الجمعة 2022/08/26

آخر تحديث: 13:54 (بيروت)

في الذكرى الـ123 لميلاده... صديقي بورخيس

الجمعة 2022/08/26
في الذكرى الـ123 لميلاده... صديقي بورخيس
في الجحيم يجب على الإنسان أن يبقى وفياً لإثمه
increase حجم الخط decrease
لم يكن خورخي لويس بورخيس (آب 1899- حزيران 1986) يجيد الكذب. قال مرة، وكان يكذب: "ما يشفع لي أمام نفسي أن النسيان سيطويني". لم يطوِ النسيان بورخيس، فالرجل ما زال موجوداً، ليس عبر كتبه فقط، إنما أيضاً عبر أصدقائه، وأنا واحد منهم.

قد يرى البعض في ادعائي صداقة بورخيس تبجحاً في غير محله بيد أن الأمر بعمقه ينطوي على حاجة بي للمعنى... معنى ما، تارة أترصده عبر شرفة النصوص الفسيحة وتارة أخرى عبر وجار ضيق ألجأ إليه كجرذ في سنيّه الأخيرة.

لا يلزمني بورخيس الإنضباط ولا الإنصياع لمآربه انطلاقاً مما قد خطّ وكتب، كلا، فالرجل يدعوني إلى أن أكون لا مبالياً، سائباً وحراً حيال فهمي لنصوصه. إن بورخيس من هذه الناحية هو معلّم في الأخذ بيد من لا يريد من العالم شيئاً ما خلا الصمت والسكينة.

في بداياتي الأولى مع بورخيس كنت أتوجّس الإنفلاش والإنبساط، بل كنت تراني أقرب إلى من يتهيّب الوقوع في كمين النصوص والكلمات إلى أن "نقفني" بورخيس بأنامله القصية فاخترت لنفسي قصة خيالية إزاء تلقّف النصوص.

صديقي بورخيس، في الحفل التكريمي الذي أقامته له الأكاديمية الفرنسية في العالم 1983، دعا إلى تحويل كل الأشياء في الحياة إلى قصص واستعارات ومجاز... فالمجاز هو ابتكار آخر للعالم وآلة رصد من نمط آخر للتنقيب في وجه العالم المقطّب أو البشوش. المجاز هنا هو بمثابة حلم يقظة تمتد خيوطه إلى كل أحلام الآخرين. ليس الحلم ها هنا واقعة برّانية عن العالم وهو أيضاً ليس تلصص اللاوعي، فبورخيس في رؤيته للحياة كان مأخوذاً بإحدى عبارات وليم شكسبير: إننا من تلك المادة التي تُصنع منها الأحلام، معززاً فكرته في هذا السياق بذلك الصيني الذي شاف في الحلم أنه فراشة ولما استفاق طرح على نفسه السؤال التالي: لماذا لا تكون الفراشة هي من رأت في حلمها أنها إنسان؟!

التوبة
التوبة ممنوعة في الجحيم، يقول بورخيس، ففي الجحيم يجب على الإنسان أن يبقى وفياً لإثمه... كذلك الأمر في الحياة، حيث لا مفر من الوفاء لإثم وجودنا والماضي في هذا السياق هو الآن وهو ما سوف يكون وما علينا من ثم إلا عيش هذا الكل وتأمله عبر عيون هذا الكل بالذات. منذ بداياته الأولى في مدينة بيونس آيرس أنف بورخيس من قوموية زملائه الكتّاب وكان على حرص شديد لعدم الوقوع في فخ الإنتماء النهائي ولعدم التحيّن ثقافياً في آن بعينه بل تراه أراد لنفسه أن يكون كائن العالم والتاريخ. أنا من كتب ألف ليلة وليلة، يقول، أنا سرفانتس، أنا غوته، أنا اللورد بايرون وأنا واحد من الكومبادريتو (ضرّيبة السكاكين) في أزقة وأحياء بيونس آيرس ولا سيما حي بالارمو الشعبي والذي شكّل وعي الفتى بورخيس لحين من الوقت... سنة 1983 وبمحاضرة له في جامعة السوربون قال للحضور: فلنتكلم عن كل شيء!

هناك شيء ما غير مرئي يختفي من العالم يقول صديقي الأعمى مترحماً في ذلك على الهويات المتحركة المتحررة المجنونة الفالتة والسائبة بلا وجهة في بلاد الله الواسعة بلا كمائن ولا حدود. لا يحب الأبطال وكل أسلافه من الضباط الكبار لم يعنوا له الكثير وبحسب أحد باحثيه، حتى سن الثلاثين لازمه شعور بأنه لا يستحق الحب العائلي لأنه لا يحب سوى الكتب ثم الكتب ثم الكتب.

إنها القراءات التي تتصارع والإفتراضات المضادة للتوقعات واستحالة تقديم شكل لغوي منتهٍ وكامل لهذا المعطى الرجراج الهش والذي يُسمى العالم، والذي قد يكون وهماً. من المواضيع التي جذبتْ بورخيس للبوذية ذلك التأمل الذي يقوم على الشك في وجود بوذا بالذات.

في ردّه على راديكاليي الإنتماء أصحاب الآفاق المحدودة والوجوه الشاحبة من أهل المدينة قال بورخيس، إن ما تحتاج إليه بيونس آيرس احتياجاً شديداً هو الأشباح... لا جنسية محددة المعالم للأشباح ولا انتماء نهائي لهم. تراهم يتخللون، ينسابون، يظهرون، يتوارون، يستبيحون عوالم الأحياء والأموات.

ليس التراث متراساً ولا جداراً شديد البنيان، فالتراث لا يتعدى أن يكون ألبوماً عائلياً، كما يقول بورخيس، حيث التمعن في صور الماضي يخلخل بلادة النقاء، سذاجة النهايات الواضحة ووقاحة الحروب. إلى ماذا ننتمي بالأصل؟ يجيبنا بورخيس على هذا السؤال عبر قصيدته "اسبينوزا"، اسبينوزا الذي يشذّب بشكل عنيد "الخريطة اللانهائية للواحد الذي هو كل أفلاكه".

صديقي بورخيس، أول احتكاك لي معه كان على حاجز بيت ياحون في منطقة بنت جبيل بين الساعة الواحدة والرابعة فجراً، ومنذ ما يقارب العقدين، مذاك يرتبط بورخيس في رأسي بالليل والفجر والبرغش وهشاشة الحدود والسؤال الذي لا ينتظر جواباً.

الهبوط البطيء لليل
ثمة استيلاء على اليقينيات من أجل فكفكتها والحفر في خوائها، هذا ما تشي به نصوص بورخيس. إنها نصوص تتخلل الوعي بالتدريج تماماً كما تخلل العمى بصره وهو العمى الذي يسمّيه "الهبوط البطيء لليل" لأنه امتدّ منذ الطفولة واكتمل لما كان في حدود الخمسين من عمره حيث احتجبتْ كل الألوان ما خلا الأصفر كما يقول.

على مستوى استخراج الدلالة لا علاقة هرمية تحكم نصوص بورخيس ولا داعي للتعقّب الطوبوغرافي لِما قد كتب، فالرجل موجود بكله في كل سطوره. قال في إحدى المناسبات، أهم حدث في حياتي كان اكتشاف الكلمات حيث الهذيان الذي يرسم خريطة اللااستقرار، البداوة والضياع. في "مكتبة بابل" يقول: الكتب تؤكد وتنفي وتخلط كل شيء كإله يهذي. لماذا؟ لأن، والكلام له، الكلمات رموز تتطلب ذاكرة مشتركة ومن هنا ولعه بالموسوعات والمتاهة وعدم الإنقضاء. لا يجب انتظار "الوقت المذعور الراكد خلف النوافذ" كما جاء في قصيدة له... فالصدفة قد تكون ملاذاً، إشارة، وجه مخفي لمتعة مؤقتة... "كنت أتناول مجلداً عن الرف بشكل اعتباطي – يقول – وأبدأ بالقراءة، وقد أمدني حرف الدال في أحدى المرات بمتعة المرور بدرايدن وبنص آخر عن الدروز".

"أنا أعتبر نفسي قارئاً بالأساس، يقول بورخيس، وقد تجرأت كما تعلمون على الكتابة"، حيث الحقائق في نصوصه مجرد نقاط انطلاق وحيث الغرابة هي بمثابة انقلاب مدروس على اعتيادية الحواس، مؤامرة ضد سذاجة المحسوس... "لقد ساهم بورخيس في مضاعفة مكانة الأدب" يقول إيتالو كالفينو في "لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي"، أما ماريو فارغاس يوسا وفي إجابته على سؤال يتعلق بالخيال البورخيسي فقد قال، "إن الأمر ملتبس هنا، فالأكاذيب تتخفى بزي الحقائق والعكس صحيح".(يوسا: دعوة لأدب بورخيس) لعله الوفاء للمخيلة، للمفارق، للشخصي الكامن في أعماقه بلا حدود ولا انضباط. عندما سئل لماذا تكتب رد بالقول: "كي أكون وفياً لمخيلتي".

الشهرة مثل العمى
في خطاب حصوله على الجائزة العالمية للناشرين والتي تقاسمها مع صموئيل بيكيت سنة 1961، قال بورخيس: "الشهرة مثل العمى، أدركتني شيئاً فشيئاً... لم أكن أبحث عن الشهرة فأنا أكتب تمريراً للوقت" ... ثمة شيفرات ثقافية تحفّ المتن البورخيسي من كل جنب فتنسف تلك العلاقة الكلاسيكية بين الدال والمدلول أو بين النص والمعنى وهذا يعود كما يرى الكثير من دارسيه للعبة التناص التي قد اتقنها كما لم يتقنها أحد سواه، ليس تناصاً بين محض النصوص إنما بين الثقافات والتواريخ والأحياء والموتى وصولاً إلى تناص من نمط آخر ساحته الكاتب وأناه... كتب بورخيس قصة رائعة بعنوان "أنا وبورخيس". فالتنوع الدلالي الذي ينبثق من متنه العام يعود إلى تنوّع الذاكرات التي ألهمتْ أعماله، حيث الأسطورة عتبة التاريخ والتاريخ عتبة الحاضر والحاضر عتبة المستقبل الذي تلقفه بورخيس عبر أساطير الارجنتين أولاً ثم أساطير أمم الأرض أجمعين. إنها الدائرة التي تداخل دوائر أخرى لكائن هو من نوع على شفير الإنقراض، فبورخيس الذي يمكث على حواف الحضارات واللغات والثقافات والتواريخ كان يلقى في نفسه الإنتماء عبر هذا المكوث اللامتناهي (بياتريث سارلو: بورخيس – كاتب على الحافة)... لا "صراع حضارات" في هذا المحل ولا "نهاية للتاريخ"، إننا هنا إزاء يوتوبيا من نمط آخر لا ترى في المستقبل ملاذاً إنما الملاذ حسب التصور البورخيسي للأمور يكون عبر توسيع حدود الممكنات حيث العالم على الدوم هو في حالة انفلاش، ومعاصرة التاريخ للحاضر هو شرط الإنتماء للزمن.

في تعريفه للأسلوب يقول رولان بارت: "إن الأسلوب هو الجانب المظلم، إنه المقترن بأسرار الدم والغرائز، بالشديد التعقيد وكثافة الصورة"، وكأني ببارت في هذا التعريف يحكي تماماً عن بورخيس الذي لدى ترجمته للغات الأوروبية شكّل مادة وفيرة لكل نظريات التفكيك من عدم القول بالمرجعية النهائية للنص إلى لعبة التناص إلى القول بالمقاومة الدائمة لنهائية المعنى إلى نسف سؤال النقد التاريخي: من أين أتى النص؟ ونسف سؤال النقد البنيوي: كيف تشكّل النص؟... إن المتن البورخيسي العام في ترجماته الأوروبية حفّز بشدة هذه العناوين في المدارس النقدية كما يجمع مجمل دارسيه.

ألجأُ إلى بورخيس دائماً كلجوئي إلى اللامبالاة، فاللامبالاة هي فن بثّني إياه صديقي بورخيس في لياليّ الدركية الحالكة إبان خدمتي ببنت جبيل... خلّصني من مآزق عديدة وزيّن لي نعمة "الرواق".

في حكيه عن الخجل وصف دوستويفسكي نفسه بأنه "خجول إلى حد التوحّش"، وفي رواية "آليعازر" يتكلّم ميشيل تورنييه عن "التهوّر الجنوني الذي يستولي أحياناً على الخجولين" أما ما أمدّني به صديقي الأعمي الخجول حيال هذا الأمر، قوله: "الخجل هو الشيطان الذي ينبغي على الإنسان الإنتصار عليه، الخجل ليس ضرورياً بل هو واحد من الأمور التي يمنحها المرء أهمية زائدة عن اللزوم"... نلتُ كفايتي بهذا القول.

ألهمني بورخيس إعادة النظر بيقينيات راسخة عبر كلمات قليلة مثل: "...كما قال بولس، أو ربما كما كان يجب عليه أن يقول...". علّمني بهذا خورخي لويس بورخيس أن الله وجهة نظر والنبوة شهوة وعظماء التاريخ شأن مساكينه لا يتعدون أن يكونوا مادة تصنعها الآمال أو تصنعها الإخفاقات. فـ"كل ما يحدث لنا بما في ذلك الإهانات والإرباكات ولحظات النحس، كلها توهَب لنا كقطعة طين، كمادة أولية...".

في الذكرى الـ23 بعد المئة لولادته، أستذكر صديقي بورخيس الذي شدّ من عزيمتي في إحدى لحظات الإستسلام التي كادت أن تقارب النهاية عبر همسه بأذني في غرفة محكمة العتمة بالقول: "هناك حق مقدّس في هذا العالم: حقّنا في أن نفشل، وفي أن نسير وحدنا".

(*) هذه المادة هي صياغة نظرية لنوفيلّا بعنوان "صديقي بورخيس" كُتبت بين تموز وأيلول من العام 2006- عمل غير منشور.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها