الأحد 2023/01/22

آخر تحديث: 08:48 (بيروت)

بحثاً في الهراء...وزارة الثقافة السورية تنشر كتاب "صحافيون للبيع"

الأحد 2023/01/22
بحثاً في الهراء...وزارة الثقافة السورية تنشر كتاب "صحافيون للبيع"
أودو أولفكوتيه
increase حجم الخط decrease
يكفي المرء أن يقرأ في أول سطور أي كتاب، عبارات تقول: "لطالما تشدّقت دول أوروبا بالديموقراطية والحرية بكل صنوفها"، كي يتوقف عن المتابعة ويذهب بعيداً.


وإذا عرف القارئ بأن عنوان هذا الكتاب هو "صحافيون للبيع.. كيف يوجّه السياسيون وأجهزة المخابرات والتمويل العالمي وسائل الإعلام الألمانية"؟ الذي كتبه الصحافي الألماني أودو أولفكوتيه، قبل موته بثلاث سنوات، وأنه صادر عن وزارة الثقافة السورية الأسدية، فإنه لا بد سيشعر بالتعاطف مع أي شخص اضطر لقراءته، أو حتى الاطلاع عليه.

توجب الأمانة هنا التوضيح، بأن من قال العبارة الصادمة المنشورة أعلاه ليس أولفكوتيه، بل مترجمة الكتاب د. منال إسماعيل المرعي! وهي أستاذة جامعية اطلعنا على بعض داراساتها حول نيتشة وشوبنهاور في مجلتي جامعتي دمشق وتشرين، وقد فسر لنا ذلك استخدامها لفعل "تشدق" المقعر لاتهام أوروبا كلها ومن دون تمييز بين بلد أو آخر، حكومة أو أخرى، بأن من تتحدّث عنهم يكذبون، أو "يلوون جوانب أفواههم تفاصحاً" بحسب المعنى المعجمي للفعل!


لكنه لم يفسر لنا تلك العتبة العالية من الانفصام بين الأفكار وبين الواقع، في طريقة تعبيرها، فأن يكون المرء مشتغلاً بالفلسفة في الصباح، وأن يذهب في المساء، خلال عمله في الترجمة، صوب اتهام تعميمي، لا يحرص على التمكن من منطق الأشياء، فيجعل الكل في سلّة واحدة، فإن هذا لا يدلّ على حماقة عادية فقط، بل يضعنا في وسط عقل المؤامراتيين، الذين لم يعودوا قلّة قليلة، بل صاروا تياراً عريضاً، يحكم دولاً، ويقود وزارات، ومؤسسات، يُحاصر المؤلفين والقراء، والسياسيين والصحافيين أيضاً.

ولا أدلّ على هذا، من أن يكون هذا الكتاب، الذي نشر قبل أيام، على موقع مطبوعات الهيئة العامة السورية للكتاب، بصيغة إلكترونية تتيح وصوله للجميع، يحمل عنواناً فظاً كهذا الذي يحمله، وأنه كالطُعم، يشد إليه كل من لديهم القابلية لأن يقعوا تحت براثنه، طالما أنه سيرضي نزعتهم العقلية، في إحالة كل ما يجري حولهم، صوب أصابع "إجرامية" مؤامراتية معروفة، ذات صورة نمطية، موصومة بالإفساد.

ظهر هذا الكتاب بلغة مؤلفه الألماني في العام 2014، وقد ترجمه هواة الصنف من الشعبويين إلى لغات عدة في أوروبا، وها هو يصل أخيراً إلى اللغة العربية، قبل أن يتابع مسيرته صوب لغات شعوب أخرى، تعاني من الإشكاليات ذاتها.

وقد لفت المؤلف الانتباه حوله، حينما أَطّره ضمن صيغة الاعترافات، فهو صحافي مارس المهنة لسنوات طويلة، ولديه كتب عديدة، لكنه لم يحز الشهرة من خلال عمله، بقدر ما أتت إليه عبر تبنيه لنظرية المؤامرة، ونزوعه صوب أبشع ما يمكن أن يطرحه صحافي أو سياسي في أوروبا، أي المواقف العنصرية، والشعبوية، والذهاب إلى الإسلاموفوبية!

فهو وبحسب المعلومات المعروفة عنه، والمتاحة عبر الصحافة الألمانية ذاتها، من أشهر كارهي المنظمات والجمعيات الإسلامية، وقد أسس منظمة حملت اسم "باكس أوروبا" حاولت تنظيم مظاهرات معادية للإسلاميين، عقب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، تحت شعار "أوقفوا أسلمة أوروبا"، وهو مؤيد لحركة PEGIDA المتطرفة، وسبق له ان خطب بأعضائها في أحد تجمعاتها في مدينة بون.


مات أولفكوتيه في العام 2017، ورغم أنه أشار في هذا الكتاب إلى وضعه الصحي السيىء، إلا أن أتباعه شككوا بأسباب موته، وادعوا بأن الجهة التي اتهمها في كتابه بتخريب الصحافة، وشراء الصحافيين، هي من قامت بتصفيته، والمقصود هنا طبعاً وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA، التي حرصت، وفق ما يدعي، على دفع الدولارات للصحافيين زملائه، مقابل نشرهم لأخبار مزيفة، تخدم السياسة الأميركية، أو تدعم سياسة وحضور حلف الناتو في أوروبا.

يعترف المؤلف بأنه كان صحافياً فاسداً، يتلقى هذه النقود مثله مثل غيره، بحسب سرديته، ولكن اعترافه يبدو، أشبه بدفاع كاذب أمام القضاء، فحواه: "لقد كنت صحافياً أخلاقياً جيداً.. لكنهم أفسدوني!"

لكن سياقات رواية التفاصيل في الكتاب تبدو هذيانية، أكثر من سعيها لبناء مرافعة اتهامية، فهو على سبيل يجعل نمط السلوك العام في دولة خليجية هي سلطنة عمان، ولا سيما استقبال الصحافيين المستضافين لديها، في فنادق فارهة، طالما أنها قامت بدعوتهم لزيارتها، دليلاً على قيامها بشراء ذمم الصحافيين!

وهذا مثال من كمٍّ من الادعاءات، التي تدور حول فكرة واحدة متكررة خلال 400 صفحة، في النسخة العربية، تقول بأن الصحافيين الألمان يبيعون ذمتهم وضمائرهم مقابل المال، وأنه بالقياس مع الأنموذج الألماني، فإن الصحافة كلها حول الكوكب محكومة بالفاسدين، ما يؤدي إلى الاعتقاد بدقة ما يقوله من أنه "يمكن أن يكون لديك صحافي أرخص من عاهرة جيدة مقابل بضع مئات من الدولارات في الشهر"!

هنا يمكن للفكرة أن تعبّر وبتوازن عما يجري في أمكنة شاسعة حول الأرض، فيما لو كانت تتّسع، لتوصف قيام الأنظمة، التي استهدفتها الولايات المتحدة بالممارسات نفسها، لا بل الأسوأ منها، فهي أيضاً تقوم بشراء الصحافيين، الذين يدافعون عنها وعن ممارساتها القمعية، ويؤدون لها خدمات التشكيك بالأنظمة الخصمة، والترويج لفساد المعارضين! لكنها حين تستشعر وجود صحافيين يرفضون أن يكونوا بيادق بيدها، تقوم بسجنهم، أو تقوم بقتلهم!

لكن ضمن المنطق الشعبوي اليميني واليساري على حد سواء لا شيء يتسع مطلقاً، سوى افتراض المؤامرات، ليبقى مغلقاً على نفسه حتى النهاية.

الكتاب مسطرة اتهامات عامة، لن ينجو منها أحد من العاملين في المهنة، وهو يتناسب بشكل مذهل مع نوابض إعلام النظام الأسدي، الذي دأب طيلة دزينة من السنوات، على تكرار أن سوريا تتعرض لمؤامرة كونية، وأن هناك ثمانين دولة اشتركت بها!

وهو من أجل إثبات هذا الأمر يتوجه للبحث عن الأدلّة، في أكوام هائلة من منتجات الهراء الشعبوي، المنتشرة حول العالم!

نماذج كثيرة عربية وأجنبية قام باستضافتها في وسائله الإعلامية، كانت دائماً تكرر ما يقوله مؤلف هذا الكتاب، لكنها كانت تتلكأ في تفسير حراك الواقع، ولا سيما منه قيام الثورات ضد الأنظمة التي تدعي معاداة الإمبريالية، ثم تأخذ من الثائرين موقفاً معادياً، كما يفعل اودو أولفكوتيه هنا، ومن أجل التعريض بهم، تقوم بوضعهم مع تاريخ كامل من ممارسات مشينة، ارتكبتها أجهزة أمنية شرقاً وغرباً، فضحها صحافيون محليون حول العالم، في خلاط، يصبغ كل شيء بلون واحد، لا يأتي إلا من خلال طبيعة متجانسة!

غير أن السؤال الذي لن يعثر القارئ على جوابه، لا في هذا الكتاب، ولا في غيره، يقول: إذا كنتم تعرفون أن الممارسات والضغوط من قبل الاستخبارات تحكم هذه المهنة، لماذا لم تقاوموها حال وقوعها، وتجاهلتموها حتى صرتم فاسدين؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها