الإثنين 2023/01/30

آخر تحديث: 22:20 (بيروت)

محمد مظلوم... في وداع الدمشقي البغدادي

الإثنين 2023/01/30
محمد مظلوم... في وداع الدمشقي البغدادي
الشاعر الراحل شوقي بغدادي
increase حجم الخط decrease
منذُ أيَّام واحتمال غياب شوقي بغدادي في هذا الشتاء الدمشقي القاسي، ينتابني.
أعرف أنَّ الرجل يحتضر. وقد تجاوز التسعين، لكن غياب شاعر بقامة أبي طرفة يستحق القلق بل الفزع، لما تُفجعنا به الآلهة يومياً حين لا تخص الأنبياء والأولياء والشعراء بالخلود وتحرمهم الحياة الأبدية. هل أزوره؟ هل أتصل به؟ وأنا الذي صرتُ أسمعه يتحدث منذ سنوات عن بقائه فرداً في شيخوخته بعدما غادر أترابه ورحل أصدقاؤه. بل دأب العام الماضي على تكرار نشر مقطوعة من ثلاثة أبيات ويعيد تنقيحها بأكثر من صياغة في صفحته في فايسبوك تلخص تلك الحال:

أَنَا لَمْ أَزَلْ حَيَّاً فَمَا أَشْقَانِي
               لَكَأَنَّ عِزْرَائيلَ قَدْ صَافَانِي
لَيْسَتْ صَدَاقَتُهُ حَيَاةً تُرْتَجَى
               فَإذِا جُهِلْتُ فَمَا الذي أَبْقَاني؟
كُلُّ الرِّفَاق مَضَوا فَمَا فِي وَحْدَتي
                   إِلَّا الْحَنِيْنُ وَلَوْعَةُ الْوُجْدانِ
وها هو نعيه اليوم يملأ صفحات فيسبوك. 
وها هو يتجه يحنينه نحو الأعالي حيث خلانه وأخدانه.

***
وبغدادي يُعدُّ من الشعراء الذين تكفلوا برثاء أنفسهم بأنفسهم:

      سَأَرْكَبُ هَذَا الْقِطَارَ السَّريعَ
     إِلَى حَيْثُ لا عَوْدةٌ لِلْورَاء
      وَأَمْضِي إِلَى حَيْثَ لا رُعْبَ
      لا ظُلْمَ.. لا جَهْلَ في حُفْرَتِي
      أَو وَبَاءْ
     وَهَذِي مَفَاتِيْحُ بَيْتِي
     وَبُسْتَانُ شَيْخُوخَتِي
     فَاقْطِفُوا مَا تَشَاؤونَ 
      مِنْ شَجَرِ الْكِبْرَياءْ

كان مرهفاً كسيف دمشقي، وزاخراً بالظرف والرقة الشاميين، رغم أنه ولد على الساحل السوري، وما سأكتبه عنه ليس مجرد مرثية، إنها شهادة لتاريخ الأدب العربي بحق أبي طرفة، شهادة لا تبتعد كثيراً عما يسميه البلاغيون "المقام" و"مقتضى الحال" وأن أسهبت في استذكار جوانب من حياتنا نحن العراقيين في دمشق، فلأنّ فيها صورة بهية عن حضور شوقي بغدادي السخي في الكثير من تفاصيل تلك الحياة. فلطالما كرَّرَ أمامي حين نتحدث عن علاقته بالعراقيين المنفيين، أن له جذوراً عراقية تؤكدها كنيته، وبأن أحد أجداده غادر العراق إلى سوريا وربما كان منفياً ومن هنا كنيته (بغدادي).

كان خَدِينَ الأحرار، عروبياً لا قومياً، يَسَارياً وليس شيوعياً، سجين "الوحدة العربية" رغم أنه لم يكن شيوعياً. مدرس الثانوية المتقاعد ومعلم الأجيال الشعرية المنفتح على الجديد، والصامد في مزة دمشق رغم الأهوال.

ظل صديقاً للعراقيين رغم أنَّ له رأياً مختلفاً في بعض خيارات المعارضة، لذلك حين زار العراق قبل الاحتلال الأميركي مع مجموعة من الأدباء السوريين، لم أر الأمر كما نظر إليه آخرون بأنه تأييد للنظام، بل قرأتُ في موقفه تَضَامُناً مع العراق البلاد بمواجهة الغزو الأميركي، انسجاماً مع قناعاته في الانحياز للشعوب لا للحكام.

لقد عاش بـ"أكثر من قلبٍ واحد" وهو عنوان ديوانه الأول الصادر في الخمسينيات.
واللافت أنه عَنْونَ ديوانَهُ الأخير الذي كتبه في شيخوخته بـ"ديوان الفرح".
ديوانه "شيءٌ يخصُّ الروح"، فيه من التأمل والهدوء وصفاء المعمار ودقة العبارة ووضوح الصورة وكثافتها، ما يجعله أقرب الدواوين لقلبي، وأكثرها تمثيلاً لألفة الروح التي يتمتع بها بغدادي.

***
اسم صاحب "رؤيا يوحنا الدمشقي" كان من بين قلة من أسماء الشعراء السوريين التي تحضر في العراق في أجواء سنوات القطيعة السائدة بين البلدين في السبعينات والثمانينات، بينما بدأت علاقتي الشخصية به العام 1991 في مقهى اللاترينا (القنديل) بعدما دعاني الصديق الشاعر فاضل السلطاني، لحضور الحوارات المفتوحة في تلك الزاوية المطوية غير الكحولية عند جهة اليمين المخصصة للأدباء حيث يحتسون القهوة والشاي ويتناقشون في حوار مفتوح يبدأ ما قبل الظهيرة وينفضُّ بتوافد الندامى حين تضاء قناديل (اللاتيرنا) ليمضوا بقية الوقت على طاولات الخمر والسجال. كان شوقي قطب الجلسة هناك مع مجموعة من شيوخ الأدباء السوريين والفلسطينيين آنذاك، وقد غادر معظمهم عالمنا، أتذكر منهم: شكيب الجابري وعبد المعين الملوحي ونذير العظمة وفواز عيد ويوسف اليوسف وبديع حقي وخيري الذهبي وهاني الراهب العائد من الكويت للتو، وسعيد حورانية، ونصر الدين البحرة وعدنان فره جولي وعبد الرحمن الحلبي وزاهد محمد والمترجمان زياد الملا، وتوفيق الأسدي وسواهم. وكان من العراقيين فاضل السلطاني وزوجته غالية قباني ومهدي علي الراضي وجمعة الحلفي، ودأبت على الجلوس بينهم هناك قبل أن يصل "أبو أيوب" في موعد يومي لننتقل إلى طاولات الندامى.

في ذلك المكان كان شوقي بغدادي هو من دعاني لعضوية جمعية الشعر في اتحاد الكتّاب العرب بعد صدور ديواني الثاني (المتأخر-عابراً بين مرايا الشبهات) ولم أكن متحمِّساً تماماً للأمر، لكن في المقابل لم تكن لدي وثيقة سورية وقتها للتحرك داخل سوريا، قبل أن احصل على بطاقة التعريف العراقية من مكتب العمل الوطني. وقد تسهل بطاقة اتحاد الكتّاب العرب حركتي المكوكية في دمشق حتى ساعات الفجر، رغم أنَّ أحداً لم يعترض طريقي مطالباً بوثيقة كما يحدث هذه الأيام. يومها كان القبول في اتحاد الكتاب ليس بالسهولة الحالية: لجان تزكية ولجان ترشيح وقبول وشروط صارمة في الجودة والنوعية الخ. ورغم أن جميع أعضاء تلك اللجان: محمَّد عمران وميخائيل عيد ووليد مشوح وحسين الحموي وعبد القادر الحصني...، كانوا مرحبين بي، لكن شوقي بغدادي كان صاحب القول الفصل. أتذكَّر أن أبا عياد (ميخائيل عيد) صادفني في (اللاتيرنا) وبادرني بالقول: مبروك. لا نستطيع أن نقول شيئاً بعد قول كبيرنا شوقي بغدادي فيك.

خلال عملي في المنتدى الثقافي العراقي وهو نشاط ثقافي عراقي معارض في دمشق. كان يحضر عدداً من الجلسات الثقافية والفكرية والأمسيات الشعرية التي يقيمها لا سيما لمثقفي العراق المقيمين في أوروبا خلال زياراتهم لدمشق، ويثري تلك الجلسات والأمسيات بشهادات وآراء لا تخلو أحياناً من الطرف المعهود لأبي طرفة في التعليق. وذكرياته مع أجيال من المنفيين العراقيين، كالجواهري والبياتي ومظفر النواب، وصولاً إلى منفيي السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.

*** 
بعد احتلال العراق فرَّ إلى دمشق عدد وافر من الأدباء المحسوبين على السلطة أو المؤسسة الثقافية، أو هرباً من الحرب، وصار لهم حضور يومي وفاعل في أنشطة اتحاد الكتّاب العرب وأمسياته، وفي تلك الحقبة انسحبتُ من تلك الأجواء. وخلالها زار دمشق، الروائي الراحل عبد الستار ناصر، وقبل عودته لعمان بيوم، أخبرني أن هناك جلسة احتفالية بتجربة يوسف الصائغ يقيمها اتحاد الكتّاب العرب، في نهاية الأسبوع ولن يتاح له حضورها وتمنَّى عَليَّ حضورها، فأخبرته بأن الأجواء هناك لن تكون مناسبة لي ولا أريد أن التقي بمن نُفينا بسببهم! لكنه ألح عليَّ وبدماثته المعروفة، أن أذهب وألتقي بالصائغ مؤكداً إنه سيكون اللقاء الأخير، وبالأحرى لقاء وداع، لأنَّ الصائغ يحتضر.

ذهبتُ إلى الجلسة النهارية أنا وبعض الأصدقاء من العراقيين، أحدهم كريم الزيدي، وما أن وقفت بباب القاعة وكانت الجلسة على وشك أن تبدأ، حتى بدا لعيني ما كنت أتوقع رؤيته، الكثير من الوجوه التي تحاشيت لقاءها تحتشد هنا الآن. وفي الصف الأول بمواجهة باب القاعة كان يوسف الصائغ يغوص في مقعده متوسطاً شوقي بغدادي على يمينه وعبد الرزاق عبد الواحد على يساره، وببصيرة العارف نهض أبو طرفة مرحباً ومُخلياً كرسيه لي، قائلاً أنه سيجلس على المنصة لتقديم الصائغ بعد قليل. كانت تلك البداهة الإنسانية الشاعرية والفراسة الشامية داعمة لي في تجاهل عبد الرزاق عبد الواحد، كأني لم أره، ومعانقة الصائغ الذي باشر يسألني عن الأحوال ويذكرني سريعاً بنوادر الغائب الحاضر أبو علي (البياتي) كأننا كنا على موعد مسبق.

كان برنامج الجلسة محدداً وفيه شهادة لعبد الرزاق عبد الواحد عن تجربة الصائغ، وما أن نودي ليجلس على المنصة حتى غادرت القاعة مقاطعاَ تلك "الشهادة" ومستأنساً بتدخين سيجارة أو سيجارتين خارج القاعة، فتبعني كريم الزيدي وعدد آخر من العراقيين الحاضرين مقاطعين. وانتظرنا حتى أنهى "شاعر الحروب من القادسية إلى أم المعارك.... الخ"، شهادته، لأعود للجلسة. ومرة أخرى وببصيرة الشاعر العارف، وحذق الشامي، راح أبو طرفة يعقب على خصوصية الشعر العراقي وفكرة المنفى والأجيال فيه، مؤكداً أنه شاهدٌ على منفى عراقي مديد وعتيد وذي شجون وشؤون، داعياً إياي لتقديم مداخلة بهذا الخصوص، فقدمت ما لا أريد التوسع في ذكره هنا الآن. فثمة شهود ما زالوا أحياء على ما جرى.

فعقّب شوقي بغدادي بلمحة نبيلة لم يبخس بها حق المنفى العراقي أيام الديكتاتورية.
خلال عملي محرراً لـ"كتاب في جريدة" بالتعاون مع منظمة اليونيسكو، وضمن مشروع "ديوان الشعر العربي في الربع الأخير من القرن العشرين"، طلب مني الصديق الشاعر شوقي عبد الأمير، المشرف على المشروع، ترشيح اسم شاعر سوري لإعداد مختارات من الشعر السوري الحديث، بعدما تلكأ عمل مشترك على إعداد تلك المختارات كُلِّفَ به الشاعران بندر عبد الحميد وحسين بن حمزة. ربما لم أفعل حَسَناً حين وجدت شيخ الشعراء السوريين الأجدر بذلك، فقد تعرض أبو طرفة بعد صدور المختارات لهجمة من الشعراء السوريين، لا سيما الذين لم يُدرجهم في مختاراته، بل تعرضت أنا نفسي للهجمة ذاتها، بذريعة أنني تدخلت وكنت مؤثراً في اختيار أسماء الشعراء السوريين في الملف. وللتاريخ، فإني لم أتدخل بعد مراجعة المختارات، إلَّا في اقتراح إضافة اسم رياض الصالح الحسين، الذي أضافه أبو طرفة بالفعل. واتخذ الأمر منحى آخر عندما اعترض الشاعر نوري الجراح على وجود اسمه بالمختارات، وأقام دعوى ضد "كتاب في جريدة" لدى قاضي الأمور المستعجلة في المحاكم اللبنانية، كانت نتيجتها استدعاء شوقي بغدادي بصفته مُعداً للمختارات، للمثول أمام المحكمة في بيروت في سفرات من دمشق وقد تجاوز الثمانين. وانتهت تلك المحنة بسلام، ولم يُبدِ أبو طرفة أي نكوص عن خياراته في إعداده للملف.

في العام الثالث من الحرب في سوريا كتب شوقي مقالاً في إحدى الصحف يلخِّصُ فيه موقفه مما يجري في بلاده منذ أول عبارة: "أكتب هذه الكلمات على ضوء شمعتين، ذلك لأن التيار الكهربائي مقطوع عن منطقتنا منذ عشر ساعات، وأسمع في الوقت نفسه دوي القذائف وأزيز الرصاص فأتوقع سقوط قنبلة ولو بالخطأ فوق بنايتنا فأقول لنفسي من ينقذنا من هذا الهلاك الذي يهددنا منذ ثلاثة أعوام، هل هو مانديلا آخر أم هو تيمورلنك جديد؟". اتصلت به مطمئناً على صحته، وتناقشنا حول مخاطر أن يجري على سوريا ما جرى على العراق. بعد أيام كنت أتحدث مع سعدي يوسف عبر الهاتف، عن سوريا وعن مقالة شوقي تلك، فطلب مني رقم هاتفه ليتصل به مؤكداً أن هذا الرجل ظل نقياً ونبيلاً طيلة حياته.

عندما دخل عالم فايسبوك قبل سنوات، كتب لي رسالة على الماسنجر، يسأل عن وضعي في دمشق، ويأسف لامتداد المنفى من الديكتاتورية الى الاحتلال حيث البلاد لم تتعاف، مستدركاً أن "دمشق قادرة أن تعوضني"، ويبدي الشيخ استعداده للمساعدة في "أية صعوبات قد تعترض طريقي في دمشق" 

هذه هي الروح الدمشقية الحرة السخية التي نفقدها اليوم وتحظى بها السماء.
مثل هذه الروح تترك لنا ميراثاً أكبر من مجرَّدِ الرثاء. 
وجديرة بما يفوق العزاء.

(*) مدونة نشرها الشاعر العراقي محمد مظلوم في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها