الأربعاء 2022/08/31

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

الشيشكلي والبرازي في كتابيَن...بين تعقيم التاريخ والافتتان بشخصياته

الأربعاء 2022/08/31
الشيشكلي والبرازي في كتابيَن...بين تعقيم التاريخ والافتتان بشخصياته
الشيشكلي رئيس أركان الجيش السوري
increase حجم الخط decrease
كتابان يتصلان بتاريخ سوريا الحديث صدرا خلال الشهرين الماضيين، ويقومان على هدف معلن، هو تصحيح بعض جوانب الماضي لشخصيات ساهمت في صناعة المشهدين السياسي والعسكري، واللذين انبثقت منهما المسارات التي أوصلت البلاد إلى ما هو عليه واقعها.

الأول وهو كتاب "أديب الشيشكلي (1909-1964) الحقيقة المغيبة" لمؤلفيه بسام برازي وسعد فنصة، والثاني هو طبعة جديدة ومختلفة لمذكرات محسن البرازي "رئيس وزراء سورية الأسبق مع مقدمة جديدة بالاستناد إلى أرشيفه الشخصي" بإعداد وتقديم الباحث محمد م.الأرناؤوط.

الكتاب عن الشيشكلي ليس أول المؤلفات المكرّسة لهذه الشخصية، بل إن مكتبة التاريخ السوري تحتوي كتاباً آخر عنوانه "أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث في سوريا البداية والنهاية" لهاني الخير، كما أن الباحث الراحل مازن يوسف صباغ كان قد أصدر ضمن سلسلة مؤلفات تاريخية كتاباً، حمل عنوان "الانقلاب العسكري الثالث في سوريا بقيادة العقيد أديب الشيشكلي ومؤازرة الزعيم فوزي سلو 02/12/1951- 25/02/1954".

كما أن كل الكتب التي صدرت عن سوريا ما بعد الاستقلال احتوت حكماً فصولاً خاصة عن مرحلة سيطرته على مقاليد السلطة في مرحلتي حكمه، وتعرضت لجوانب عديدة من شخصيته، بالإضافة إلى ما كتبه عنه معاصروه من العسكريين والسياسيين. ومن اللافت أن الكتاب الجديد يصل إلى القراء بُعيد أشهر من ظهور فيلم وثائقي عن الشيشكلي بمحتوى مشابه يحاول إظهار فضائل شخصيته، أنتجته قناة "الجزيرة"، وعرض في قنواتها باللغتين العربية والإنكليزية.

وهنا لا بد للمرء أن يسأل: أي من الحقائق المغيبة اختارها مؤلفا الكتاب؟ وهما يتصلان بموضوعهما هنا ليس من خلال الانتماء الوطني، بل من خلال الانتماء العاطفي أيضاً، إذ يلحظ القارئ المطلع أنهما من ضمن الدائرة المحيطة بأسرة الشيشكلي الذي اغتيل في البرازيل العام 1964، على يد رجل من السويداء اسمه نواف أبو غزالة، على خلفية أحداث المدينة في العام 1954، والتي أدت بالشيشكلي إلى تقديم استقالته.



المؤلفان يوضحان غايتهما منذ المقدمة، فالرجل الذي لم يكتب مذكراته كأقرانه، ظلت سيرته مبعثرة، كما أن من كتبوا مذكراتهم لم يكونوا منصفين وكانوا "بعض الأحيان، يفسرون الأحداث تفسيراً خاطئاً، بحسن نية أو سوء نية، والنتيجة واحدة، وهي تصوير أديب الشيشكلي على أنه ديكتاتور، قاسي القلب، لا يتورع عن سفك الدماء في سبيل الإمساك بالسلطة المطلقة". وتبعاً لهذا فإن هدف الكتاب كما يقول المؤلفان هو "إعادة كتابة هذه المرحلة، والتأريخ لهذه الشخصية التاريخية، بعقل بارد، وموضوعية، تبين آمالها وأحلامها، أهدافها ومخاوفها، انتصاراتها وانكساراتها، ونقاط ضعفها وقوتها، على ضوء الوثائق والشهادات والمراسلات التي أصبحت متاحة الآن بعدما أفرجت وزارات الخارجية، في بعض الدول المعنية، عن وثائقها المرتبطة بتلك المرحلة، ورفعت عنها السرية".

لكن القارئ الذي يستبشر خيراً بالمقدمة سيكتشف في جوانب السيرة أن جزءاً من السياق سينحاز للشيشكلي من دون الالتزام بالموضوعية المنشودة، لا سيما الاتجاه الواضح إلى إنصافه على حساب إبراز عيوب الشخصيات الأخرى، خصوصاً شخصية السياسي السوري الراحل أكرم الحوراني. إذ سيلفت انتباه القارئ مسعى أصحاب الكتاب إلى مهاجمته، وحتى محاسبته على رأيه الذي دوّنه في مذكراته عن الشيشكلي، وصولاً إلى مهاجمته بشكل صريح وواضح، وكأن مشكلة الأخير تعود في أصلها إلى علاقة الرجلين الشخصية، وبما يوحي بأن الحوراني هو سبب السيرة المشوهة أو الصفات السيئة التي أُلصقت بالشيشكلي.

ومما يلفت الانتباه في المصادر التي يعود إليها المؤلفان أن بعضها غير متاح للقراء، كمذكرات نذير فنصة التي يصفانها بالسرية، وذكريات الضابط السوري عبد الحق شحادة، التي لم تنشر وينطبق الأمر ذاته على مذكرات نزار صائب، ومذكرات عدنان الأتاسي، وكذلك اللقاءات مع السياسيين والشهود التي أجراها الصحافي أسعد عبود، ولا نجد متنها كاملاً منشوراً في أي مكان!

كما أن منطق المحاججة في وجه الشهادات التي تقوم بوصم الرجل بصفات الطغاة، يستند أحياناً إلى أقول الصحف، لا سيما تلك التي دافعت عنه في وقت حكمه، بالإضافة إلى أن المؤلفين لم ينتبها إلى أن بعض كلام الشيشكلي ذاته الذي يعيدان نشره، لن يساهم في تصحيح أوصافه، ومنه ما قاله لصحيفة "صدى لبنان": "يتهموننا بأننا اغتصبنا السلطة وارتكبنا أخطاء بخنق الحريات، إلا أن السلطة لا تهمنا، إلا بالقدر الذي نؤمن به الرفاه للشعب والبلاد. فليعطونا نظاماً سياسياً أفضل، قبل أن يطلبوا منا مغادرة السلطة، الأمر الذي قد يودي بسورية إلى الفوضى، يجعل البلاد ترجع إلى الخلف عشرات السنين".

صحيح أن الشيشكلي استقال من منصبه حقناً للدماء، كما ورد في نص الاستقالة، لكن محاكمة ومحاسبة الشخصيات الفعالة في التاريخ لا يبنى على سماتها الشخصية، وليس على ما تصرح به، بل على دورها الذي قامت به، وعلى الأفعال البارزة التي انتهجتها. فلا أحد ينكر أن عهده شهد تأسيساً متعدّد الجوانب على مستوى الدولة السورية، لكن هذا الأمر لم يحدث بموجب السياق الطبيعي للدولة ذاتها، بل ضمن منعطفات قسرية كان أبرزها تغوّل الجيش على الحكم، وتولي رجاله السلطة من دون وجه حق، وفي إطار الشعارات ذاتها التي يكتنفها قوله الصحافي السابق والذي يشبه أقوال أشباهه من العسكريين الذي وصلوا إلى الحكم بقوة السلاح، وليس صناديق الانتخابات!

يشترك كتاب مذكرات محسن البرازي في طبعته الثالثة، في الغايات مع الكتاب السابق، لا سيما أنه يستند في مقومات وجوده إلى عثور معدّه وكاتب مقدمته محمد م.الأرناؤوط على نسخة أخرى من يوميات رئيس الوزراء المقتول برفقة الرئيس حسني الزعيم فجر يوم 14/04/1949، نُشرت بشكل محدود من قبل حركة القوميين العرب في العام 1952، من دون أن يتدخل ناشروها في محتوياتها، كما حدث لاحقاً في النسخة التي نشرتها جريدة "الحياة" تحت عناوين مثيرة في 31 حلقة في الفترة بين 16/01/1953 وحتى 18/02/1953، أو وفق ما جرى مع الدكتورة خيرية قاسمية التي نشرت المذكرات في العام 1993 نقلاً عن نسخة مصورة من المذكرات مكتوبة على الآلة الكاتبة، لكنها وبحسب المعد "ناقصة الصفحات الأولى ومطموسة الحروف في بعض الأماكن، من دون أن تعلم عن الطبعة الأولى التي نشرت في العام 1952، وقد اجتهدت وقامت بتعويض النقص في النسخة المصورة عن الأصل التي وصلت إليها بما نشر في جريدة "الحياة"، التي اتسم نشرها بتدخل المحرر والعناوين الجاذبة للقراء".

ويضاف إلى ما سبق أن الحظ ابتسم لمعدّ الكتاب وقاده في العام 2010 لأن تصل إلى يديه أوراق أرشيفية إضافية من خلال مرافق البرازي، والد زوجته أبو السعود الخطيب. غير أن هذا الأمر لم يؤد إلى ظهور ارتباط عاطفي بين الأرناؤوط والشخصية التي كرس لها جهده ههنا، مع أنه يشير إلى ضرورة أن تعاد كتابة سيرتها الذاتية، ولا ندري حقاً إن كانت هذه السيرة ستركز على المواصفات الإنسانية والعلمية للرجل وتتجاهل المثال السيئ الذي خلقه عبر خيانته الأمانة مع شكري القوتلي بعدما كان كاتم أسراره، وتنسى أيضاً أن مواقفه وتحالفاته الشخصية البراغماتية ساعدت الزعيم على القيام بانقلابه على القوتلي، الذي كان قد أعاد الاعتبار للضابط المستبعد ونصبه مديراً للشرطة ثم قائداً للجيش قبل أن يصنع انقلابه، الذي افتتح كارثة تسلط الجيش على الحياة المدنية في سوريا، منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

ولا يغيب في السياق التركيز على الدوافع الشخصية التي جعلت المنقلبين الجدد يقومون بإعدام البرازي، لا سيما منها تورطه في تسليم أنطون سعادة للدولة اللبنانية التي سارعت إلى إعدامه، الأمر الذي جعله هدفاً للضباط القوميين السوريين، وكذلك إصراره لأسباب شخصية -بحسب المعد- "على إقالة الدكتور محمد أسعد طلس من منصب الأمين العام لوزارة الخارجية وتحويله للتعليم بعد كشفه أنه ادعى خلال عمله مفوضاً لسورية في طهران أن بيته قد سُرق، وطلب تعويضاً لذلك من وزارة الخارجية، بينما كشفت وزارة الخارجية الإيرانية أنه قد باع الأثاث لأشخاص إيرانيين، ونظراً لكون طلس عديل العميد سامي الحناوي، فقد سعى للانتقام من البرازي بكل السبل، ونجح في دفع الحناوي لقيادة الانقلاب الثاني"!

قد تشكل الوثائق والأوراق التي تتكشف الآن، والملفات المستخرجة من أراشيف الخارجيات الغربية، إضافات مهمة في إطار الحديث عن تفاصيل التاريخ، في هذين الكتابين الجديدين. لكن ما يظهر لا يشكل روافع مهمة لتغيير السردية المعروفة، عن الماضي ذاته، والشخصيات الفاعلة فيه، خصوصاً أن من كتبوا ذلك التاريخ لم يكونوا على قلب رجل واحد، وتناقضوا في ما بينهم، حتى في أبسط التفاصيل، بناء على مواقعهم وتمترساتهم في سياقه. الأمر الذي يقود القراء، بوصفهم باحثين أيضاً عن الحقيقة التي قد تكون متوافرة في هذه الكتب كما في غيرها، إلى طرح الأسئلة حول دوافع معلنة أو مخفية، تذهب بالباحثين إلى تعقيم التاريخ من كل ما لا يرضيهم، وتعليق الشوائب على شماعات آخرين كتبوا مذكراتهم، وأنداد رحلوا من دون أن يكتبوا ولا يتوافر في الواقع مدافعون عنهم، أو باحثين يتولون التنقيب في أكوام الوثائق عن فضائلهم!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها