: دروس العام المنصرم

الأحد 2023/01/08
عن الاقتصاد والسياسة والحرّيّة: دروس العام المنصرم
نساء ايران (غيتي)
increase حجم الخط decrease
سيدخل العام 2022 التاريخ بوصفه العام الذي اندلعت فيه الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة بعدما قرّر فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا. الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه الحرب هو أنّ الاقتصاد المتوازن غير كاف لتفادي الحروب. روسيا كانت الشريك الاقتصاديّ المدلّل لأوروبّا الموحّدة. غضّت هذه الطرف حين كان بوتين يخوض حروبه في الشيشان ويقتطع جزءاً من جورجيا. ثمّ دفن الغرب برمّته رأسه في التراب حين «استعاد» القيصر الجديد شبه جزيرة القرم وأرسل سفنه وطائراته إلى الأبيض المتوسّط، حتّى إنّ الأميركيّ سهّل له عبور البوسفور كي يصل إلى المياه الدافئة على جناح السرعة. وحين أسلم بوتين الأرمن لسيف الآذريّين، كان الأوروبيّون يتفرّجون وبعضهم لا يفقه ماذا يجري. لقد اختاروا العار، بكلمات تشرشل العظيم، ولم يحصدوا سوى الحرب. غزو أوكرانيا كان، بالدرجة الأولى، ثمرة أخطاء متراكمة في السياسة وفي قراءة احتمالات الجيو-بوليتيك. لكنّ الخطأ الأهمّ كان الاعتقاد أنّه من الممكن منع الحروب عبر مجرّد تمتين الشراكات الاقتصاديّة، وذلك بحجّة أنّ التعقّل الاقتصاديّ أقوى من الجنوح الأرعن إلى الحرب. فالذين يشنّون الحروب غالباً ما تتحكّم فيهم عوامل لا علاقة لها بالحكمة والتعقّل: جنون العظمة، وشبق السيطرة، وغباء التطرّف القوميّ، وتصفية الحسابات مع ما يعتبرونه أخطاء تاريخيّة (انهيار الاتّحاد السوفياتيّ مثلاً)، هذه كلّها عوامل لا علاقة لها بالحكمة التي نستمدّها من العقل، بل بالرغبات المنحرفة المدفونة في سيكولوجيا الأفراد والجماعات. الدرس الأوّل للعام المنصرم، إذاً، هو أنّ المصالح الاقتصاديّة المشتركة لا تحول بالضرورة دون قيام الحروب.


الرأسماليّة التسلّطيّة
في الآونة الأخيرة، قام علماء الاجتماع بنحت مصطلح «الرأسماليّة التسلّطيّة» (authoritarian capitalism). لا يخفى على أحد أنّ المقاربة التقليديّة عبر عقود كانت تتلخّص بأنّ الديمقراطيّة والرأسماليّة صنوان، وذلك بالاستناد إلى خبرة الصراع بين المعسكرين الشيوعيّ والرأسماليّ. لكنّ المفارقة كانت نشوء أنظمة سياسيّة تجمع بين الرأسماليّة المستندة إلى منطق السوق في الاقتصاد والقمع في الحياة السياسيّة. العام الماضي بيّن، بما لا يقبل الجدل، أنّ بعض هذه الأنظمة أصبح لاعباُ أساسيّاً في صناعة السياسة العالميّة. ويعتبر بعضهم أنّ الصين وروسيا وتركيا تندرج اليوم ضمن هذا النموذج. إنّ نقد الرأسماليّة ليس بالأمر الجديد. هذا يجب أن نضيف إليه أنّه من السذاجة الاعتبار أنّ النظام الرأسماليّ يحقّق الديمقراطيّة على نحو آليّ. الدرس الثاني للعام المنصرم، إذاً، هو أنّ الديمقراطيّة ليست بديهيّةً، بل يجب اختراعها والمحافظة عليها والإمعان في حمايتها كلّ يوم. فالرأسماليّة لا تصنع الديمقراطيّة، بل هذه الأخيرة هي بنت عقد اجتماعيّ متوازن يلتقي عليه المواطنون ويعملون معاً على تعزيزه وتحصينه.

مهسا أميني
لقد طبع قيام ثورة من نوع آخر في إيران الثلث الأخير من العام المنصرم. عنوان هذه الثورة كان موت مهسا أميني التي أسقط موتها «شرعيّة» حجابها. لئن كانت الثورة الإيرانيّة التي لم تنتهِ بعد، بمعنًى ما، إعادة إنتاج للربيع العربيّ على أرض فارسيّة، إلّا أنّها تتّسم بطابع فريد من حيث إنّها ثورة أشعلتها امرأة وقادتها النساء عبر تمزيقهنّ الحجب، تلك التي تحجب الرؤوس وتحجب العقول، ورميها فريسةً لألسنة اللهب. لقد كانت النساء في ناصية ثورات الربيع العربيّ، حتّى قيل في لبنان إبّان الثورة التشرينيّة اللاعنفيّة المجيدة إنّ «الثورة أنثى». لكنّ الثورة الإيرانيّة تخاض اليوم بأجندة نسائيّة إذا جاز التعبير، لا لأنّ مضمونها ينحصر بالنساء (حاشا)، بل لأنّ النساء هنّ المؤتمنات على الحياة. تعرف المنظومات الدينيّة الإيديولوجيّة أنّ استمرارها يستدعي إسكات النساء وقمعهنّ وإذلالهنّ. فطاقة الحياة الكامنة في المرأة هي نقيض التنميط الإيديولوجيّ الذي تحتمي به الذكوريّة في الدين والسياسة والاجتماع، والذي يفترض الانصياع ولا يحبّ المساءلة. لا فرق في هذا بين الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة وسائر الأديان الأخرى. فالإيديولوجيا واحدة حين يسكت النقد حتّى لو اتّخذت وجوهاً شتّى. ومن ثمّ، يصبح شعار «امرأة، حياة، حرّيّة» اختصاراً لتوق مجتمع برمّته إلى الحياة والحرَيّة بعدما اضمحلّت الحرّيّة وتحوّلت الحياة إلى سجن كبير. إنّ الدرس الثالث للعام المنصرم هو أنّ الحرّيّة، أيّها السيّدات والسادة، ليست تفصيلاً في حياتنا كما يحلو لبعضهم أن يتشدّق، بل هي النبراس والشعلة والشمال والبوصلة والمبتدأ والخبر، ومن دونها تنطفئ الشمس ويجفّ الشعر وتفقد الأشياء معانيها.


بهذه الدروس الثلاثة يضع عام أوزاره ويحلّ آخر، لا لشيء إلّا لكي نزداد حكمةً في الاجتماع والسياسة والاقتصاد ونتشبّث بالحرّيّة أكثر فأكثر. وكلّ عام وأنتم بخير…
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها