السبت 2023/01/28

آخر تحديث: 14:52 (بيروت)

علوية صبح لـ"المدن": لستُ ضد الرجل أبداً.. ونسويتي إنسانية

علوية صبح لـ"المدن": لستُ ضد الرجل أبداً.. ونسويتي إنسانية
اذا كنتُ استحق في نظر قرائي أني صوت المرأة في الأدب العربي الحديث، فهذا فخر لي
increase حجم الخط decrease
في روايتها الجديدة "افرح يا قلبي"، اختارت الروائية علوية صبح تيمة جديدة في مسيرتها، هي بين صراع الغرب والشرق، وصراع الهويات وصراع الأخوة. غسَّان، الموسيقيّ وعازف العود، يهاجر إلى نيويورك هربًا من فاجعةٍ عائليَّة، حالمًا بهويَّةٍ جديدة، رافضًا جبروت أبيه وخياناته لأمِّه ومبتعدًا عن نور، حبّه الروحانيّ الأبديّ. في نيويورك، يشتعل حبًّا لكيرستن، أستاذة مادَّة الصوفيَّة، عاشقة الشرق وموسيقاه، والتي تكبره سنًّا، وفي الوقت نفسه يعود ليتزوج رلى وينجب منها... هي رواية عن الموسيقى والحبّ والانتماء، وصراعات الأخوة المدفوعين إلى مصائر تراجيديَّةٍ مختلفة وتتّسم بالسلاسة، وتحمل الكثير من الأقنعة والاستعارات والتأويلات... من أجواء روايتها، أجرت معها "المدن" هذا الحوار:

- يبدو عنوان روايتك "افرح يا قلبي" بعيداً من مآسي شخصياتها وعنفها وتزمتها، على الرغم من الدلالات التي تحملها أغاني أمّ كلثوم الشجيّة والدراميّة والحزينة والسعيدة، وعلى الرغم من شخصية امّ كلثوم نفسها؟ لماذا هذا العنوان تحديداً؟

* العنوان له دلالات أيضاً. لقد استخدمت ما يسمى بالمفارقة. العبارة الموهمة للفرح، أي ما هو ظاهر متناقض. وفي اعتقادي، أنّ ثمّة حزناً، فيه شيء من الفرح المخدوش أو المتخفي. وفي العنوان عبارة تشي إلى التمني. ففي عيش المآسي، ألا يجد الإنسان نفسه يتمنّى ما يفرحه؟
وفي الرواية، ترتبط الأغنية بالحبّ عند البطل غسان. كلما وقع في الحبّ، وجد نفسه يغنيها.
وهذه الأغنية هي الوحيدة التي غنتها أم كلثوم للتعبير عن الفرح بالحبّ، فيما الآهات والألم والعذاب، مليئة في أغانيها، وما ورثناه في أغاني الحبّ. وقد أشار غسان في الرواية إلى ذلك. ذِكر الأغنية في الرواية موجود في أكثر من موقف. وفي نهاية الرواية عندما يسمع ابنته الصغيرة تغنيها، قبل أن يعود ويهاجر مرة أخرى نهائياً إلى نيويورك، ثمة دلالة. هو يكتشف أن شيئاً فيها يشبهه. الحبّ عنده شعور بالسعادة، ومن جهة أخرى، هذا يعني، بأن علاقة ما بالشرق قد تستمر عند ابنته. ثمّ إن خياري لهذه الأغنية انحياز مني للفرح في الحبّ.

- هل أردت القول من خلال الرواية أنّ المرء لا يستطيع الهروب من جذوره وهويته وأصوله؟

* عند شخصية مثل غسان، من الصّعب بالتأكيد الهروب من هويته وجذوره. والاقتلاع والهجرة ليسا أشبه بعملية جراحية لاستئصال ما يود الإنسان أن يتخلص منه في ذاكرته واحاسيسه وماضيه. هو تربى على عشق التراث العربي والشرقي. هو هرب من ذلك وتنكر لماضيه وعائلته وجذوره، وكره العود، الذي علمه جدّه أنّه الطريق، أي أنّه إحدى دلالات الهوية الشرقية في الموسيقى. إلا أنّه، بعد يقظته من الكوما، أول ما فعله هو كتابة كلمة العود على ورقه، قبل أن يستعيد النطق. هو الذي قال إن الماضي وحش يبتلع الكائن. ثم رغم محاولاته لتنكر شرقيته وهويته، فإن إيمانه بدينه وبالاسلام لم يهتز أبداً، وبقي على إيمانه في نيويورك. وثمّة أمر مهم، فبالرغم من صراعاته حول هويته، إلا أنّه في نهاية المطاف، أشعرته الموسيقى بهويته الإنسانية. أي يمكن للإنسان أن يكون ما يشاء، من دون أن يبتعد عن انسانيته، أو أن يعادي هوية أخرى. ما زلت أؤمن أنّ الإنسان أخ الإنسان، لكن هذا الزمن للاسف، طافت فيه العنصريات وصراع الهويات التدميرية. 

- في مكان ما تبدو الرواية تجسيداً للبنان وهواياته القاتلة بل تجسيداً للشرق وتناقضاته وتصدعاته، سواء في علاقته بالغرب أو علاقته بالمرأة، أو حتى الموسيقى والأجداد؟

* لم تكن كتابه الروايه سهلة عليّ. أنا اشتغل عليها، منذ سنوات، احتلت مخيلتي وقادتني كتابتها إلى عوالم كانت تفاجئي باستمرار. كنتُ ألحق بخيالي حتى لتكاد تلهث الكلمات، بل الحروف.
لم أكتبْ الرواية، كما سائر رواياتي، من منطلق الايديولوجيا أو الأفكار الجاهزة. تسكنني الشخصيات، وأعيش أحاسيسها، تصير عالمي كما لو أني أحيا بها، وتحيا بي. وتقودني هي إلى مساراتها، ولكن دون أن تفلت مني. صحيح أنه تكوّنت لدي فكرة ما، أو تصوّر، حول الرواية، قبل البدء في كتابتها، إلا أنّ أشياء كثيرة تتغيّر، وفق حركة الرواية، كما حركة الحياة. لكن بعد الانتهاء من الرواية، يبدأ الكلام حولها، وما تحمله من قول أو تعبّر عنه. وما تقوله صحيح.

- هل بطل الرواية غسان تجسيد لصراع الشرق والغرب؟ في وقت تبدو زوجته الأميركية (الغربية) كيرستن متصالحة مع عالمها وخياراتها، وأمّه التقليدية متماهية مع أنواع القهر، أما زوجته الشرقية رلى الشابة، فعاشت تناقضاتها، انتقلت من أفكار اجتماعية تحريرية، الى زواجّ تقليدي، بل صارتْ صورتها كأنها الجارية وتتعامل مع غسان كأنه هارون الرشيد.

* غسان يتصارع في انتمائه، بين ما هو شرقيّ وغربيّ فيه، وفي هويته. وفي شخصيه مثله، حاولتُ أن أتتبّع حياتها وتفاصيل مشاعره، تبدو الرواية كما تقول...
إن العديد من الروائيين الذكور تناولوا تيمة العلاقة بين الشرق والغرب، من منظور ذكوري انتقامي من الغرب، عبر جسد المرأه الغربية. دائماً، هذا الجسد الأنثوي ضحية، سواء كانت المرأه شرقية أو غربية. حاولت ان أجعل العلاقة بين البطل وكيرستن انسانية، على نقيض ما كتبه الذكور، حيث كان الهاجس جسد الغربية. وانا أؤمن بانسانية العلاقات. المأزق في العلاقة بالغرب، أو في الشرق، هي في أمكنه أخرى. سعيد مثلاً، في الرواية، كان في انتقامه من الغربيات بشعوره أنه يقتل من يجمعها الفراش معه. وتحوّل امضاؤه من سعيد العربي، إلى شهريار نيويورك، تصوّر قصدتُ أن تكون كيرستن أكبر منه في السن، وبقي غسان يحبّها بعد أن أصبحتْ عجوزاً. إذن، المسألة لا تتعلّق بجسدها، ورغم ذلك بقي يشعر بدونية تجاهها، لأنها أميركية وحرّة، كما شعر أنه أقوى من زوجته اللبنانية. هو تزوج رلى في لحظة ضعف وحنين للوطن والماضي، إلا أنه بقي يعيش في نيويورك مع كيرستن. هو حقّق رغبته تجاه رلى، التي تصغره سناً وجميلة، والتذّ بشعوره انه هارون الرشيد، إلا أن ذلك لم يحل دون هجرها والبقاء مع كيرستن. وهو انتقد خضوع رلى له. هي قبلتْ بالزواج منه رغم أنها تعلم أنه متزوج من الأميركية. أما كيرستن فلم تعلم بزواجه من رلى، وأخفى غسان الأمر عنها. 
رلى، كما تقول، مرّت بصراعات حتى انتهت إلى مصيرها ونهايتها العبثية. أما الأم، المتماهية مع أنواع قهرها، وكما تقول، فلقد عبّرت عما تعانيه، إن من ظلم زوجها لها، أو من إلغاء الامومه لأنوثتها.  
أحاول دائماً أن أقوم برحلة استكشاف لدواخل الشخصيات، والكشف عن الحجب والمستور في الكتابة. هناك في الرواية مونولوجات كاشفة، وعلاقات هجست الإضاءة عليها وما تظهره وتخفيه من معاني ودلالات.
اما بالنسبة الفارق بين رلى وكيرستن، وعلاقة غسان مع كل منهما، فلا شك أن العلاقة مع المرأة، تخضع لاختلافات الثقافة والقوانين والتشريعات، والمؤثرات التي تتحكّم بأطراف العلاقة بين المرأة والرجل.

- يقول إدوارد سعيد: "أياً كانت إنجازات المنفى، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد". هل هذا واقع غسان الشغوف بالعود وتراث جدّه.

* ما يقوله إدوارد سعيد، كان واقع غسان فعلاً. 

- تبدو المرأة في الرواية معذبة منتهكة مضطهدة ضحية، بينما الرجل معنِّف، كذاب، مخادع وخائن، هل أنت صوت المرأة في الرواية؟

*بالحقيقة انا لست باحثة اجتماعية، ولا أحاول رفع أي شعار في رواياتي، وإنما أروي حكايات، يستطيع القارئ وحده ان يستخلص، أو يستنتج، فهذا حقه، وله حكمه. ابطالي متساوون بالنسبة إلي، وانا أكتبُ، أحاول أن اتتبّع مسارهم، وأفهم سلوكياتهم ودواخلهم، ويهمني كثيراً رصد علاقاتهم لتقول ما هو خفيّ، أو ظاهر، وما تحمله من قول. لكني بالتأكيد مهجوسه بألم النساء، فذلك يوجعني مثلما يوجعهن. لكني لم أغفل وجع الرجل ابداً. هناك الكثير من نماذج النساء، من نتعاطف معها، أو لا نفعل. كما الكثير من نماذج الذكور. لكن بالتاكيد، فإنك حين تتناول حيوات النساء في ظل الذهنيات الذكورية المتشدّدة، لا بدّ أن تجد نفسك تسرد حكايات موجعة ومؤثرة من مقدار تعنيفهن واضطهادهن. لا أظنّ أني أحمل خطاباً نسوياً متشدّداً، أراه أصولياً، أنا ضد كل ذهنية متشدّدة. ولست ضد الرجل أبداً. نسويتي إنسانية. هي في استعادة الحق للنساء للقَول المُصادَر والمَنفي في الأدب، وفي التعبير الحرّ وبفنية عالية، لتكون المرأة شريكة في المعرفة. المعرفة ناقصة من دونها، وحين الخطاب الذكوري سائد، إن في الأدب الذي يكتبه الرجل أو المرأة. 
وإذا كنتُ استحق في نظر قرائي أني صوت المرأة في الأدب العربي الحديث، فهذا فخر لي. فلقد كان مرجعهم الحكايات التي رويت وحكيت، وأعلَيت صوت النساء للتعبير عن أنفسهن وحياتهن، بعدما كانت أصواتهن مصادره في الكتابات الذكورية.

- إلى ماذا يرمز أكثر من "سعيد" في الرواية، سواء مقتطفات من أقوال إدوارد سعيد، أو حضور طيف مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب الصالح؟

- ملاحظتك لفتتني. مصادفة، حضور اسم إدوارد سعيد، ومصطفى سعيد، وأضف أيضاً، سعيد العربي. اسميته بهذا الاسم من باب المفارقة أيضاً. فهو بكّاء، كما قال عنه غسان، بطل الرواية. 

- ما المؤثرات الحياتية والثقافية والسياسية التي جعلتك تكتبين هذه الرواية؟

* المؤثرات كثيرة، منها ما أُدركها، ومنها ما أجهلها. هي قلقي من من هذا الاضطراب في مسألة الهوية في ما وصل إليه المجتمع اللبناني، منذ الحرب إلى الآن، بل منذ التحولات من الخمسينيات إلى الآن، وربما منذ الاستقلال. التضارب إلى حد القتل ضمن العائلة الواحدة، الهجرات، العلاقة بالغرب والصراعات في العالم حيث لامست الصراعات حتى الدينية، انحدار الموسيقى، هجرة أبناء كل اخوتي وأصدقائي، بحثاً عن هوية أخرى، أضف أولاً إلى غضبي ونفوري من التعصّب والرديكاليات وتعنيف النساء، ونقد ما يستحق النقد من ضعف نساء او شرورهن. نقد الغرب انطلاقاً من وجهه التعصب، وليس إلا. وإيماناً مني بالتكامل الإنساني، ذهب خيالي إلى خلق شخصية كيرستن الأميركية عاشقة الشرق وموسيقاه. ولشدّة عشقي للعود والموسيقى عموماً، حلمت انه بإمكان الموسيقى ان توحد البشرية، طالما هي اللغة التي يفهمها كل البشر.. أردت حلماً أو ضوءاً في العالم يريحني ويريح القارئ. لكن للأسف، عندما تحقّق حلم السيمفونية في أذنيّ غسان ورأسه، التي طالما حلم بها، يستخدم فيها الآلات الموسيقية الشرقية والغربية، تتعرض الطائرة لخطر السقوط. هي لم تتحقق على الأرض. النهاية مفتوحة، لأجعل القارئ شريكاً في كتابتها ونهايتها. وكأني تركت العلاقة بين الشرق والغرب مفتوحة على احتمالات كثيرة.  
والحقيقة ان هذا العالم المتخيّل في الرواية، عشت فيه خلال الكتابة، وبات أفراد عائله غسان بل أهل بلده "دار العز" وكأني أعرفهم فرداً فرداً، وحزنت على مفارقتهم آخر الرواية. 

- شخصيات روايتك، هل ولدت تلقائياً أم هي إسقاطات على واقع ما في لبنان أو أي مجتمع شرقيّ؟

*لا، ليستْ إسقاطاً على الاطلاق، ولم أكتبْ يوماً وفق ذلك. في الرواية شخصيات من لحم ودم، لا بدّ وأن تشعر أنّ لهم وجوداً ووجوهاً تعرفها. وان هذا المجتمع تعرفه، او تتعرّف من خلال الرواية على ما تجهله من مجتمعك. وإن كانت كتاباتي صادمة أحياناً، فذلك لأني لا أراوغ. الكتابة عندي، تذهب دائماً إلى ما هو حقيقي وإلى التعرية. ومن الكتابة الحية والأدب أقرأ المجتمع، أو صوراً او نماذج منه، ما هو خاص، أو عام.

- عندما تكتبين نصاً عن مدينة بعيدة مثل نيويورك هل تستندين إلى الواقع ام الخيال أم القراءة؟

* إلى كل منها، وأكثر. قمت بأبحاث وتحقيقات كثيرة، كما قرأتُ كثيراً. لكن الخيال هو المنقذ لأي رواية. وصلت إلى درجة في الرواية، وكأني أعيش في نيويورك، كما شعرتُ أني أعرف وأعيش في بيت أهل غسان وأهل البلدة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها