الأربعاء 2022/09/28

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

الحجاب ليس وحده في إيران

الأربعاء 2022/09/28
الحجاب ليس وحده في إيران
increase حجم الخط decrease
أثار خبر وفاة الصبية الكردية الإيرانية مهسا أميني، غضب بعض المجتمع العربي والعالمي بشكل كبير. وذلك بعدما تم اعتقالها وتعذيبها من قبل شرطة الإرشاد في إيران بسبب مخالفتها القانون الذي يفرض زياً موحّداً على نساء الجمهورية الاسلامية الإيرانية. ارتداء مهسا أميني لحجابها بطريقة "سيئة"، بحسب التعبير المتعارف عليه في إيران، أنهى حياتها وأعاد الجدل بشكل كبير حول الحجاب وأقنعته وتأرجحه بين التدين والتقليد والسياسة والتوجهات الفاشية، سواء الذين يفرضون منع الحجاب أو الذين يفرضون ارتداءه.

والإيرانيات نزلن إلى الشوارع في أكثر من 50 مدينة في جميع أنحاء إيران وشددن على التنديد بمقتل مهسا أميني وحرقن الحجاب وهتفن "امرأة، حياة، حرية"، و"لا نريد الحجاب القسري". وشبّهت نجار متحدة، أستاذة الدراسات الجندرية والنسوية في جامعة ديوك الأميركية، صور الإيرانيات وهن يحرقن الحجاب بحِراك حرق حمّالات الصدر في الستينيات. حينها، كان لهذا الفعل معان كثيرة في آن واحد: فهو تعبير عن التحرر والانعتاق من التقاليد والسياسات البالية، لكنه في الوقت عينه، كان تعبيراً عن رفض أوسع لحرب فيتنام والمجتمع الرأسمالي. وبالمثل، فإن الصور من المظاهرات في أنحاء إيران، المستمرة منذ الأسبوع الماضي، تعكس الاعتراض على الحجاب الإجباري والقسري وضد "شرطة الأخلاق"، لكن أيضاً على التنديد بسيطرة الدولة التي تضع رقابة على أجساد النساء وحياتهن. مع التذكير بأن قصة حرق حمّالات الصدر فيها شيء من الالتباس والشائعة. فينقل موقع "بي بي سي" أنه، قبل أكثر من خمسين عاماً، وخلال تظاهرة احتجاجية ضد مسابقة ملكة جمال الولايات المتحدة الأميركية في نيوجرسي، ظهرت الصورة الرمزية الأسطورية لنسويات يحرقن حمّالات الصدر. وفي هذه التظاهرة، ألقت مجموعة من النساء المكانس، وأقلام حمرة الشفاه، والأحذية ذات الكعب العالي في ما أُطلق عليه "حاوية قمامة الحرية". وتقول روبن مورغان، إحدى المشاركات في تنظيم التظاهرة آنذاك، إن الفكرة كانت تقوم على التخلص رمزياً من الأشياء التي تقمع النساء. وعلى الرغم من أن معظم النساء اللواتي شاركن في احتجاج "حاوية قمامة الحرية" كانت لهن تجارب سابقة مع حركات الدفاع عن الحقوق المدنية ومناهضة حرب فيتنام، إلا أنه لم يسبق لأي منهن التظاهر دفاعاً عن حقوق المرأة. وقالت مورغان: "لقد كنّا متمردات شابات نكتشف "النسوية" لأننا كنّا متعبات من إعداد القهوة وليس السياسات". وتعقّب مورغان على ذلك قائلةً: "بعض المؤرخين يعدّونها البداية الحقيقية لموجة النسوية الحالية". إلا أن ما علق في أذهان العامة من ذاك الاحتجاج كان تلك الصورة لـ "نسوية تحرق حمّالة الصدر". ومن المفارقة أن هذا الأمر لم يحدث على أرض الواقع. لقد قامت بعض النساء بالفعل بإلقاء ملابس داخلية وبينها حمّالات صدر في "حاوية قمامة الحرية" إلا أن مورغان تؤكد أنهن لم يقمن بحرقها.


وبالعودة الى الحجاب في إيران، فالنافل أنه في 8 يناير/كانون الثاني 1936، أصدر الشاه رضا شاه مرسوماً يَحظر كل الحجاب (الحجاب ووشاح والشادور) بشكل مفاجئ وسريع وقوي. كما حظرت الحكومة العديد من أنواع الملابس التقليدية للذكور، وتعرّض هذا القانون لانتقادات كثيرة من قبل علماء الدين الإيرانيين وكذلك من المتدينين من الشعب الإيراني، وربّما يعتبر الموضوع الأكثر إثارة للجدل في فترة حكومة رضا شاه في إيران. وفي مرحلة التمرّد على الشاه، كانت غالبية الإيرانيات الرافضات لحُكمه إبان الثورة، تتنافسن على ارتداء الشادور، بوصفهِ "أداة ثورية" في مواجهة الشاه، ومقاومة لسياسته "التغريبية"، لكن هذا لم يكُن دليلًا في ذاته، على أيّ قناعات دينية بحسب مواقع "رصانة" الإيراني، إذ كانت النساء المشاركات من كافَّة التيّارات السياسية. وقبل الثورة، اعتادت النساء، ارتداء أزياء غربية، بما في ذلك سراويل الجينز الضيقة وتنانير الميني-جيب والقمصان ذات الأكمام القصيرة، مع رواج أغلفة مجلات فيها نساء يرتدين ثياب البحر، في الواقع كانت إيران بين ثياب البحر والتشادور.

ولطالما تحول السفور والحجاب قناعاً للعمل السياسي أو للاحتجاج الثوري، ليس في إيران وحدها بل في الكثير من البلدان العربية والمشرقية. ففي العام 1920، عادت هدى شعراوي من فرنسا بصحبة ابنتها وزوجها على متن الباخرة التي تُقلّ سعد زغلول، وعند وصولها إلى المرفأ، نزلت الأم وابنتها سافرتي الوجهَين أمام الجموع التي احتشدت لاستقبال الزعيم سعد زغلول، ورفعت من يومها الحجاب، وسارت على مثالها كثيرات من سيدات ذلك الزمن. وكتبت تقول في مذكراتها: "ورفعنا النقاب أنا وسكرتيرتي سيزا نبراوي، وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذي يبدو سافراً للمرة الأولى بين الجموع، فلم نجد له تأثيراً أبداً، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته". وعاشت مصر مع الحجاب صولات وجولات، وكان قد أصبح علامة من علامات الأرياف في الزمن الناصري، وثمة فيديو لعبدالناصر وهو يسخر على الملأ من مرشد الإخوان الهضيبي عندما طلب منه فرض الحجاب على النساء، فقال له "مش قادر تحجّب بنتك الطالبة بكلية الطب، وعايزيني ألبّس طُرَح لعشرين مليون مصرية".. عبدالناصر أنهى كلمته بأنها حرية شخصية، اختيار وليست إجبارًا. لكن منذ السبعينات بدأ انتشار الحجاب والتحجيب مع موجة توبة الفنانات... وبات حجاب المرأة ونقابها جزءاً من معركة الإسلام السياسي في نسخته الحديثة في القرن العشرين، وتوغل الحجاب في المدينة، فظهرت متاجر محجبات عرضت أزياء حديثه للحجاب العصري(المودرن)، وباتت صورة النساء المتحررات في الزمن الغابر نوعاً من نوستالجيا ليس في مصر وحدها، بل أيضاً في الكثير من البلدان الشرق أوسطية، من غزة حيث تسيطر حركة "حماس" الآن، الى أفغانستان حيث تهيمن حركة "طالبان".  

في إيران تبدو قضية الحجاب والتشادور أعقد بكثير، باعتبار أن روح الله الخميني أعلن إيران جمهورية إسلامية. فبعد الثورة مباشرة، وفي غضون أسبوعين فقط من هيمنتها، قرَّر قادة إيران أن ترمُز النساء إلى الطابع الإسلامي للدولة، وفي 7 آذار/مارس 1979 فُرِض الحجاب الإلزامي على النساء، وفي صباح اليوم التالي 8 مارس/آذار– وهو اليوم العالمي للمرأة – خرجت آلاف النساء إلى شوارع المدن للاحتجاج على الحجاب الإلزامي. وقد فاجأت هذه المعارضة الواسعة، رجال الدين، فتراجعوا مؤقَّتًا عن القرار، ثمّ استخدم النظام على مدار العامين التاليين خطَّة القضم التدريجي لإعادة فرض الحجاب أو زي الجمهورية الاسلامية. ففُرِض أوّلًا في العام 1981 على موظَّفي الحكومة، وفُرِض على أيّ امرأة تدخُل إلى المكاتب والمباني الحكومية، ووُضِعت إعلانات في مختلف الإدارات الحكومية والمرافق والمتاجر تمنع دخول المرأة: "يُمنَع الدخول من دون ارتداء الحجاب"، ثم فُرِض على الطالبات(في تركيا العلمانية مُنع الحجاب بعد الانقلاب العسكري العام 1980). وفي نهاية المطاف، وتحديدًا العام 1983، فُرِض الحجاب على النساء كلهنّ في إيران -سواء كُنّ مسلمات أم غير مسلمات- فوق سن التاسعة، وحتى على الزئرات الى إيران. وأصدر البرلمان قانوناً يحث على معاقبة النساء اللواتي يظهرن في العلن من دون حجاب بـ74 جَلدة. وحددت الثورة الإسلامية الحجاب بالتشادور (عباءة سوداء فضفاضة تغطي الجسد من رأس المرأة حتى قدميها)، أما مَن لا تريد ارتداء التشادور فلديها خيار ارتداء زي شرعي مع منع ارتداء حذاء مفتوح يُظهِر أصابع القدمَين، أو حذاء ذي كعب عالٍ.

   
وقد نزلت بعد الثورة مليشيا الباسيج إلى الشارع لفرض الحجاب، مع رواج عبارات "حجابك أغلى من دمي" في جدران لبنان. وبحسب موقع "رصانة"، كانت حصيلة النساء المعتقلات بين العامين 2003 و2013 ما يقرُب من 30 ألف امرأة، وتعرَّضت أكثر من 460 ألف امرأة أخرى للتوبيخ؛ بسبب سوء ارتداء الحجاب، وغُرّمت أُخريات بمبالغ مالية تصِل إلى 800 دولار بسبب اللباس غير المحتشم. ويحثّ بعض الملالي، "شرطة الأخلاق"، على الضرب بيد من حديد على كافَّة النساء اللواتي لا يلتزمن بالحجاب، أو يرتدين الحجاب السيىء غير المتوافق مع شروط الحكومة الإيرانية. ودافع آية الله أحمد علم الهدى، عن ضرب عناصر الشرطة لامرأةٍ بصورة مهينة؛ بسبب خلعها الحجاب. وغداة فوز الرئيس السابق، حسن روحاني، بولايته الأولى العام 2013، قال خلال لقاء تلفزيوني إنه لا يرى فائدة من مراقبة ملابس النساء، بل إن الشرطة يجب أن تتركز مهامها في حفظ الأمن لعموم الشعب، وليس إجبار النساء على الملابس الفضفاضة والحجاب المحكَم. وعندما سُئِل روحاني عن رأيه في الحجاب الإلزامي، أعلن أنه يفضل ترك الأمر للاختيار الشخصي، فلا أحد يستطيع إجبار الناس على دخول الجنة بالتهديد وضرب السِّيَاط. تصريحات روحاني أقلقت النظام، خصوصًا بعدما خلعت نساء الحجاب خلال الاحتفالات التي أقيمت في شوارع طهران عقب إعلان فوزه.

ومهما بلغ عنف الحرس الثوري ومشتقاته، فإنّ ثمَّة تمرُّدات استطاعت، على مدى العقود الأربعة الماضية، أن تنتج آلياتها الخاصة للتهرب من فرض الحجاب، بعيداً من عيون النظام وأجهزته وحرسه الثوري، فتراجع حجم غطاء الرأس وتنوعت أشكال الألبسة وألوانها وراجت بقوّة عمليات تجميل الأنف وأعمال مزيّني الشعر، وثمة معبّر عن واقع الحجاب والسياسة في إيران يتجلى في تجربة الكاتبة آذر نفيسي التي مُنعت من التدريس بسبب عدم ارتداء الحجاب وقالت لطالباتها قبل أن تهرب من إيران: لنجرب بعد سبعين عاماً من الثورة الروسية ما إذا كان إيماننا الحقيقي بالأدب جديراً بأن يجعلنا نعيد صوغ هذا الواقع المظلم الذي خلقته لنا ثورة أخرى – تعني بذلك الثورة الخمينية. وكانت لنفيسي جلسات مع طالباتها السابقات في الجامعة، تختار معهن كتباً في الأدب للقراءة والدرس. ووفق معيار الإيمان العميق لمؤلفي تلك الكتب بالطاقة السحرية للأدب، كانت تلك الجلسات تشكل الهيكل الذي يقوم عليه كتاب آذر نفيسي "أن تقرأ لوليتا في طهران" (صدرت ترجمته العربية عن دار الجمل في بيروت وبغداد). والكتاب سيرة امرأة من النخبة الإيرانية، عبر حضور نساء أخريات يؤكدن انتماءهن الإنساني بلا حدود، إذ يرحلن في كتب الحضارات الأخرى فتكشف لهن جوانب من قسوة النظام الشمولي. لدى وصول الطالبات الى غرف المعيشة، تكتب نفيسي، "يلقين بأرديتهن الخارجية وحجاباتهن الإلزامية فتتفجر منهن الألوان. كما يخلعن عن أرواحهن ما هو أعمق بكثير من الجلابيب، لأن كل واحدة منهن تتعرف شيئاً فشيئاً على ذاتها الفذَة، وتخط لنفسها الشكل الخاص بها". 

والآن، وبغض النظر عن قضية مهسا اميني ومأساتها، يستعمل رفض الحجاب متراساً ضد نظام الملالي الشمولي والقامع للحريات والأقليات، والمعروف أن النساء اسخدمن في ثقافات مختلفة قضية التحرر من الملابس نوعاً من التمرّد على المجتمع. فشهدت الثلاثينيات في أميركا ثورة من أجل ارتداء المرأة للبنطال، وقادت هذه الحملة الممثلة كاثرين هيبورن. ورفض الحجاب ليس وحده القضية التي تُرفع في وجه نظام الملالي، فثمة الموسيقى والسينما وطرق السهر والقضايا الاجتماعية والمعيشية وحتى المياه، وبالتالي القضية في إيران لا تتعلق بالحجاب وحده، بل بنظام ثيوقراطي بات عبئاً ثقيلاً على المجتمع الإيراني وحتى على بلدان الجوار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها