الجمعة 2023/01/13

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

"ماء حيّ" لكلاريس ليسبكتور: يدي على الفونوغراف..يرتجّ تحتها العالم

الجمعة 2023/01/13
"ماء حيّ" لكلاريس ليسبكتور: يدي على الفونوغراف..يرتجّ تحتها العالم
"كافكا الكتابة النسائية"
increase حجم الخط decrease
"مِن كُل ما أشعُر به بداخلي، عرفتُ ما هو الجحيم".
- كلاريس ليسبكتور

قارئ رواية "ماء حيّ"(*) للكاتبة البرازيلية كلاريس ليسبكتور، يحسب أنه أمام "قصيدة نثرية كثيفة" على ما كتبت المترجمة صفاء جبران في المقدمة. فالكاتبة آتية من موروثات ثقافية متعدّدة، أوكرانية، يهودية، برازيلية، لديها "موهبة للشغف" وتعتبر الكلمة "بعدها الرابع"، والكتابة هي التنفس والماء والطعام من اجل البقاء على قيد الحياة، و"هي استخدام الكلمة كطعم"(السمكة)، وأن نكون أمناء، فلا نقع في مصيدة الكلمة الفارغة أو اللا-كلمة، وتستحق (أي الكتابة) المغامرة حتى لو بلغت "حدود الجزع". وتكتب كلاريس برُموز "هي حركات أكثر من أصوات"، وتتبع "المسار الملتوي للجذور التي تفجّر الأرض"، وتشير إلى أنه "من الافتقار للمعنى سوف يولد معنى"، وفي لحظة الشدّة تقول: "عندما يحترق جذع يابس أتلوّى كاللهب". و"تغلف غابة الكلمات الوعرة" بكثافة ما تشعر به وتعيشه...

وما تكتبه كلاريس ليسبكتور ليس رواية بالمعنى التقليدي، فالكاتبة والتمرّدة وصاحبة الأسلوب الثوري "لا تريد التقيّد الرهيب"، بل تكتب بلغة مبتكرة وحرّة، تسجّل لحظات الامتلاء والخصب، "تكشف الزيف في العملية الانتقالية بين الشعور والكلمة المعبّرة عنه" بتعبير الناقد شاكر مصطفى... ولعلّها السبّاقة إلى تدمير الاسلوب التقليدي في الأدب البرازيلي، تاركة بصمة متميزة، كواحدة من أرقى الكتّاب في عصرها، تنتمي الى المرحلة الثالثة من الحداثة البرازيلية (المعروف أيضاَ باسم جيل الـ45) والذي اتسم بالاهتمام الشديد بالكلمة والشكل، بينما أخذ يستكشف مواضيع بشرية بشكل أساسي. تقول صفاء جبران: "مارست كلاريس الأشكال المختلفة للرواية والمونولوجات الداخلية بعيدة المدى وتكنيكات السرد مثل تيار اللاوعي مما أدى إلى مقارنتها بمثيليها من المحدثين من أمثال فرجيينيا وولف وجيمس جويس". وقال المترجم الأميركي غريغوري راباسا عن ليسبكتور، إنها شخصية نادرة، تكتب مثل الأديبة البريطانية فيرجينيا وولف، وتبدو حسناء كالممثلة مارلين دييتريش، وقد حققت شهرتها الأدبية حينما كان عمرها 23 عاماً مع صدور أول رواياتها بعنوان "قريباً من القلب البرّي"1943...

كلاريس ليسبكتور التي لقبت بـ"كافكا الكتابة النسائية" و"تبدو كأثنى الذئب، ذئبة خلابة" بتعبير الشاعر فييرا جولار، قاومت في كتاباتها التصنيف كما نبذت فكرة التسمية بالأنثوي، على الرغم من استحواذ الشخصيات النسائية على أدبها القصصي، باستثناء رواية واحدة. تغوص ليسبكتور، على لسان الراوية، في عالم الشخصية الأنثوية وأحاسيسها ومشاعرها، منطلقةً من القضايا الحميمية نحو تلك العامّة. تكتب بوحي من وجدانها، و"كانت تُوظِف اللغة تبعاً لأصولها والغوص في أعماقها بحثاً عن معضلات ومشاكل الذات البشرية". يتسم أسلوبها النثري أيضاً بأنه ينقل القارئ نحو "الأحاسيس الروحانية المثيرة للذكريات فائقة الوصف، طلاقة في التعبير تشكل من خلالها للمتلقي أسلوب لغوي غامض، لغة تتجاوز بها شكل الكلمة الصحيح تُمكن شخصياتها وقرائها من أن يمارسوا نغماً حسياً عالي الرفاهية" (نيلسون إتش).

كتاب "ماء حيّ" عبارة عن سرد روائي يحمل صفة المونولوج أو المناجاة، ويتّسم بالسيولة والتمرّد الشكلي، يتحدّى نماذج العناصر السردية من حيث الزمن والحبكة والشخصيات بأنه "مشحون بغنائية شعرية تحتضن في طياتها جمالية نثرية". بِلغة شعرية محمَّلة بالرموز والإيماءات، يُضيء  تشتُّت رسّامة وحيدة، تسرد سلسلةً من التأمُّلات والاستطرادات حول الوقت والحياة والموت والأحلام والكائنات والإنسان والوجود. تأملات لا نهاية لها حول: الوقت، الحياة، الأحلام، الكائنات، الشجاعة، الخوف، والموت - وقبل كل شيء حول فن الخلق والكتابة، ومعرفة كيفية استخدام الكلمات في لعبة الأصوات والصّمت، ثم توظيف تلك الكلمات بطريقة مشابة للرسم بالألوان.

تقول صفاء جبران أن المثير للاهتمام في "ماء حيّ" هو عدم وجود موضوع مركزي، كما أنّ السرد غير خطي. اللغة رشيقة وقوية، وتتألف من صور متعددة للتدين والوحدة والموت والولادة. تقول ليسبكتور إنها أثناء العمل على كتاب ما، تدوّن أفكارها بمجرد أن تدور في رأسها، ما يخلق سلاسل من الأفكار والأفعال بلا هدف رئيسي. فهي ترغب في رواية أكثر وعيًا بكل لحظة تمر ولا تتحلل في اللغة لدرجة الغرق فيها.

وكلاريس ليسبكتور من أهم كاتبات البرازيل واللغة البرتغالية، ولدت لعائلة ليتوانية يهودية فى منطقة فولينيا غرب أوكرانيا فى 10 ديسمبر 1920. وبسبب معاداة السامية وما صاحبها من عنف، هاجرت الأسرة إلى البرازيل العام 1922 فنشأت كلاريس في مدينة ريسيف، حيث أظهرت تفوقًا دراسياً ملحوظاً، وكانت أولى رواياتها هي "قريبًا من القلب البري" في 1943، التي كتبتها أثناء دراستها للقانون في جامعة ريو دى جانيرو. وقد تنوع إنتاجها الأدبي بين القصة القصيرة والرواية وأدب الأطفال والمقالات والمراسلات، حيث خلّفت ما يربو على العشرين كتابًا.

من الكتاب:
أكتب لك بكلي وأشعر بطعم أن أكون، أما طعمك فهو مجرّدٌ مثل اللحظة. أنا أيضاً أستخدم جسدي بأكمله عندما أرسم، فعلى القماش أثبِّت ما هو معنويّ، أنا جسدٌ يصارع جسداً. إنّ الموسيقى لا تُفهم، بل تُسمع، لذا اسمعني بكامل جسدك. عندما تأتي لتقرأ ما أكتبه سوف تسأل لماذا لا أقتصر على الرسم وعلى استعراض لوحاتي بما أنّي أكتب بغلاظة وبتشتُّت. أشعر فجأة بحاجة للكلمات- وما أكتبه جديدٌ عليّ، لأنّ كلمتي الحقيقيّة لم تُلمس حتى الأن. الكلمة هي بُعدي الرابع.

انتهيت اليوم من اللّوحة التي أخبرتك عنها. انحناءات تتداخل في خطوط سوداء رفيعة، وأنت، كالعادة، ترغب بمعرفة السّبب- ولكن السّبب لا يهمني، فهو مادة ماضية- سوف تسألني لِمَ الخطوط السّوداء الرّفيعة؟ السبب هو نفسه، السرّ الذي يجعلني أكتب الآن وكأنّني أكتبُ لكَ، أكتبُ شيئاً كروياً، متشابكاً ودافئاً، ولكنه في بعض الأحيان باردٌ كاللحظات الطازجة، مياه تيّارٍ تترقرق وحدها.. هل يمكن وضع ما رسمته على هذه اللوحة في كلمات، بالقدر عينه الذي يمكن  للكلمة الصامتة أن تكون مشمولة في صوتٍ موسيقي؟

يبدو أنّني لم أخبرْ يوماً كيف استمع إلى الموسيقى- أدعُ يدي تستريح بلطفٍ على الفونوغراف، فتهتزّ باعثةً التذبذبات عبر جسدي كلّه: وهكذا أكون أستمع إلى كهرباء الذبذبة، الرّكازة الأخيرة في عالم الواقع، بينما يرتجّ العالم تحت يديّ....
(...)

في الكتابة، لا أستطيع صناعة شيء، كما في الرسم، عندما أعدّ لونًا من عدّة ألوان. ولكنّني أحاول أن أكتب لك بكامل جسدي، أطلق سهمًا سوف يعزّز في النقطة الطريّة والعصبيّة للكلمة. جسدي المتخفّي يقول لك: ديناصورات، إكتيوصورات وبليسوصورات، بمعناها الصوتيّ لا غير، ولكنْ هذا لا يعني أنّها جافّةٌ مثل القشّ، بل بالعكس هي نديّة. انا لا أرسم أفكاراً  أرسم الـ"دومًا"، مستحيل التحقيق، أو الـ"أبدًا" وهما متعادلان. قبل كلّ شيء، أنا أرسم الرّسم. وقبل كل شيء، أكتب لك كتابةً صعبة. أريد أن أمسك الكلمة بيدي، هل الكلمة شيء؟ ومن اللحظات أستخرج عصارة الثمرة. عليّ أن أعزل نفسي من أجل الوصول إلى لبّ الحياة ونُواتها. اللحظة هي النواة الحيّة.
____________
 (*) تصدر "ماء حيّ" قريباً عن منشورات "الآداب" في بيروت، ترجمة صفاء جبران، وهي الرواية الثانية التي تترجم للكاتبة إلى العربية، بعد رواية "ساعة النجمة" التي صدرت عن منشورات "الكتب خان"، وسبق أن تُرجمت لها قصص في مجلة الآداب وموقع حكمة ومدوّنات أخرى...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها