- تبدو الرواية في جانب منها على الفقد للأب الذي يهتم بالنباتات والكتابة، وعلاقته بالابنة فيها شيء من التمزّق، الأب لا يقوم بدور الأبوة النافلة "التقليدية"، وفي الوقت نفسه الراوية في الكثير من الجوانب الحياتية تشبهه؟
* لا أودّ الكلام عن حياتي أو عن حياة أبي في البًعد الخاص أو الحميم. لا شك أن في "أعشاب ضارّة" سرد عن صعوبة العلاقات العائلية، أو الأبوة والبنوّة، خصوصاً في ظروف حرب أهلية، حيث الأب مهمّش، مستوحش ووحيد، وشيئاً فشيئاً مدمّر. شخصياتي كائنات حرّة، ويشير العنوان إلى ذلك. شخصيات تنمو وتتحرك في مجتمعات لا تشبهها ولا هي تعترف بها. الحرية هي دوماً خيار صعب وغالي الثمن. الواقع أنّ الحرية ليست بالفعل خياراً. أن تكون حراً هو أن تكون ما أنت عليه. وبالطبع يفقد الأب دوره لأنه لا يستطيع حماية ابنه أو ابنته، مما يحيط بها من أهوال ومخاطر، ولأنّه منفي بين أهله، إذ هو لم يتعصّب لأي انتماء. والثمن هو العزل والإقصاء ورفع الحماية. هذا الأب يصير ضائعاً في هويته كأب، وأيضاً كرجل، لأنه غير قادر وغير راغب في القيام بما يطلبه منه المجتمع العنيف الكاره.
- في حوار سابق، تقولين إنّ الرواية، عدا عن أنها تحكي عن المنفى الداخلي والعجز عن التكيّف مع عالم مدجّن، هي رسالة حبّ.. متى اكتشفت هذا الحب فعلياً؟ هل بعد رحيل والدك الشاعر محمد العبدلله؟ أم بسبب بُعده وعيشه في بيروت وأنت في باريس. أم بسبب الحرب، أم بسبب شخصه؟
* مرة أخرى الرواية أبعد من تفاصيل حياتي أو حياة أبي التي لا أريد التكلّم عنهما، لكن "أعشاب ضارّة" هي بالتأكيد رسالة/أغنية حب، وهي أيضاً نوع من تحيّة تقدير لأبي، إذ فيها الكثير منه، أو ممّا أتخيّل عنه على الأرجح. لكنّها على الأخص سؤال حول المنفى، والمنفى الداخلي، والهامشية، وأيضاً في تيمة الذاكرة. و"أعشاب ضارّة" هي أيضاَ حكاية حبّ. وحوار مكتوم يسمعه القارىء عبر الفصول المنفصلة والمترادفة لصوتي الأب والابنة. حوار بين حبيبين لا يُحسنان الكلام أو التواصل... سوى ربما بعد أن ننهي قراءة الرواية يغدو لهذا التواصل معناه.
- هل يمكن القول أنّ الرواية هي بمثابة رثاء للأب؟
* تنتهي الرواية بقصيدة كتبها أبي وقمت بترجمتها. هي صدى للرواية التي تبقى رواية...
- في الرواية كنت تكتبين الشعر، وأنت صغيرة أو في المدرسة، لماذا لم يكتمل هذا المشروع، مع أنّ الرواية مفعمة بالشاعرية، وثمة مقطع فيها يبدو نشيداً روائياً؟
* كنتُ دائماً أكتب. ما تغيّر مع هذه الرواية الأولى هو جلوسي الجدّي إلى الطاولة تقريباً يومياً. صحيح أني في ما كتبت صغيرة كفتاة، الرواية، كان هناك الشعر. لكن الشعر، وأنا أقرأه باستمرار، هو حالة أبعد من كتابة القصائد. ربما يكون كيفية تحسسنا للعالم، قد يكون في اللوحة أيضاً أو في قطعة موسيقية. أو في رواية. أشعر بالسعادة حين يُكتب في مديح "أعشاب ضارّة" أنها قصيدة. أو أن لغتها تخلق حالة شاعرية. ليس مهمّاً أن يكون تعبير "لغة شاعريّة" دقيقاً بالنسبة لرواية "أعشاب ضارّة". المهم أن يكون السرد قادراً على إيقاظ هذا البُعد الشعوري العميق...
- يبدو حضور الأم خجولاً في النص، لناحية العلاقة بين الرواية والأب والمدرسة والبيت والسفر..
* ليست "أعشاب ضارّة" رواية عائلية، كما أنها ليست رواية عن الحرب. كل ما يتعدّى علاقة الأب والبنت يبقى خارج دائرة الضوء، مموّهاً وفي العتمة. حتى المكان والحرب والأخ والأم. إنه خيار أدبي حقيقي التزمت به. إنه خيار تقني سردي وليس خياراً "عاطفياً". نوع من الاكتفاء بالمساحة، أو التركيز في الحيّز المقفل.
- في نص الرواية، حزم الأغراض وقصص التنقل الى أمكنة آمنة هرباً من الحرب المتنقلة، ثمّة ما يذكرنا بكتاب "حبيبتي الدولة" لمحمد العبدالله، كيف علاقتك بهذا الكتاب؟
* أنا أحبّ كل ما كتبه أبي، لكني لا أستطيع أن أقول لك مدى تأثير ذلك فيّ. بل أعتقد أن كتابتي هي مكان حر من أي تأثير مباشر... تأثرت بكتابته، كما هو تأثري بكل ما قرأت من أدب عظيم، أو حتى من غير الأدب. لكن في مكان ما، أعتقد بالفعل أني أشبههما في رؤيتي للعالم، في شدّة الحساسية في التقاط هذا العالم أو في صعوبة الإذعان لقواعده المفروضة وشروط استعمالاتها القاسية لمن يتحزّب بشدّة للحرية...
- عانيتِ في المدرسة من أسئلة الهوية والطائفة في لبنان، شعرتِ أنّك غريبة في هذا المجتمع العنيف، كيف كان الواقع في فرنسا في ما يخص العلاقة بالهوية؟
* تعاني شخصياتي من صعوبة الانتماء إلى "قطيعيّة" المجتمع، أو ما قد نسمّيه الغالبية التسلّطية، أكان ذلك في لبنان إبّان الحرب أو في فرنسا في مجتمع السِّلم. ليس عنف العالم وقفاً على الأزمات المسلّحة أو همجيّة التقاتل. بطلتي، الراوية الصغيرة، لا تعيش وحشتها بشكل أقل حدّة في فرنسا منها في لبنان. فذلك المنفى الداخلي لا علاقة له بمكانك الجغرافي. إننا نعيش في عالم شديد العنف لا مكان حقيقياً فيه لمن هو مختلف أو متفرّد بحريّته. الثمن غالٍ جداً، ومثال شخصية ساندرين، صديقة الراوية، معبّر جداً عمّا أريد قوله. ساندرين الفرنسية المنفيّة في بلادها هي أيضاً. في روايتي الثانية "أزرق ليليّ"(*) تركيز إضافي مكثّف على علاقة المنفيّ بهويته الانسانية، وتلك الصعوبة الهائلة بالانتماء إلى العالم بشروط عبثية في قسوتها... هذه تيمة تضني عدداً كبيراً من الكتاب، أو هو سؤال يعذّب كثيرين من الشباب عموماً. هذا عصر صعب...
- ما رأي والدتك بالرواية؟
* إن كانت أمّي أحبّت الرواية؟ يجب أن تسألها. أعتقد أنها بعد قلق أو خوف عليّ – هي تخاف من كل شيء- أعتقد أنها سعيدة وفخورة. هي قرأت "أعشاب ضارّة" بعد صدورها، في ليلة واحدة، وكلّمتني في الصباح وقالت أشياء جميلة جداً وكثيرة. لم تقرأها قبل النشر لأنها لا تريد أن تتدخّل، كما قالت. رأيها في الرواية مدعاة فخر لي وفرح أيضاً، فهدى بركات على ما أعرف، متطلّبة جداً وقاسية في أحكامها الفنيّة...
(*) Bleu Nuit
Editions Sabine Wespieser
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها