الخميس 2023/01/19

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

"ما تخيله الحفيد" ذات سنة في الموصل

الخميس 2023/01/19
"ما تخيله الحفيد" ذات سنة في الموصل
الموصل في السبعينات
increase حجم الخط decrease
في رواية "ما تخيّله الحفيد" لمروان الدليمي، الموصل مدينة ذات طبقات تاريخية مغرية للحفر فيها، قديماً وحديثاً، وإظهار ذاكرتها وتقاليدها وطقوسها، عدا عن جماليات أمكنتها لما تمتلكه من خصوصية، وتفرّد لم يجد مساحته المستحقة في فنون السرد كما وجدته مدن عريقة مثل بغداد، والقاهرة، وحلب، ودمشق، وطنجة، وغيرها من المدن التي لمس القارئ روحها، وعجائب ما يدور في دخيلة ناسها وأمكنتها. وذلك في روايات، وقصص، على امتداد الوطن العربي، وعاشها القارئ في بطون نصوص بعينها. في هذه الرواية، القصيرة نسبيا، نجد بعضا من الموصل، بشرا وأمكنة، عبر قراءة ذاكرة عائلة.

عائلة تقليدية إلى حد ما، تتكون من الأمّ أمينة، وأولادها الثلاثة: سليمان وهو والد راوي الأحداث، وشكيب المعتقل بجريرة أخيه الهارب غالب، وكان الأخير معارضاً للنظام في حقبة السبعينيات من القرن الماضي. يعود الابن "الراوي" من مغتربه في مدينة "مالمو" السويدية لزيارة أبيه المُقعد سليمان، ويحدثه الأخير، بمونولوجات طويلة، غير مترابطة بعض الأحيان، عما حدث في الماضي، وانتهى به إلى ما هو عليه، شيخا مقعدا يعيش في حمأة الذكريات، وينتظر موته بعدما فقد الصِّلة بما عاشه البلد من تحولات دراماتيكية لم يعد يفهمها. وكون سليمان ينتمي لزمن آخر، وأمكنة زالت، وشخوص ماتوا منذ زمن بعيد، أي موصل القديمة، موصل الخياطين وصناع الأحذية المحلية، والمقاهي التي يسهر فيها أبناء المحلة، وغزو الأفكار القومية واليسارية، ثم تلك الأزقة الخائفة ليلاً، يتحوّل إلى تاريخ ينبغي أن يُكتب ويقرأه البشر، وهو ما أراده الكاتب في روايته. إذن نحن في العائلة: الجد والأب والأخوة والأم ونمط العلاقات داخل الأسرة، أي وسط جو نفسي يخلق تماسكاً للرواية وإغراء لمواصلة القراءة كي يصل المرء إلى حقيقة ما حدث في تلك البيئة المهملة قبل عشرات السنين.

تشكّل العائلة وخباياها وأسرارها، أسرار أبنائها خاصة، مرجعية للسرد، والحوارات، والوشائج بين فرد وآخر. الحفيد، حفيد الجدة أمينة، يستمع للأب المقعد، والأب يغوص في ذاكرته التي يعود معظمها إلى حقبة السبعينيات. رغم أن الجدة أمينة، وهي محور الأحداث تقريباً، قدمت من ماردين التركية إلى الموصل لتتزوج الجد وتكون شاهدة على عسف السلطة في تعاملها مع معارضيها، وشاهدة على تغيّر أحوال المدينة بين ماض بعيد وحاضر قلق. وعسف السلطات في العراق الحديث سيرة تتكرر كل حقبة، ومع كل جيل. إذ سجنت الجدة أمينة وتعذبت بسبب أولادها، وهي حكاية تأكل ذاتها مراراً، فلطالما ذهبت عائلات بجريرة أبنائها، سجناً، وتشريداً، وهجرة، وحصاراً نفسياً واجتماعياً. والخيارات الفردية شبه معدومة، فالمصائر مقررة سلفاً من قبل السلطة والمجتمع. كان الأب سليمان يستعيد تاريخاً ميتاً، كل ما نزفته ذاكرته قصصاً لحياة لم تعد موجودة. فالاهتزازات طاولت كل شيء في "أم الربيعين". وقراءة تاريخ ماض ينحت لغة سلسة تنساب برهافة، وهي تقود القارئ إلى كشف لما تفكر به الشخصيات: مخاوفها ورؤاها وأحزانها.

وقد استحضر الكاتب فترة ما قبل الحرب الإيرانية، وما حملته من صراعات سياسية وحكايات عن أجهزة الأمن، التعذيب ومطاردة المعارضة السياسية للسلطة. تلك الحكايات انتشرت في معظم المدن، تركت آثارها في كل عائلة تقريباً، وقد ساهمت أجهزة الأمن والمنظمات الحزبية والإعلام الحكومي في خلق جو من الرعب والخوف يشيان، بالتأكيد، عن تجارب حقيقية خاضتها شخصيات معارضة من كافة الأطياف الاجتماعية والحزبية.

غلبة التحليل النفسي وتتبع الأفكار الداخلية، طغت على تفاصيل هذا العمل، وذلك عبر الاستبطانات الداخلية لمعظم الأفراد، سواء وهي تدلي بهواجسها أو حين يسترجعها الأبن، والأب، والجدة أمينة، وبقية أفراد العائلة. وبعض تلك الهواجس والاستبطانات يأتي بحجم أكبر مما يهيأ لنساء ساذجات غير متعلمات، مما يوحي بدور كبير للراوي لينقل تلك الظنون، والتحليلات، والمخاوف، إلى مائدة الرواية. الأمر الذي يضع النص في مستوى واحد من آليات البوح والتعالق مع المحيط، على اختلاف الشخصيات ومستويات وعيها. إلا أن تلك التقنية أضافت سعة إلى مساحة الزمن، وإلى المكان إلى حد ما.

بوح يحتمل الرمز عبر الأب المشلول وقصص حب مجهضة. وشائج بين عرب وأكراد من خلال قصة علاقة جمعت الأب سليمان، شاباً، والفتاة آمال القادمة من مدينة السليمانية لتدرس في أحد المعاهد. واقع السجون وعلاقة السكان به، كلها إضافات لتاريخ موصلي غير مكتوب. أخيراً التموجات السياسية حين تثقل على مصائر البشر وتحرفها عن مسارها المألوف، وهي ظاهرة طالما فعلت فعلها في حياة العراقيين أجمع منذ عشرات السنين.

رواية "ما تخيله الحفيد" مصائر "مأساوية" لعائلة موصلية عاشت هناك ذات مرة: خرجت أمينة من السجن فاقدة لعقلها، وأعدم ابنها غالب بعد عودته من دمشق إلى العراق بدسيسة أمنية، وشلّ الابن سليمان وأصبح مقعدا، وهاجر الحفيد بحثا عن الخلاص ليستقر في مدينة "مالمو" السويدية. وهذا هو الواقع. لا يمكن تغييره بالخيال، على الأقل في المدى القصير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها