الإثنين 2022/09/05

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

سيد حيدر رضا: الشكل الهندسي ذَكَر أو أنثى...والكَون دائريّ

الإثنين 2022/09/05
increase حجم الخط decrease
لا بد من القول، بداية، أن الفن الهندي المعاصر لم يلقَ اهتماماً بالغاً في بلادنا. نحن مشغولون، غالباً، بالفن الغربي وبتطوّراته العديدة، كما من الصعب رصد الحركة الفنية في مختلف أنحاء العالم، ما لم يكن هناك حافز لذلك، يتعلّق بظرف أو بموقعة ما. وجاء طرح لوحات عديدة للفنان الهندي سيد حيدر رضا (أو ريزا) في المزاد العلني، كي ينبّهنا إلى أهمية هذا الفن، لا سيّما أن دار "كريستيز" اللندنية، التي تقوم بهذه الخطوة، هي من دور المزادات الأهم في العالم. هذه الدار الشهيرة كانت تأسست في 5 ديسمبر 1766 من قبل جيمس كريستي، وهي تنظم، من خلال 85 غرفة، ما يقرب من 450 بيعًا سنويًا في أكثر من 80 فئة مختلفة من الأعمال الفنية. ويتضمّن ذلك اللوحات والأثاث والمجوهرات والتصوير الفوتوغرافي والسيارات والنبيذ. وللمناسبة نشير إلى أنه في العام 2017، باعت الدار أغلى لوحة في العالم حتى الآن: "سالفاتور موندي" للفنان ليوناردو دافنشي، والتي بلغ سعرها في المزاد 450.3 مليون دولار.
 

يُعرف سيد حيدر رضا كأحد الرسامين الهنود الرائدين في جيله، خلال القرن العشرين والعقد الأول ونصف العقد من القرن الحالي.. ولد في 22 فبراير/شباط 1922 بمقاطعة ماندلا في ماديا براديش، ونشأ مع أربعة إخوة وأخت. بدأ الرسم في سن الثانية عشرة، وأكمل دراسته الثانوية بالمدرسة الحكومية الثانوية في داموه بماديا براديش. ثم التحق بمدرسة ناغبور للفنون. شارك، العام 1947، بالتعاون مع KH Ara و FN Souza في تأسيس مجموعة"ثورية" أطلقت عليها تسمية  The Revolutionary Bombay Progressive Artists Group. هدفت المجموعة إلى التحرر من تأثيرات الواقعية الأوروبية في الفن الهندي، وإنشاء رؤية خاصة تأخذ في الإعتبار تراث الهند الفني. في العام 1950، حصل على منحة دراسية للرسم في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس.

يعترف رضا بأنه "أحب باريس من النظرة الأولى"، حيث أقام في قلب حي الفن في مونبارناس. ذهب إلى حفلات الأوبرا والباليه، قرأ ألبير كامو، جان بول سارتر وريلكه، كما كان أول فنان غير فرنسي يحصل على جائزة النقّاد Prix de la Critique المرموقة، العام 1956، التي منحته اعترافاً دولياً والحرية المالية للسفر في أنحاء البلد الذي تبناه. خلال الحقبة الممتدة من منتصف خمسينيات إلى منتصف ستينيات القرن الماضي، سيطرت مشاهد المناظر الطبيعية الفرنسية على أعماله، التي تميزت بضربات الفرشاة السميكة وبتكديس اللون. تأمّل رازا أعمال ما بعد الانطباعيين مثل سيزان وغوغان وفان غوخ، وبدأ في استخدام الألوان كأداة للبناء، والتحول من الغواش والألوان المائية إلى الألوان الزيتية. مع مرور الوقت، صارت المناظر الطبيعية لديه تميل أكثر فأكثر نحو التجريد. كما عاودته ذكريات الطفولة التي قضاها في قرى صغيرة كثيفة الغابات – Tarovan التي تعني غابة التأمل، حيث تندمج الأشكال الرمزية المجردة لتعبّر عن الحالة المزاجية والجو الليلي الهندي.

لا يسع المرء إلا أن يتخيل نوع الصمت الذي اختبره حيدر رضا في طفولته، لأن هذا الصمت سيغمر أعماله في السنوات اللاحقة. لقد كان صمتًا ولد في أعماق الغابة الكثيفة، بأنفاسها التي لامست أكتاف الطفل، صمتًا مفعمًا بالكلمات، لم تولد فيها الحروف بعد. في لوحات رضا، يمكن للمرء أن يشعر بطبقات وطبقات من الصمت الملون، تكمن تحتها الكلمة التي لم تتشكل بعد. استناداً إلى هذا الشعور، رسم الفنان عمله Tapovan، العام 1972، وهو أحد الأعمال الأساسية في مسيرته، إذ بدأ حينها في دمج العناصر الحيوية لطفولته الهندية وتراثه الثقافي في لوحاته.

سعياً وراء المزيد من الإلهام ونفحة من الهواء النقي، عاد رضا إلى الهند في السبعينيات. زار مناطق كثيرة من البلاد، بما في ذلك الكهوف المهيبة في Ajanta و Ellora من ولاية غوجارات وراجستان وفاراناسي. شاء الإطلاع عن كثب على الثقافة الهندية، مما ساعده على إدراك أهمية الـBindu أي النقطة، وهو رمز قوي في العديد من الأديان مثل الهندوسية والبوذية والجاينية. أعادته ذكرياته إلى حدث وقع خلال أيام دراسته، إذ واجه صعوبة في التركيز في ذلك الوقت، فطلب منه معلّمه التركز على نقطة واحدة مرسومة على السبورة. قاده هذا الإدراك البسيط إلى ضخ المزيد من المفاهيم والرموز الهندية في لوحاته، بما في ذلك تلك المتعلقة بالمكان والزمان، بالإضافة إلى أشكال الطاقة الروحية. النقطة المذكورة ولدت، بالنسبة لريزا(رضا)، على جدار مدرسة متهالك في قرية كاكايا، لكنها سمحت له في سنواته الأخيرة بتوليد حقائق لا حصر لها في مئات اللوحات.

تتحرك لوحاته تلك نحو التخلص من أدنى تلميح للتوضيح، والانتقال أكثر فأكثر نحو الإبداع. "عندما أفكر في العملية الإبداعية، يبدو لي أنه يسمح أولاً بامتصاص الواقع بأكمله في نقطة - بيندو، ثم يشهد ولادة جديدة من النقطة نفسها"، كتب الناقد الهندي آشوك فاجباي.

وإذا كان رضا قد تذوّق النجاح في فرنسا، فلإنه كان دائماً يطرح على نفسه سؤالاً: "أين الهند في أعمالك"؟ عندها شرع في استكشاف التراث الهندي وبدأ البحث عن البيندو والماندالا (مخطط دائري يرمز إلى الكون). صار يزور الهند كل عام، وقرأ، من بين أمور أخرى، Bhagavad Gita أو Bhagavadgita (وهي الجزء المركزي من القصيدة الملحمية ماهابهاراتا. هذا النص هو أحد الكتابات الأساسية للهندوسية الذي غالبًا ما يُنظر إليه على أنه اختصار لكل العقيدة الفيدية védique). جذبت اهتمامه فكرة سوادارم بشكل خاص: "فكرة التركيز على شيء واحد في وقت واحد... تحتاج إلى تركيز طاقاتك. هذا ما يدور حوله البندو"، قال في إحدى المرات وهو يشير إلى اللوحة التي خلفه.

وإذ تتم مقارنة أعماله بأعمال الفنان الأميركي فرانك ستيلاّ، فقد أفصح رضا أنه في حين أراد ستيلاّ القضاء على أي إحساس بالروحانية في عمله، إلا أنه، أي رضا، أراد أن يغمر أعماله بها. بالإضافة إلى البندو، قدم جوانب أخرى من علم الكونيات الهندي بأشكال هندسية: القوى التكميلية لطاقة الذكر (البوروش) والأنثى (براكريتي)، على سبيل المثال، ممثلة بالمثلثات المستقيمة والمقلوبة. لا يرسم رضا ما يراه، لكنه يترجم رؤيته الداخلية من ذكريات المحسوس وغير المحسوس. ويشهد عمله على التأثير التوفيقي الذي يمزج بين الطبيعة والروحانية والثقافة الغربية والفلسفة الشرقية. الأشكال المتكررة في أعماله هي تجسيد للرموز الروحية الهندية للبندو (نقطة) المذكورة، التي هي مركز الخلق والوجود والماندالا (الدائرة). وسواء كنا نميّز في أعماله عن استحضاراً شعرياً وتركيبياً لمنظر طبيعي أو لتكوين تجريدي خالص بفضائل موسيقية، وسواء اعتبرناها من زاوية الدنس أو من زاوية المقدس، فإن لوحات رضا هي على أي حال دعوة للتأمل الفلسفي والمتسامي.

كما هو واضح، اشتهر رضا بتركيباته التجريدية والهندسية التي تصور المناظر الطبيعية والغابات والزخارف من الممارسات الروحية الهندية، مثل التانترا وعلم الكونيات وأبرزها مفهوم البندو. قام بدمج لوحة الألوان الزاهية مع ضربات الفرشاة الدقيقة، وذلك باستخدام الأيقونات الروحية الهندية لتطوير شكل من أشكال الفن التجريدي، الذي يركّز على الأشكال الهندسية، المتيّزة بدوائر متحدة المركز ومجالات ومثلثات. منذ ثمانينيات القرن الماضي فصاعدًا، تحول أسلوب رضا من الاستخدام الإيمائي والتعبري للون إلى استكشاف الشكل المنظم والأشكال الهندسية، مستوحياً من موضوعات الTantrism(تُعرف Tantra Yoga بأنها طريقة تهدف إلى زيادة الرغبة الجنسية وممارسة الجنس بشكل مثالي)، كما بدأ في استخدام أشكال هندسية لتصوير الظواهر الطبيعية، واستكمل استخدامه للون بتفسير رمزي للممارسات الروحية الهندية.

خلال هذه الفترة، ظهر البندو أكثر فأكثر في ذخيرة رضا. في عمله ماندالا (1975)، استخدم تصميمات هندسية من الممارسات التأملية الروحية والفكر الفلسفي الهندي، ودمجها مع الألوان الأساسية لخلق منظر طبيعي من الألوان مع البندو الموجود في وسط اللوحة. بحلول التسعينيات، وبسبب الحنين إلى الهند ودراسته للفن الهندي، انتقل رضا إلى استكشاف مفهوم الإنبات الذي يتجذر من البندو. في سلسلة إنباتاته (1991-2012) اعتمد البندو كنقطة انطلاق للأشكال الهندسية والألوان الأكريليكية القوية بشكل متزايد التي تذكرنا بالتقاليد الهندية الخاصة بالمنمنمات.

"أريد أن أخبر الرسامين الشباب أنه لا ينبغي أن يكونوا في عجلة من أمرهم للنجاح. لا يمكنك البدء في العرض في غضون عامين أو ثلاثة أعوام... أنا لست مثقفًا، لكني حققت ما لدي من خلال العمل في اتجاه واحد مركّز - البندو وإمكاناته اللانهائية"... كان يقول. وعندما كتب "سأحضر وقتي" في رسالة حب إلى الفرنسية جانين مونجيلا، رفيقة حياته التي تزوّجها العام 1959، لم يكن سيد حيدر رضا يتباهى بالجمال بل كان تأكيدًا لنوع من عرفان الجميل. لقد كان يعيش في باريس منذ حوالى عقد حينها، فنانًا شابًا يكافح من أجل البقاء، لكنه بقي هناك لمدة ستة عقود، وهي أطول مدة عاشها أي فنان هندي في فرنسا. لم يغيّر رضا جنسيته، واحتفظ بجواز سفره الهندي حتى النهاية. عاد إلى نيودلهي نهائيًا نهاية العام 2010، وتوفي في 23 يوليو 2016، ودُفن، كما أراد، في ماندلا بجوار قبر والده، بالقرب من نهر نارمادا، الذي كان يسميه "نارمادجي" ويذكره دائمًا باحترام عميق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها