الخميس 2022/08/04

آخر تحديث: 15:27 (بيروت)

تفجير 4 آب... سلطة النسيان ضد الذاكرة

الخميس 2022/08/04
تفجير 4 آب... سلطة النسيان ضد الذاكرة
حِداد (غيتي)
increase حجم الخط decrease
النظرة إلى اهراءات القمح في مرفأ بيروت، والجدل حول ما إذا كان ينبغي تركها كشاهد على الجريمة، بحسب أدبيات بعض "المعارضين" والكتّاب، أو محو أثرها وإزالتها كما تسعى السلطة أو السلطات، يشبه الجدل حول نهاية الحرب الأهلية (1975 – 1990)، وما إذا كان ينبغي فتح ملفاتها وإجراء محاسبة بشأنها، أو طي صفحاتها من دون قراءتها أو التمعّن في يومياتها. وما حصل في النهاية أن السلطة أصدرت عفواً عاماً، بعد الحرب، ومحت ذاكرتنا كلبنانيين، وتركتنا نعيش السلبيات الجحيمية لهذا القرار، الذي جعل بعض المجرمين ومرتكبي المجازر والتهجير والاغتيالات يتسيّدون على السلطة وقرارها... 

وبغض النظر عن تلك المرحلة وآثامها، يمكن تأمل الجدل حول أهراءات القمح من خلال وجهتي نظر: نقيب المهندسين السابق، المعمار جاد تابت، والمهندس والكاتب رهيف فياض... والتأمل هنا له سياقه. فتابت يساري مستقل (والده أنطوان تابت من المعماريين البارزين في بيروت، وكان من أركان مجلة "الطريق" الشيوعية)، وكان من المعترضين على مشروع شركة "سوليدير" في إطار الحفاظ على الذاكرة المعمارية. وفياض "شيوعي ملتزم"، ولطالما تحدّث عن الذاكرة ودورها ويعتبر أن "سوليدير هي أصل المشكلة في كل ما شهدناه بعد الحرب. حتى التفتيت المذهبي الحاصل اليوم سببه سوليدير لأنها دمرت النسيج الاجتماعي وفصلت الناس عن بعضهم البعض".

لكن قراءة جاد تابت لواقع انفجار مرفأ بيروت وأهراءات القمح وعلاقتها بالذاكرة، في مقالة نشرتها مجلة "دراسات فلسطينية"، تختلف جذرياً عن نظرة رهيف فياض ودعواته لإزالة الأهراءات في مقابلة مع جريدة "الأخبار"... يقرأ تابت مشهد انفجار مرفأ بيروت انطلاقاً من ربطه بأحداث الماضي والحروب اللبنانية والتحوّلات التي حصلت، وما أصاب بيروت من تدمير منذ أيام العثمانيين مروراً بالفرنسيين، وصولاً إلى الحرب الأهلية، فيقول: "يمكن اختصار تاريخ بيروت الحديث بأنه تاريخ دمار يعيد نفسه باستمرار، ويؤسس عبر تكراره لشروط دمار جديد. في هذا السياق الشبيه بالتراجيديا الإغريقية تندرج الفاجعة التي أصابت المدينة جرّاء انفجار المرفأ في 4 آب/أغسطس 2020،"... يضيف تابت: "إذا تمعنّا في قراءة تسلسل محطات الدمار، من حريق الكازاخانة إلى انفجار المرفأ، يتبيّن لنا أن كل محطة من هذه المحطات كانت تأتي لتعلن نهاية مرحلة، كأن قدر مدينة بيروت أن ترسل عبر دمارها إنذارات بقرب حدوث تحول جذري في تاريخ المنطقة: فحريق كازاخانة المدور أتى ليعلن قرب نهاية نظام الحكم المطلق في السلطنة العثمانية والدخول إلى الحقبة الدستورية بعد نجاح ثورة "تركيا الفتاة"؛ ودمار بيروت القديمة على يد الوالي عزمي بك كان إنذاراً بسقوط الدولة العثمانية وتقسيم المنطقة العربية وفقاً لمعاهدة سايكس - بيكو؛ أمّا العنف الذي اجتاح بيروت خلال سبعينيات القرن الماضي، واحتلالها من طرف الجيش الإسرائيلي، فأتيا ليعلنا نهاية الحلم الذي كانت تحمله حركة التحرر الوطني العربية، ودخول المنطقة في دوامة رقصة الموت بين الغطرسة الإسرائيلية والشراهة النفطية والأصولية الدينية؛ أمّا جرافات الإعمار التي قضت على ذاكرة قلب بيروت فكانت دلالة على خضوع العالم العربي الكامل لنظام العولمة النيوليبرالي، وتخلّيه عن آخر شعارات التحرر الاقتصادي والتقدم الاجتماعي"...

"تتبع العمارة التاريخ كظلّه"، يقول الانتروبولوجي مارك أوجيه، والفظائع تتكرر، ورغم موجات الحروب وسعارها ورغم الاحتلالات والتدمير، ورغم الخرائب والدمار حصلت في هذه المدينة، يقول تابت، "بيروت مدينة لم يعد لها ذاكرة". والحال أن التقصير في حماية الذاكرة، يساهم في صناعة والنسيان وتكرار الحرب... يسأل تابت: "مَن يتذكر اليوم حادثة حريق الكازاخانة التي قضت على كامل الأحياء الواقعة تحت هضبة الأشرفية، والتي كانت قد سُجلت ذكراها في سجلات نفوس سنة 1904 المشؤومة؟ مَن يتذكر حارات بيروت القديمة التي دمرها مشروع عزمي بك؟". ويعود تابت الى الماضي المضطرب ليربطه بالحاضر ومسالكه، أو بجولات العنف المستطير التي حصلت في العالم، "عندما انفجرت القنبلة النووية التي أصابت مدينة هيروشيما في السادس من آب/أغسطس 1945، دُمرت المدينة بشكل كامل ضمن دائرة بلغ قطرها نحو أربعة كيلومترات. وانفجرت القنبلة فوق مبنى مخصص لعرض المنتجات الصناعية يسمى مبنى غنباكو، لم يبقَ منه بعد الانفجار سوى بعض الواجهات المدمرة والهيكل المعدني للقبة البيضاوية التي كانت تعلوه... في سنة 1996 أُدرج هذا المبنى في لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو كمعلم إنساني يشهد على هول الانفجار النووي، ويرمز إلى الأمل بألّا تتكرر مثل هذه الكارثة".

وهنا يسأل تابت: "ألم يحن الآن وقت استعادة الذاكرة المفقودة لبيروت عبر الحفاظ على أهراءات القمح التي تنتصب على مقربة من موقع انفجار المرفأ بصومعتها المشوهة وجسمها الخرساني المجروح؟.. إنه لواجب علينا أن نعمل على المحافظة على هذه الأهراءات مثلما خلّفها الانفجار، كشهادة ليس فقط على هول فاجعة الرابع من آب/اغسطس 2020، بل على تراجيديا الدمار التي تأسس عليها تاريخ بيروت الحديث أيضاً، وكرمز لقدرة المدينة على الصمود، وعلى عودة الحياة إلى جسمها المجروح".

أما في قراءة فياض لأهراءات القمح وانفجار 4 آب، ففي عالم آخر، وموضع آخر، إذ يرفض اختزال كارثة بهذه الفظاعة في "ما تبقّى من هذا الهيكل القبيح"، معتبراً أن الدعوة إلى إبقاء الأهراءات وسط المرفأ كي نحفظ ذاكرتنا "لا معنى لها"، لأننا ببساطة "لسنا بحاجة إلى قباحة من هذا النوع". يستبعد فياض معنى الزمن الذي يُعرب عن جنون السياسية في الانفجار، ويريد إزالة الأطلال من مُنطلق أنها قبيحة! كثر يسألون ما دخل القباحة والجمال بهكذا موضوع؟ وهل شرط الذاكرة أن تكون بمبانٍ جميلة؟ وهو يقول: "إذهبوا إلى شوارع الجميزة وباستور وعبدالله داغر ومار مخايل، فكلها أماكن مصابة وتكفي لتحفيز الذاكرة". يضيف فياض: "هذا البكاء وهذا الافتعال لإيجاد مسوّغات للحفاظ على هيكل قبيح هما عبارة عن فكر عتيق لا علاقة له بالمشاعر الحقيقية، لأن المشاعر الحقيقية هي ما يتركه فينا الانفجار من أثر وليس في شكل أهراءات تحترق ولا يستطيع أحد أن يُطفئها".

دعوة فياض التالية هي لإزالة هذا "المارد" لا لقبحه فقط، وإنما أيضاً لإساءته "إلى صورة المدينة وعمل المرفأ وإلى حسن استخدام مساحاته". والأولى، برأيه "العمل على إزالة ما تبقّى من هذه الأهراءات وإعادة تصميم المرفأ وترتيبه بطريقة عصرية". لا يتحدث فياض عن الأهراءات انطلاقاً من الحفاظ على شاهد، بل يركز على الجانب الوظيفي: "كلّ شيء يدفعنا إلى التفكير في استعمال المرفأ من دون وجود هذه الأهراءات". ويبرّر هذه الدعوة بانتفاء "الوظيفة" التي كانت تؤديها هذه الأهراءات التي وُجدت في هذا المكان "للتخفّف من أكلاف نقل الحبوب إلى أماكن بعيدة"... أما وقد انتفت هذه الوظيفة، فلا مبرّر لإبقائها، إذ "لا دور جمالياً لها على مستوى المرفأ، ولا سبب بصرياً لبقائها خصوصاً أن لا شيء يربطها بالمدينة بوضعه الحالي". ألا يتناقض كلامه هنا مع كلامه الكثير حول "سوليدير" ومشروعها؟ّ

قد يكون موقف رهيف فياض آتياً من منطلق فكري رؤيوي، لكنه في الجوهر يُستعمل كدعم لموقف سياسي، فبغض النظر عن صوابية إبقاء الإهراءات كشاهد أو كذاكرة، هناك سلطة من سلطات كثيرة، مسؤولة عن التفجير، تعطل القضاء وتمنع العدالة وتسعى جاهدة لإزالة أي أثر يتعلق بالذاكرة. وبالتالي هي نقيض مقولة كونديرا "نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان"، بمعنى آخر تسعى السلطة اللبنانية الى نضال النسيان ضد الذاكرة. سلطة تسعى لإزالة الأهراءات و"الفكر العتيق" و"المشاعر الحقيقية" معاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها