الثلاثاء 2023/01/31

آخر تحديث: 13:42 (بيروت)

أربع روايات عراقية... والأصل واحد

الثلاثاء 2023/01/31
أربع روايات عراقية... والأصل واحد
هاشم مطر، دنى غالي، شاكر الأنباري، وسهيل سامي نادر
increase حجم الخط decrease
صدرت في العام نفسه أربع روايات عراقية في أوقات متقاربة، وتشترك في بعض المفارقات الطريفة. فكل كتّابها هم أصدقاء، يقطنون المدينة عينها، كوبنهاغن عاصمة مملكة الدنمارك. جميعها صدرت عن دور نشر عراقية، جعلت من بغداد مستقراً لها. والروايات: "حي 14 تموز" لسهيل سامي نادر، و"رائحة الوقت" لهاشم مطر، و"جنوب" لدنى غالي، و"نشيدنا الحزين" لشاكر الأنباري. برز فيها خط جامع، ورؤية ترتكس إلى ملاحقة مصائر شخصيات تبتدئ من الداخل وتمتد حتى بيئة الاغتراب. المكان الأصل، والرحلة العجيبة، ومدينة المهجر كونه المستقر الأخير.
 
فمركز الثقل للأحداث في "حي 14 تموز" هو مدينة بغداد. بينما كانت مدينة البصرة هي مرتكز أحداث رواية "جنوب". وجاءت مدينة بعقوبة كالنبع الأول لرواية "رائحة الوقت". ثم جعلت رواية "نشيدنا الحزين" من مدينة كوبنهاغن شبكة زمانية ومكانية لكل الشخصيات المكوّنة للأحداث، أو الفاعلة فيها. والمستقر الأخير لأرواح "نشيدنا الحزين"، تلك المقبرة التي تتوسط العاصمة الملكية. فيها تحول المغتربون إلى أشباح لا تنام في لحودها ولا تهرب إلى السماء.

ونستطيع القول إن رواية "14 تموز" كانت الخلفية، والأساس المكين للأعمال الأخرى. كانت الرحم الأول، الثقب الأبيض المولّد، حسب التصور الفيزياوي، لعوالم جديدة ستعاني في رحلة التكوين وتنتهي في مقبرة غريبة، باردة. وأول ما يلفت النظر هو أن ظروفاً تعيسة قاسية، كما رسمتها واستعادتها رواية سهيل سامي نادر، هي ما دفعت أولئك الكتاب للهجرة من بلدهم والعيش في بيئة غريبة كمنفيين، أو مهاجرين، أو مغتربين. وتلك صفة تركت أثرها في النتاجات الأربعة بكل تأكيد. وما تلك الشخصيات القلقة، المتحوّلة حسب مرور الزمن، إلا تجليات لأفكار المؤلفين وتجاربهم. لتبدع تلك البانوراما المتلاحقة مثل نشرة ضوئية في احتفال أو مأتم.

رواية "رائحة الوقت" تشتغل على تهجير قسم من المجتمع هم الأكراد الفيليون. وقع التهجير في نهاية السبعينيات وبداية الحرب العراقية الإيرانية. ويتابع هاشم، بتفصيل، مصائر مخلوقاته المركزية، والهامشية على حد سواء، وهي تتنقل بين البلدان، وتعيش معاناة المخيمات على الحدود، في ظروف متقلّبة واحتمالات يومية عويصة. وذلك كله للوصول إلى هدفها. أي الهروب من بلدانها والوصول إلى واحدة من جزر الأمان في القارّة الأوروبية. وتتابع رواية "جنوب" لدنى غالي، مصائر مخلوقات ممزقة بين الغربة والوطن. طائرات، مدارس، فنادق لجوء، سحنات جديدة، وانفعالات متقلبة. ومن ميزات تلك الشخصيات هي أنها مكتوبة بحس أنثوي في الاغتراب، وحساسية ناعمة لما تفكر به امرأة تعيش عالمها الخاص بعيداً عن تقاليد مجتمع، وأخلاقيات سائدة نشأت فيها منذ الطفولة. حنين. توتر زوجي. تكيّف عسير. سوداوية. كوابيس، وأحلام ملازمة لكل مقتلع من تُربته الأم.


أما رواية "نشيدنا الحزين" فهي ترصد الاصطدام الحضاري للمهاجرين، الذين قرأنا أفكارهم، وخلفياتهم الاجتماعية، وأحلامهم، واخفاقاتهم، وتحولاتهم الجذرية بعض الأحيان، وهم يرسون في البيئة الأوروبية. والرواية تتخذ من كوبنهاغن مكاناً عاماً لمسرح الأحداث. مركز الثقل هنا، إذن، هو المكان الجديد، وكيف تفاعلت معه الشخصيات. ما هي جمالياته البصرية، وعمقه التاريخي، ولغته. وهي مداميك ينبغي امتلاكها لكي يصبح الوافد مواطناً صالحاً، ويُقبل في الواقع الجديد حتى مماته. الأساطير، الطقوس الأسبوعية للسهر في الحانات، الانفلات الأخلاقي عقب زوال الموانع والحدود المجتمعية، وقصص الحب ذات النمط المختلف. لكن الأحلام تبقى هي ذاتها. البحث عن دور. البحث عن تأكيد الذات رغم غياب الجذور. والجذور كما هو مؤكد يصعب استعادتها، ويصعب تكوين جذور متينة في التربة الجديدة.

طبعا هناك رغم المشتركات في الأصول التكوينية، ورحلة البحث عن "إيثاكا كافافيس"، الهدف الغامض لتلك الأرواح الشريدة، تباين الأربعة في الأساليب التي كتبوا بها. يلمح واضحاً من القارئ، وذلك من حيث التعامل مع اللغة السردية، سرعتها وكثافتها وتعبيريتها وظلالها ومحمولاتها الفكرية عن كل ما جرى لهم ويجري. تباين في وصف، وحوار، وبناء، وزوغان عن خط الروايات المركزي، وبناء جمالي للملامح العامة. إلا أنها، رغم ذلك، تجسّم للقارئ خريطة مقنعة، إلى درجة ما، عن علاقة الرواية بالواقع، وتاريخ الأحداث، وتفاعل الشخصيات مع بيئاتهم الجديدة. ثم دور الذاكرة الشاسع في توجيه هواجس الشخصيات حتى بعد استقرارهم وعيشهم في المغتربات. عبر كيفية اقتناص الحدث الاجتماعي العام، وتحويله إلى لغة روائية، تتجلّى البراعة السردية في أي عمل.

فالحدث العام عادة ما يطغى على فردانية الشخصيات وتنميطها، أو على الأقل يصعب عزل الشخصيات عنه كما هو سائد في الرواية القادمة من مجتمعات تفسح الخيار للخصوصية والتفرد. أي لا تقمعها كي تتساوى مع السائد الجاهز لمحق كل كينونة ذات خصوصية. ستشكل هذه الروايات الأربع، الصادرة في سنة واحدة، لكتّاب يعيشون في بقعة واحدة، وتربطهم صداقات عميقة، جزءاً ضرورياً في خزين الرواية العراقية. من جهة الموضوع الذي يكيّف الاغتراب في بنية روائية يساهم القفز المكاني والزماني في تصنيفها النوعي، ومن جهة ثانية لتقاطع المصادفات وما تخلقه من خيارات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها