الإثنين 2022/08/22

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

ثقافات خمينية

الإثنين 2022/08/22
ثقافات خمينية
سلمان رشدي (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أعاد طعن سلمان رشدي في نيويورك، على يد شاب "لبناني الأصل"، الجدل حول رواية "آيات شيطانية" وفتوى الخميني والخمينية وثقافة "الجهل المقدس" والعداء للغرب.

والحال أن كثراً كتبوا وعلّقوا الآن وكأنهم ما زالوا في المربع الأول، وفي نقطة البداية، ولم يقرأوا النقاش الذي حصل في المرة الأولى، أي غداة إصدار الفتوى الخمينية العام 1989 ورواج ثقافة "ذهنية التحريم" كما سماها صادق جلال العظم، ولم يستنبطوا أي استنتاج من الحبر الذي أسرف، والتأويلات التي قيلتْ، والنظريات التي استهلكت.

الآن، يصمت والد الطاعن في بلدته الجنوبية، ويصمت "حزب الله" نفسه، ويتعاطى الغرب ببرودة مع الحدث، و"تتبرأ" إيران من المهاجم، في المقابل يحتفي إعلامها به، من قناة "العالم" إلى قناة "المنار" مروراً بصحيفة "كيهان"، التي أوردت أن "الاعتداء على سلمان رشدي يظهر أن الانتقام من المجرمين على الأراضي الأميركية ليس بالصعب"، وصحيفة "جوان" التي تطرقت إلى فرضية مؤامرة من تدبير الأميركيين، "في سيناريو مغاير مفاده أن الولايات المتحدة تسعى على الأرجح إلى نشر رهاب الإسلام في العالم".

وينبري بعض المؤيدين لـ"حزب الله" إلى التعبير عن خمينيتهم، فلم يتردّد صحافي "أشبهي" في تأييد الفتوى، وهم يعمل في جريدة تعرّض أصحابها للاغتيال بسبب فتاوى سرّية أو معلنة مشابهة لتلك التي طاولت رشدي. ولا يتردد وزير (ثقافة!) في أن يتقمّص اللسان الخميني فيتحفنا بأنه "يجب أن يعرف أنه لولا آيات الله وجهاد أبنائهم وحلفائهم ضد الظلامية والظلم والطغيان على جبهات الدم الممتدة وسع هذا الشرق، لما بقي لنا مكان على هذه الأرض ولكان جل الرجال شهداء وكثير من النساء سبايا لدى أعوان الشيطان". ويكتب كاتب يعرف نفسه بأنه "أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية" بياناً بعنوان "فتوى الإمام الخميني... الرصاصة التي أُطلقت باتجاه هدفها"، ويصنف الرواية الرشدية في خانة "السموم الثقافية". وعلى عكس رأي الشيخ محمد حسين فضل الله الذي اعتبر أن التعاطي مع هكذا روايات يكون من خلال عدم الاهتمام بها، ينبري الكاتب الى اعتبار أن الفتوى الخمينية عمل جهادي بطولي ونوعي "صدمت العدو صدمة عنيفة ووقفت سدّاً منيعاً أمام توغله"، و"كانت تهدف إلى الحفاظ على العقيدة الإسلامية من أي تبديل أو تغيير أو انحراف". وفي رأي استاذ العلوم السياسية، فإن "السكوت عن تخرّصات رشدي كان سيمكّن العدو من أن يطاول لاحقاً أسس الدين الإسلامي ويعمل على التشكيك فيها وإحلال عقيدته ومبادئه المادية، القائمة على الابتذال الثقافي وغلبة الشهوات والنزوات، محلّه. موقف الإمام الصلب والحاسم منع أي إنسان من أن تطاول يده حريم الإسلام أو أن يقوم بعض المتذبذبين المسلمين بالتنكر لبعض المبادئ".

لم ينتبه الأستاذ إلى أن الفتوى والتركيز على رواية رشدي انتجا موجة من الأدب العالمي من تركيا الى بنغلادش، وأن الفتوى جعلت الرواية تنتشر في أصقاع الأرض، وجعلت صاحبها "رمزاً لحرية التعبير" في العالم، لكن الأستاذ هذا يبدو أنه يحاكي نفسه وذاته وبطولاته الكلامية، ويغوص في مديح صلابة الخميني باعتباره يعطي دروساً عن الغرب الذي يهدف برأيه إلى "زعزعة إيمان المسلمين باعتقاداتهم ودفعهم للتخلي تدريجياً عن التزاماتهم الدينية وأن يعيشوا حالة الغفلة وعدم الثقة بالنفس والانهزام أمام النزوات النفسية (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)". ويضيف: "لقد أدرك الإمام سريعاً مكر الغرب في هذه القضية وسعيه أن لا يقوم أحد باكتشاف مخططه الخبيث هذا"، ويعتبر الفتوى "في إطار الصناعة العدائية للغرب وكمائنه التي تحتاج إلى موقف سريع حاسم وإلا جاءت الضربة التالية أشدّ من الأولى". ربما نسي الأستاذ، أن الخميني قبل أن يحط في طهران، أمضى مدّة ينعم بالحماية الغربية في فرنسا، ويلتقي مناصريه في باريس... والأستاذ الذي يعتبر التهريب شرعياً لحماية المقاومة، يختم عجالته بشيء من "الابتذال الشعري"، فيقول بأن فتوى الإمام صرخة في وجه المعايير الثقافية الغربية، صرخة في وجه الحضارة المادية، صرخة في وجه الجرائم الدموية من هيروشيما ونكازاكي إلى فيتنام وأفغانستان والعراق واليمن وفلسطين وسوريا ولبنان"، ويفيض شعراً فيقول أن الفتوى هي "التعبير الحقوقي العادل بوجه الشذوذ في فيضانه المريع، وهي الفكرة النبيلة في خدمة الحياة الإنسانية الشريفة، وهي الماء الذي سقى غرسة الإسلام إرادة جديدة على الصمود والمقاومة مقابل الاستكبار".

أما أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية والمناهض للخمينية في لبنان، فكتب مقالة بعنوان "مسألة سلمان رشدي لا يمكن فيها الإنصاف ولا الحياد!". لا ضرورة للتعليق حول سردية هذا الأستاذ وعلاقته برواية "آيات شيطانية"، ولا موقف المستشرقين من بعد الاستماع الى موقفه، ولا القول بأن رشدي يعيش عقدة في رواياته الأربع الصادرة قبل العام 1988 وأعماله الكتابية الأخرى هي نفسها عُقدة الروائيّين الأفارقة والهنود والعرب: الاستعمار، والديار المتروكة فقراً وخراباً بعد جلاء المستعمرين عنها (الهند، بلده الأصليّ). لنترك هذه الأمور جانباً، فهي قابلة للنقاش. المشكلة أن أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية الذي تعرفه ويكيبيديا بأنه "كاتب سعودي من أصل لبناني"، لا يتردّد وهو يتحدّث عن سلمان رشدي، في التذكير بمحاولة روائية أُخرى "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ والتي كتبها العام 1959. فبعد نشر حلقتين منها في صحيفة "الأهرام"، أُوقفت، ثمّ نُشرت في بيروت. لكن في العام 1993، قام شاب متعصّب، لم يقرأ الرواية بالطبع، بطعن نجيب محفوظ الشيخ العجوز الهزيل. وموضوع "أولاد حارتنا" هو فكرة الألوهية وتطوّراتها عبر الأجيال من خلال عيش أجيال متعاقبة في حيٍّ من أحياء القاهرة الشعبية، كما في معظم روايات نجيب محفوظ، يحكمه شيخٌ كبير ما رآه أحد، لكن كان الجميع على اعتقادٍ بوجوده وتأثيره. يضيف الكاتب بأن "الغرض من إيراد مَثَل نجيب محفوظ المشابه قولُ عدّة أشياء: إنّ الشذوذ الروائي موجود في كلّ الثقافات، وإنّه فيها جميعاً يكون محرّضون يثيرون الجمهور، وقد يرسلون أحداً أو يوحون لأحد بقتل كاسر مزراب العين"... لا يذكر أستاذ الدراسات الإسلامية "العجوز الهزيل" كما يصفه، ليندد بمحاولة اغتياله، بل ليقول "إن الشذوذ الروائي موجود في كل الثقافات".

لا أدري من أين استقى الكاتب هذا التعبير العرمرمي، وفي أي خانة فكرية يوضع؟ وما الذي يعنيه بالشذوذ تحديداً، هل التطرق الى الدين في نص روائي يعتبر شذوذاً؟ يا للهول! من قبل كان "اليسار الستاليني" يسمى اليسار المختلف أو الجديد، يساراً منحرفاً... هل الخيال الأدبي يسمى شذوذاً؟ مع أن أستاذ الدراسات الإسلامية يوصف بأنه واسع الاطلاع وصاحب مكتبة ضخمة، لكن لا يبدو أنه يقرأ الروايات، واستعماله تعبير "الشذوذ الروائي" ينم عن مكارثية دينية بل ستالينية دينية بامتياز...

والمفارقة أن استاذ العلوم السياسية الشيعي المُعمَّم، وأستاذ الدراسات الاسلامية السنّي الذي درس في الأزهر، يلتقيان في استعمال كلمة "شذوذ"، كأنهما نتاج خمينية واحدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها