الإثنين 2019/12/30

آخر تحديث: 16:56 (بيروت)

ريم غنايم لـ"المدن":النّساء لم يشكّلن مصدر إلهامٍ لـ"جيل البيت"

الإثنين 2019/12/30
increase حجم الخط decrease
ليست الترجمة عند الشاعرة الفلسطينية ريم غنايم مهنة، بل مسألة متعة وذوق شخصيّين، غالباً ما تنتقي نصوصاً وقصائد وتترجمها وتنشرها في حسابها الفايسبوك، وحتى في الترجمات التي نشرتها ضمن كتب عن بعض دور النشر، تبدو عليها علامات الذوق الشخصي قبل كل شيء، مثل ترجمتها لبعض أعمال بوكوفسكي أو "جيل البيت" الأميركي (كيرواك، غينسبرغ، بوروز، كاسيدي) أو حتى قصائد الهايكو(ريتشارد رايت)، ومن باب استقراء شغف ريم غنايم في اختياراتها للترجمة وعالم من تترجمهم، كان هذا الحوار...


-ما الذي جعلك أكثر اندفاعاً الى ترجمة بعض أعمال كتّاب "جيل البيت" إلى جانب بعض أعمال بوكوفسكي؟

هذا الاندفاع هو في حدّ ذاته رؤية لمفهوم التّرجمة والتجربة الداخليّة التي ينشبكُ المترجم من خلالها مع عوالمَ جديدة- وإن كانت بفارق زمنيّ. الاختيار، أولاً مسألة مُتعة وذوق شخصيّين، فأنا في مشروعي الإبداعيّ عمومًا أجنح نحو استكناه مكامن الباطن والمعقّد والغريزيّ والحيوانيّ في قلب البشريّ. ثانيًا، هي رغبة في إحداث توازن بين كَوني مترجمة وكَوني أيضًا متلقّية- ناقدة وقارئة وشاعرة- ملوّنة الهُويات وتسعى إلى وضع المشبوه والمشكوك في أخلاقيّته في مركز السؤال. كتّاب البيت يتمتّعون بمستوى معرفة وثقافة كوسموبوليتيّة وتجربة شعريّة وسرديّة عميقة وذات أبعاد جنسيّة وطقوسيّة ودينية وتنشؤية تنفخ الرّوح في ثيمات معطّلة لها علاقة حفريّة بمفهوم الوعي والباطن. ثالثًا، هناكَ اهتمام كبير في المواد التي يسبح فيها أصحاب هذا الاتجاه، ونجزم أنّهم تركوا إرثًا أدبيًا متحرّرًا من الخجل وشكّل قاعدة تأمل أعادَت الاعتبار لمعنى الخلل والإخلال في التوازن، وهو في حدّ ذاته المغامرة الأكبر والتغريب الأكثر صدقًا لمشروع الأدب بصفته تجربة انتهاك وإفلات من الثبات.

-في إحدى مقالاتك تقولين "فيمَ يهمُّنا اليومَ أن نقرأ شيئًا لكتّاب من عُرفوا بجيل البيت Beat Generation الذين هزّوا العالَم قبل أكثر من نصف قرن؟" أي أثر لهذا الجيل الآن على الأدب؟ هل لا يزال صوتهم حاضراً في عالم الاحتجاج؟ هل ما زالت ثقافتهم راهنة أم ترتبط بمرحلة الستينيات من جهة، والثقافة الاميركية من جهة ثانية؟

التاريخ يسيرُ دائمًا في حركة دائريّة، وتجربة العالَم في العنف، والبغاء، والجريمة، والحروب الكونيّة، وإعادة إنتاج وتعريف وتصنيع الأفكار والمفاهيم هي أيضًا لعبّة دالّة على خصوبة توليد المعاني والرؤى المختلفة في المجتمعات التقليديّة، والتي تعاني من مخاض التغيير.

الفوضى واللانتظام هما شرط لازم في كلّ مرحلة تولَد فيها رؤية جديدة. الجيل المهزوم، هو جيل صنعه الإعلام وابتدعه كتّاب جيل البيت، أصحاب التقليعات الشعريّة والروائيّة المتفرّدة، برداءتها وبعمقها، على حدّ سواء. لكن ثقافة هذا الجيل هي بمثابة ثروة، وفي صوتهم مادّة صالحة تقيم عملية تصفية حساب مع دَفق الفَساد وصلوحيّتها ترتبط بالبيئة التي تنهلُ منها، وباقتدار.

-تقولين في مقال لك عن بوروز إنّه كان "حالة أدبيّة، تقليعة حداثيّة سورياليّة فانتازيّة، أشبه بـ"كولاج" ينحت، ويصوّر ويُقحم وينشز، ويعمّق الواقعيّة بكلّ غثيانه وسفالته وجماله. هكذا جاءت روايته الشهيرة "الغداء العاري" وهكذا جاءت روايته الأولى "المدمن"، اعترافات جريئة لكاتب سقط في الإدمان بإرادة ورفض حبل النجاة بإرادة أيضًا. سؤال افتراضي: ماذا لو كان كاتب نص بوروز عربيًا؟ ماذا لو أُرسل نصّ عربي مثل نصه إلى ناشر عربي؟


ومن قالَ إنّ بوروز بدأ حياته الأدبيّة بهويّة واضحة؟ ألم يكن مقنّعا، عن قصد، موقّعًا أعماله الأولى باسم مستعار لفترة طويلة؟ بوروز كان طيرًا جارحًا ونافرًا في المشهد الأدبيّ الأميركيّ وقتها، ذلك المشهد الذي كان يعيشُ ظروفًا سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة أوقعَت الأدب في سلّة المستَهلَك. لكنّ بوروز لم يكن صوت الانتهاك الوحيد، وربّما هنا تكمن سرّ القوة والاستمراريّة، في أنّه كان صوتًا يلعب في دائرة الصّوت الجماعي الأكاديميّ الذي كان يبحث عن عدوى.. كلمات جديدة ورؤية جديدة وشكل مناهض للثقافة السائدة. فكان بوروز، وكيرواك وغينسبرغ وكار في جامعة كولومبيا ومن هناك كانت الانطلاقة نحو "تدنيس" الحاضر وتخصيب مفاهيم كثيرة أثرت هذه الحركة وانتقلت بالعدوى إلى حلقات أوسع مع من عرفوهم من شعراء وأدباء سواء في حياة القاع أو في دوائر مقرّبة: القاع، القبح، القرف، الحيوانيّة، الجريمة، الشرّ، الزّن وغيرها.

القبول لم يكن مسألة مختزلة وسهلة، والاعتراف بأدب بوروز لم يأت في ظروف عاديّة. المسألة أيضًا أبعد من مجرّد إرسال نصّ لناشر، هي مسألة سياق وغاية ومفهوم رحم المؤسسة في مواجهة رحم الإبداع قدرة المبدع على دفع الثّمن حتّى النهاية أيًا كانت النتيجة.


-هل لك أن تخبرينا عن الجانب الأنثوي في جيل البيت، سواء لناحية علاقتهم بالمرأة أو لناحية كاتبات أو شاعرات كن ضمن هذه الجيل، فهذا الجانب لا يزال غير واضح بالنسبة الى القارئ العربي؟

دعنا نقول بدايةً إنّ ملهمي كتّاب البيت كانوا كتّاب البيت أنفسهم. لم تنجح النّساء في أن يشكّلن مصدر إلهامٍ لهذه الأصوات الذكوريّة، كما حال المرأة ودَورها التقليديّ في حياة المُبدعين. ستجد مثلا بيتر أورلوفسكي ونيل كاسادي ولوسيان كار وفيليب كاميرر وألن غينسبرغ شكّلوا مصدر حب وإلهام كلّ منهم للآخر. أما نساء جيل البيت، فلا يمكن إطلاق مصطلح "الموزا" عليهنّ كملهمات لهؤلاء الكتّاب. جوان فولمر، إدي باركر، جويس جونسون، كارولين كاسادي، إليز كوين، جان كيرواك دي بريما، جوان فولمر وغيرهنّ، كنّ أشبه بأرواح عرضيّة و"أضحيات" أخفقن في التفوق على عنف الرجال الرمزيّ، وغلب وجودهنّ خلفَ الكواليس كدمى متحركة صامتة على حضورهنّ الفاعل والنديّ على مسرح البيت على الرّغم من ثقافتهنّ الواسعة وانشغالهنّ بالكتابة بأجناسها التنوعة: الشّعر الرواية اليوميّات الاعترافات المسرح. هذا العنف الذي مارسه كتّاب الجيل، عنف صارخ حجب الضّوء عن هذه الأصوات وأسكنها رداء الصمت، لأنّهنّ لم يشكّلن بديلا حقيقيًا أو يلعبنَ دَورًا مركزيًا في الحياة الابداعية لهؤلاء. "الصوت" التابع المسكون بصخب جيل المهزومين وضجيجهم، إلى جانب انجذابهنّ الذي لم يجعل منهنّ شخصيات حقيقيّة فاعلة، منهنّ من تحوّلن إلى أدوات جنسيّة، حالات عصابيّة وانتحاريّة، وحتى حالات قتل غير متعمّد شكّلت بوصلة في الكتابة. القصد أنّ هؤلاء النساء كنّ مادّة عرضيّة لمتن أملاه الصوت الذكوريّ-المثليّ- الصارخ –العنيف- البوهيميّ- الحرّ. وكان التماهي مع هذا الصّوت له والتبعيّة هو ما أدّى إلى هذا التهميش.

إليز كوين أحبّها غينسبرغ لمدّة عام قبل أن يقع في حبّ بيتر أولوفسكي، وكانت هي من طبع قصيدة "قاديش" التي تركت أثرًا في شِعرها. وقد أدّى بها الاكتئاب والمرض النفسيّ إلى القفز من الطابق السابع. كارولين كاسادي كانت حبيبة كيرواك وزوجة نيل كاسادي ولم تخلُ علاقتها كزوجة وكحبيبة من مشاكل وانفصال وعودة، لتتناول جيل البيت بالنّقد في كتابها Off the Road. جوان فولمر، زوجة بوروز، والشاعرة التي شكّل مقتلها خطأ على يد زوجها، شخصيّة مركزيّة صمّمت وأثرَت في كتابة بوروز. التّهميش لهذه الأصوات المتفردة، جاءًت أيضًا نتيجة انخراط غير ممنهج في أصوات الرجال وفي رؤاهم الأدبيّة.


لماذا لم تخلق البيئة العربية جيلا يشبه جيل كتّاب البيت؟

ومن الكاتب الذي سينجح في أن يناهض كلّ شيء في البيئة العربيّة، إيجابها وسلبها معًا؟

المناخ مختلف، الهجنة الثقافيّة مختلفة، الإبداع مغاير. كلّ شيء في هذه المقارنة خطأ. مرجعيّات الحرية والتحرر في السياق العربيّ مرتكزاتها خليطٌ من التديّن والانعتاق عن الدّين عند المبدعين وعلاقة جدليّة مع الله ومع الحاكِم ومع الشعب وأعرافه. منشغلون بالبراني، بالتحديث، والإصلاح والتغيير، بتحديد مفهوم الديمقراطيّة، بخصوصيّة التعبير عن الأسى عبر الأدب، والمغايرة في جوهرها عن خصوصيّة التعبير عن الحرية عن المجتمع الأمريكيّ.

نحن ما زلنا في حالة طرح لمفهوم الحريّة والتحرر من الاستبداد، حالة زحف بطيئة في الطريق الى التحرر، بطيئة جدا قياسًا بوتيرة التغيّر الجوهريّ في العالَم عمومًا. البيئة العربيّة بيئة منشغلة بهمّ الصراع على الحريات الجمعيّة. العربيّ يواجه طبقات الدكتاتور هي بيئة تولّد سؤال الحفر في النفي وسلطة الدكتاتور. الدكتاتور الذي يتقشّر لتجد تحته دكتاتورا آخر، وهكذا دواليك. الوحش الذي يحاول الإنسان العربيّ بوجه عام، والمبدع العربيّ على وجه الخصوص أن يثور عليه هو الوحش البرّاني، لم نصل بعد إلى الحفر في العالم الجواني. ما زلنا قابعين في مرحلة الثورات ونيل الشعوب حرياتها. والمُبدع العربيّ يحتاج لأن يتماهى مع أصوات الحشود، ولنقل أيضًا أنه مجبرٌ على ذلك، حتى إن لم يرغب في ذلك.

أعتقد أن تفرّد جيل البيت يكمنُ في قدرتهم على الانتماء إلى رؤية نجحوا من خلالها في تأزيم راهنهم وتقويضه وتشبيك الحشود مع هذه الرؤية، وفي الوقت نفسه انفتحوا على عوالمهم الجوّانيّة التي ذهبوا فيها إلى أقصى حالات اللانتماء والاعتباطيّة المفرطة إلى حدّ التغلغل في سيلِ القاع والجريمة والنفي.


-هل تابعت الترجمات العربية الاخرى لجيل كتّاب البيت؟

نعم، بالتأكيد. تابعت وأتابع ترجمات لسركون بولص، لينا شدود وسامر أبو هواش ومحمد مظلوم وأحمد هاشم وغيرهم. كلّ ترجمة تعرّف بهذه الجماعة هي ترجمة مباركة وتُضاعف متعة الانكشاف عليها، وما زلنا في طَور البداية في هذا الباب.


-من بين كتّاب جيل البيت من هو الأقرب إليك كشاعرة وقارئه وكاتبة؟

كمترجمة أحافظُ على موضوعيّة تامّة وعلى مبدأ تحييد المشاعر والعاطفة أثناء التّرجمة في عملي. الترجمة مختبر لا يجوز أن تنصهر فيه مع مواده فيظنّ القارىء أنّ هذه الموادّ تمثّلك، أنّك بوروز وكيرواك وبراوتيغان وكورسو وغينسبرغ إلخ.

 ولكن كقارئة، بعيدًا عن فنّ الترجمة، أعتقد أن مشروع غينسبرغ، بصفته شاعرًا وبصفته وكيلا ووسيطًا لمعظمهم، ومن خلال الرسائل والمقدّمات والقصائد والسيرة أعتقد أنّه الشخصيّة المحوريّة الأكثر حيويةً وجوهريةً في هذا الجيل. كشاعرة، أحبّ شعره لأن فيه ألق الانفتاح على الصورة المجازية، أكثر من البقية. ليروي جونز (أميري باراكا) وبوب كاوفمان وفيرلنغيتتي أيضًا في قصائدهم أنفاس حيّة للشعر في هذا الزّمن.

-تقولين في احدى مقابلاتك "أنا أعمل بحذر وبتؤدة. في مشروعي الترجميّ أبحث عن الأعمال التي لم يسبق أن انكشف عليها القارئ العربيّ، وفي الحقيقة كمّها كبير جدًا. أختار أولاً الأعمال الأدبيّة الرفيعة فنيًا، وليس بالضرورة أن تكون رفيعة لغويًا، أو تلك التي يتوق القارئ إليها، أو تلك التي مرّت بحالة إقصاء قبل قوننتها في الأدب العالمي، أو الأعمال الجريئة التي همّشتها المؤسسة الترجميّة العربيّة زمنًا. إلى جانب ذلك، أعملُ على انتقاء أعمال أدبيّة تحملُ عناوين جذابة تكون قادرة على مغازلة عيون القرّاء". هل ترجماتك قائمة على مزاج ولا تكون ضمن اتفاق مع دور النشر؟ وهل سبق ان رفضت ترجماتك بسبب اختياراتك عناوين بعض النصوص "الصادمة"؟



اختيار دار النّشر له علاقة بذكاء المترجم. "الإله الحيوانيّ" الذي ينام في مشروعي الترجميّ لا يُفصّل وفق مقاسات دور النّشر المحافظة. دور النشر العربيّة في حالة مخاضٍ مفصليّة وقد تفسحُ المجال للمزيد من المشاريع الجريئة، دون ابتذال.

لا يوجد هناك رفض أو موافقة لعملٍ بعينه. هناكَ اعتبارات مرتبطة بالوقت وببرنامج النّشر، وبالتزامات. ولا أنكر أيضًا أحيانًا وجود ضيق رؤية من قبل الناشرين وقلّة دراية في أحيان أخرى. لكني كائن معرفيّ متفائل جدا لا أتوقّف عن التفكير وعن ولادة الأفكار والمشاريع وتخصيب المكتبة الترجميّة العربيّة، ولا أضحّي برؤيتي مقابل رؤية ناشر. حتّى لو اضطررت إلى تأجيل النّشر سنوات. إلى أن ينضج الناشر والقارىء. المزاج أيضًا يلعب دورًا لكنّه مزاج ذكيّ لا يعمل بعشوائيّة. أو هكذا أظنّ.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها