السبت 2022/09/03

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

مازن معروف لـ"المدن": الأدب يحتاج قدراً من الاضطراب ليتجدد

السبت 2022/09/03
مازن معروف لـ"المدن": الأدب يحتاج قدراً من الاضطراب ليتجدد
كانت طفولتنا تهكماً غير مقصود على السلطة المتمثلة في أدوات الحرب
increase حجم الخط decrease
استطاع لبناني المولد وفلسطيني الأصل وإيسلندي الإقامة والجنسية، مازن معروف، أن يكرّس اسمه في عالم القصة القصيرة خلال فترة وجيزة، ملتقطاً أدوات قصه ولغته من عوالم فانتازية وكوميكسية وحياتية وخيالية وطفولية ولبنانية ومشرقية مضطربة. بدايةً، تجلى ذلك في كتابه القصصي الأول "نكات للمسلحين"(دار رياض الريس) الذي ترجم إلى عدد من اللغات الأجنبية، بعد وصوله للائحة الطويلة لجائزة "مان بوكر العالمية"، وكان مقدمة لإصدارات جديدة تمثلتْ في كتابه "الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه"(دار المتوسط)، والآن مجموعة "كيومٍ مشمس على دكّة الاحتياط"(منشورات هاشيت انطوان - نوفل)، وهي بحسب تعريفها "عن أولاد يحملون أسماء أخذوها من الشوارع التي نشأوا فيها، ويستعرضون يومياتهم بعد نهاية القتال الأهلي في بيروت، فيكتشفون الملاكمة والدراجات الهوائية والرصاص وغرفة الكراكيب. يوميات تعبّر عن مزيج فريد من الأحلام، الخوف، وانتظار حدوث شيء ما"...

عن الكتابة ومكانها والقصص الجديدة، كان هذا الحوار مع مازن معروف، مع التذكير بأن هذا الحوار، كان يفترض أن يحصل في مقهى من مقاهي بيروت بعد عودة مازن معروف من إيسلندا، لكن الواقع اليومي اللبناني "النحس" وحال المواصلات الرثة، جعلانا نلجأ الى تبادل الرسائل، بالطبع على وقع الانترنت المصاب بالبروستات.

- مكان مثل إيسلندا.. ماذا غيّر في جوهر كتاباتك؟

* آيسلندا مكان نقيض تماماً لبلادنا في كل شيء. تخيّل أن تُنتزع من محيطك الوحشي وتُرمى فجأة في مستقبل بارد ومعتم وشديد البيروقراطية والتنظيم والمادية. ستجد أنك لا تملّك أي أدوات للاستمرار أو البقاء. لقد حدث العالم بطريقة مختلفة تماماً عما اعتدتَه. ولم تكن موجوداً لتشهد الأمر. والآن أنت هناك وقد وصلت متأخراً. مثلما غادرتَ المكان الملتبس الذي نشأتَ فيه (بيروت) متأخراً. السكينة في آيسلندا شيء مربك. بلا أصوات مارة. لا زمامير سيارات عشوائية. لا حرائق نفايات. لا سائقي أجرة غاضبين. لا باعة جوالين. لا بشر يشهرون مسدساتهم ويطلقون النار لأي سبب. حتى ضوء الشمس بطيء. تشعر بأن عطلاً أصاب حواسك. نشاط حواسك كلها. غير أنك لا تزال متوتراً من الداخل. كأنك مكسو بطبقة عازلة من الخارج. أما في داخلك فأنت على أهبة الانفعال. تعرف أنك لست أكثر من خلل غرائزي الآن. الأسباب والمسوغات وراء ظهرك. في مدينة تبعد آلاف الاميال. ثم تصادف كل يوم وفي التوقيت نفسه رجلاً طاعناً في السن يقول لك "كن سعيداً. أنا سعيد. الأمر سهل". ولمَ لا. فالأشياء تعمل كما يجب. كل شيء آلي ومضبوط مسبقاً، ولا يوجد ما هو غير متوقع. كل هذا السلام سيدفعك للجنون. التخيّل هو درجة من درجات الجنون. نحن محكومون بالتقهقر إلى ماضينا. كما لو أننا نرفض لعب أي دور خارج مؤسسة الماضي. مزودون بإحساس دائم بأن شخصاً ما، حدثاً مجرّداً، تحالفاً مجهولاً، يسيطر على حياتنا. وذلك شيء لا يروق لنا. ولا يمكن معالجة ذلك الاحساس إلا بالجنون. الجنون العادي إذا شئت. قد تكون آيسلندا منحتني ذلك التبديل المفاجئ في شروط الحياة على المستوى الفردي. تبديل أحدث فيّ إرباكاً نفسياً وحواسيّاً، ودفعني لمحاولة فهم ذلك الإرباك بالمخيلة.

- هل خلَق المكان الجديد عالَمَه؟ أم بقيتَ مشدوداً إلى اضطراب الحياة في المكان الاول، أي البلد الأصل المحتل وبلد الشتات المشتعل بالتوترات؟

* نعم، لا أستطيع تصور الحياة خارج ذلك الاضطراب. وهذا ينعكس في قصص المجموعة. فبلادنا الممزّقة بين الاحتلال وبين الشعارات الطنانة والوهم والفساد والتبعية العمياء، تقول لك إنك، إن لم تنمُ وسط هذا الاضطراب، تنعزل وتموت. أقلع خالي عن التدخين بعد خمسة عقود، فارتبكَت رئتاه ومات. الاضطراب يصبح جوهر الحياة هنا، ومحرك الذات نحو سلوكيات سحرية وغير متوقعة، وإن مزعجة. ناهيك عن أن الأدب يحتاج قدراً من الاضطراب ليتجدد. اضطراب المؤسسة. وأنا لا استطيع العمل خارج شروط الكتابة التي اعتدتها في بيروت. حيث عليك المرور بحواجز واختبارات نفسية وعصبية وعاطفية في طريقك إلى طاولة الكتابة. يجب أن تلازمني دوماً نسبة من الخوف، التنبّه والحذر. خصائص نفسية تساعدني على صنع آلية كتابة وأخذ الشخصيات نحو مصائر لا تقل اضطراباً. الآيسلنديون مثلاً يملكون خيالاً بوليسياً يدفعني للتندر بالقول إنهم، ولخلُوّ مجتمعاتهم من الجريمة تقريباً، يندفعون لتخيّل الجرائم وكتابتها في روايات. لكن ألا تُعدّ هذه طريقة لإشباع اضطراب مجتمعي مفقود؟

- ماذا يعني أن تكتب ذاكرة الحرب بألسنة الأطفال؟

* تفحّص العلاقة بين الطفولة والحرب مجال ليس بجديد. هما عالَمان متضاربان للوهلة الأولى. فهناك اللعب والموت. المرح وصرخات الرعب. الضحك وفلاش القذائف. الاكتشاف الدائم والانصياع. جوهرياً، هما محكومان بالتضارب. فماذا يحدث إذا التقيا؟ عندما تلجأ إلى الطفولة فأنت تعيد النظر في الواقع. تستعير عينين أخريين لا تساومان، لمنحك شكلاً آخر للعالم والمفاهيم السوداء التي تحكمه. بوضعك الطفولة وجهاً لوجه مع الحرب، انت تربك مفهوم السلطة في المقام الأول، ومفهوم العلاقات بين البشر، العلاقات التي تنشأ محكومةً بالخوف. من خلال القصص أحاول أن اطرح سؤالاً: كيف نفهم الحرب؟ وإلى أي مدى ساومنا كأطفال على تلك الحرب؟ ثم هل كنا أطفالاً بريئين فعلاً؟ أم أطفالاً وحسب، غير محكومين بثنائية الخير والشر؟

- تكتب قصصاً بألسنة الأطفال، وقبل أن أقرأ حواراً معك في إحدى المقابلات عن تأثرك بعالم الكوميكس والرواية المصورة، انتبهتُ إلى حضور الكوميكس في قصصك في حوارات أبطال القصة، إضافة إلى مناخات مسلسلات الأطفال الخيالية، التي تتضمن جانباً من القوة والتحدي والسخرية والفانتازيا... هل يمكننا القول إن عوالم الطفولة (طفولتك)، هي مصدر إلهامك، في كتابة القصة؟

* كانت الكوميكس أول ما قرأته بشكل مستقل كطفل. أتذكر أنها كانت تثير فيَّ حماسة نحو أشياء لم أكن أفهمها تماماً. لكن كان يكفي أن لا تحملَ بُعداً تربوياً. قبل حوالى عشر سنوات، عدتُ للاهتمام بهذا الفن (عبر الرواية المصورة)، والذي يحمل إمكانات سردية تجعله اليوم صنفاً جديداً من الأدب، أو أدباً بديلاً إذا صح القول. كما أشعر بأنه أقرب إلى آلية عمل ذاكرتي، كون ما تبقى من حياتي كطفل هو مجرد انطباعات. فقد نشأتُ في شارع مضطرب من شوارع بيروت في ذلك الوقت. وكانت لنا طفولة مستعرة. دائمة الحركة. كما كانت لنا أخطارنا الصغيرة والتي كانت بالنسبة إلينا أخطر من أي شيء آخر. ربما كانت طفولتنا تهكماً غير مقصود على السلطة المتمثلة في أدوات الحرب. وما أكتبه الآن هو ربما محاكاة لذلك الوعي. وبالفعل، فهناك في كل قصة من قصص المجموعة، حدث واحد أو أكثر عشته بطريقة ما.

- تحضر الحرب في الكثير من نصوصك، وهذه التيمة كانت موضع اهتمام الكتّاب في لبنان على مدى سنوات الحرب وما بعدها، وكانت عنصر جذب للترجمة إلى اللغات الأوروبية.. ألا تلاحظ أن هذه التيمة استُنفدت في المدة الأخيرة؟ بمعنى أنه لم يعد الأجنبي المُترجِم، يريد فهم لبنان من خلال نصوص عن الحرب، وربما انتقلت التيمة إلى مناطق أخرى كسوريا والعراق؟ 

* نعم، تحضر الحرب بصفتها سلطة ممسوخة أو مجموعة من الأدوات العنفية. فشخصيات القصص تعيش مرحلة ما بعد الحرب مباشرة. ويخيم عليها نوع من إرتباك الوعي والتداخل بين ما هو حُلميّ وكابوسي وواقعي. إنه كتاب شخصي نوعاً ما. وإذا جمعته مع "نكات للمسلحين" و"الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه"، فسيشكل ثلاثية، وقد بدأت العمل عليه منذ حوالى ثلاث سنوات. للترجمة اعتبارات كثيرة في أوروبا، منها ما هو سياسي/ترند، ومنها ما يتعلق بالسوق نفسها. وقد يكون ما تقوله صحيحاً. لكني لم أفكر في أي من ذلك. ما أعرفه أن هناك اهتماماً بحثياً متزايداً بتاريخ الشرق الأوسط وآدابه، كما أن هناك اهتماماً باللغة العربية، باعتبارها لغة الوافدين الجدد ومن الضرورة فهمها.

- أين المنفى في نصوصك؟

* المنفى هناك طوال الوقت. إنه ببساطة بيروت، مكان القصص، والمدينة التي جعلتني فلسطينياً بذاكرة لبنانية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها