الثلاثاء 2022/08/16

آخر تحديث: 09:18 (بيروت)

من يصنع التطرّف: فتوى الخميني أم رواية سلمان رشدي؟

الثلاثاء 2022/08/16
من يصنع التطرّف: فتوى الخميني أم رواية سلمان رشدي؟
طالب باكستاني: سلمان رشدي دفع الجيل الذي أنتمي إليه للتطرف
increase حجم الخط decrease
من بين العناوين التي وردت في موقع "بي بي سي العربية"، "الكاتب سلمان رشدي هو الذي دفع الجيل الذي أنتمي إليه للتطرف"، وترجم الموقع نفسه مقالاً عن "الغادريان" البريطانية بعنوان "كيف ساهم الكاتب في ظهور هوية إسلامية جديدة في الغرب؟ وفي جريدة "العرب" اللندنية نقرأ "فتوى الخميني تجعل من سلمان رشدي رمزاً للكفاح ضد التطرف"، وفي وكالة فرانس برس "سلمان رشدي رمز رغماً عنه لحرية التعبير"...

هذه العناوين تجعل القارئ العادي في حيرة، ويطرح أسئلة بديهية هل سلمان رشدي صانع التطرف أم الخميني؟ هل سلمان رشدي يعتبر رمزاً لحرية التعبير أم سبباً لصناعة التطرف؟ تبدو القضية على شيء من الإلتباس والتعقيد، سواء من خلال الاطلاع على خلفيات إصدار مؤسس الجمهورية الاسلامية، روح الله الخميني فتواه القاتلة، أو أسباب كتابة سلمان رشدي روايته، وما نتج عنهما من بلبلة وتوترات شعبية وسياسية ودينية... فالخميني أذاع في اليوم الرابع عشر من شباط (1989) فتوى تهدر دم الروائي الكشميري البريطاني المسلم الأصل، وهو لم يقرأ الرواية، ولم يستشر أحداً قرأها، بل رأى على التلفزيون قبل يومين من الفتوى مظاهرات في باكستان ضد الروائي، فأصدر فتواه. فكان لأثر الفتوى وجهان، فمن جهة انتشرت الرواية في أصقاع العالم ولغاته، وباتت أسطورة و"أيقونة" وأشهر من نار على علم، ومن جهة اخرى توسعت مشهدية التظاهرات ضد الرواية في المدن والعواصم، وسقط عشرات القتلى في المواجهات احتجاجاً على مضمونها، وقتل بعض من ترجمها، وبالتالي الرواية لم تعد مجرّد رواية، بل قضية من أبرز القضايا الثقافية والسياسية في العالم. من المسؤول عن ذلك؟ سؤال طرح منذ البداية ولا يزال يتجدد، يعتبر المؤرخ العراقي سيّار الجميل "أن المسلمين هم الذين صنعوا مجد سلمان رشدي وشهرته وكل ظاهرته، فلا يمكن أن يرتفع اسم الرجل بهذا القدر ويغدو مادة ثمينة للاستلاب الإسلامي أو التحدي الغربي لولا صدور "فتاوى" يغدو تأثيرها السياسي السيئ أكبر بكثير من تأثيرها الديني الرادع في العالم"...

المرجع الديني الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، كان يقول إنه ينتقد مواجهة الكتب التي قد تنتقد الإسلام بالفتاوى العنيفة أو بالقوّة، لأنّ "العالم المعاصر الذي نعيشه يدعم أيَّ موقف مضادّ لعملية حرية الفكر، ولاسيّما إذا كانت القضية تتّصل بالإسلام كنتيجة للخلفيات التاريخية السلبيّة ضدّ الإسلام في هذا المجال. ولذلك كنت أتبنّى في خطابي الفكري إهمال الكتب التي تنتقد الإسلام بطريقة وبأخرى، لتكون مجرّد كتب تناقش فكر الإسلام إلى جانب الكتب الكثيرة التي يتحرّك فيها المفكّرون في نقد هذا الفكر أو ذاك، وهو ما لا يجعل هناك نوعاً من أنواع الاهتمام والتحرّك في دائرة الضوء في هذا المجال، فتمضي هذه الكتب مثل أيّ كتاب في العالم. لذلك كنت أناقش مسألة الضغط على حريّة الفكر، وكنت أقول إنّه عندما نواجه العالم المعاصر، فإنّ اضطهاد الفكر يقوّيه، بينما إهمال الفكر يجعله أمراً عادياً في هذا المقام. وهذا ما كان يجعلني أنتقد الهيئة التي جعلت من نفسها في إيران هيئة تجمع المال لتنفيذ عملية القتل وَفْقاً لهذه الفتوى. وأنا أعتبر أنّ هذه المسألة كان يجب أن يسدل عليها الستار"...

لا ندرى إن كانت الأمور تحلّ بهذه السهولة، أو من خلال غض النظر عن كتاب أو الاستخفاف به، لكن من دون شك أن ما حصل جزء منه سياسي، ودبلوماسي، وجزء يتعلق بـ"الصراع على الاسلام"، وجزء أساسي يتعلق بالخمينية نفسها، التي صعدت وصعدت معها "الجهادية السنيّة" المنبثقة عن الاسلام السياسي، وكلاهما يأخذان من النبع التكفيري نفسه المتمثل في أفكار سيد قطب، وليس هنا المجال للسرد في هذا الموضوع. 

يتردد كثيراً أن جانباً من الفتوى الخمينية يتعلق بالشخصي، فما زالت الشائعات تتردد وتصر على القول بأن الخميني لم يصدر فتواه لأسباب دينية أو سياسية فحسب، بل ربما كان دافعه الانتقام الشخصي من رشدي، فالصورة المنفّرة التي رسمتها الرواية للإمام المنفي في الغرب تحيل بلا شك أو لبس إلى قائد الثورة الإيرانية، يقول لويس غروب في موقع "القنطرة": "كان رشدي قرأ مقال الخميني عن "طبيعة الماء" ووجد أن مصطلح "الطهارة" الوارد في المقالة يمثل نقيضاً لتصورات رشدي عن المجتمع المفتوح المتعدد. بدلاً من أن يرسم صورة فاقعة ومبالغا فيها للمتطرف الديني، قرر رشدي أن ينزع القناع عن الوحشية القاسية التي تتوارى وراء تصور الخميني عن العالم...


في المقابل تعتبر بعض الأقلام أن هدف سلمان رشدي في روايته "لم يكن هو الاستفزاز". لقد كان غرضه بالأحرى هو "إظهار كيف أن كل حقيقة دينية وثيقة الصلة بالحقائق الأرضية المرتبطة بدورها بالبشر، وأن الإدعاء بوجود حقيقة مطلقة لا بد من أن يؤدي إلى أعمال وحشية تجاه الآخر الذي يخالفنا في التفكير". وإذ يقول رشدي إنه غير سياسي، يؤكّد أن روايته "أسيء فهمها إلى حدّ بعيد"، موضحاً "إنها في الواقع رواية تتحدث عن المهاجرين الآسيويين في جنوب لندن، ولم تكن ديانتهم سوى جانب من تلك القصّة". والرواية "تستكشف نشأة الإسلام عبر مقاطع متكررة من الحلم الذي يتراءى لجبريل فاريشتا. ويُوصف محمد باعتباره شخصاً يسعى إلى السلطة، وهو يضع النبوءة الإلهية في خدمة أهدافه السياسية؛ أو كما نقرأ في أحد مقاطع الرواية: "كم هو أمر عملي أن تكون نبياً"... لقد انتقد رشدي بشكل منتظم العنف الذي يستخدمه الجيش الهندي في مواجهة مسلمي كشمير. وعندما أعلن ف. س. نايبول العنصري علانية أن الغزو الإسلامي في القرن الحادي عشر قد دمر الثقافة الهندية، فقد تدخل رشدي في النقاش وأعطى حائز نوبل درساً لا يُنسى بسبب مواقفه الدنيئة. في واحدة من أشهر مقالاته قال رشدي: إن الإسلام بحاجة إلى الإصلاح ليتناسب مع العصر الحديث، وطالب بتفسير جريء وشمولي ومنفتح للقرآن الكريم سيؤدي بالضرورة للقضاء على العزلة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية من اجل إدماجها في العالم المعاصر!!

في المقابل يكتب يوهان شلومان في موقع "القنطرة" عن استفزازية رشدي، يقول بأن ستة كتَّاب من الولايات المتحدة رفضوا المشاركة في حفل تقيمه رابطة القلم PEN في نيويورك. وفي هذا الحفل من المقرَّر حصول صحيفة شارلي إيبدو على جائزة لحرية التعبير عن الرأي. وجميع هؤلاء الكتاب الستة المخالفين أدانوا بشدة الهجوم الإرهابي الذي تعرَّضت له هيئة تحرير هذه الصحيفة الباريسية الساخرة، الأمر الذي يجب أن يكون بديهيًا لدى أشخاص يفكّرون. بيد أنَّ هؤلاء الكتَّاب غير مرتاحين لفكرة المشاركة في احتفال مهيب بملابس سهرة لرسومات تسيء لنبي الإسلام، يرفضون عدوانيتها بالإضافة إلى رفضهم انتهاكها عن قصد لحرمة تصوير (النبي). وبسرعة جاء الرد من سلمان رشدي الذي قال إنَّ هؤلاء الستة - الذين لا يريدون المشاركة - جبناء وبعدة وجوه. انتقد رشدي ضمن مراسلاته مع رابطة القلم "هؤلاء المتحفِّظين المثيرين للاشمئزاز" في النقاش وتحدَّث حول وجود "معركة ضدَّ الإسلام المتطرِّف"، يجب أن يتم كسبها. يضيف يوهان شلومان "سلمان رشدي لديه أسباب وجيهة لموقفه هذا: وذلك لأنَّه لا يزال مهددًا بدعوات لقتله منذ عام 1989 بسبب روايته "آيات شيطانية". ولكنه يرتكب خطأ انتشر من جديد منذ أعمال القتل العقائدية في باريس: "وهذا الخطأ يكمن على وجه التحديد في جعل حرية التعبير عن الرأي أمرًا مطلقًا بصرف النظر عن القيم الأساسية الأخرى في الأنظمة الليبرالية، مثلاً احترام حرية ممارسة الدين".


لم تكن رواية سلمان رشدي الأولى التي تتطرق إلى النبي، لقد تحدَّث فولتير، الكاتب الفرنسي التنويري بطريقة استفزازية عن نبي الاسلام في مسرحية كتبها في العام 1740. وكذلك تطرق له دانتي في "الكوميديا الالهية" بطريقة هجائية عن نبي الاسلام، واضطرت دور النشر العربية إلى حذف المقطع المتعلق به... ما حصل مع رشدي وآياته الشيطانية أنه أتى في مرحلة محورية، في لحظة كان العالم يشهد تبدلاً جذرياً في هوياته وتوجهاته، اذ تصدعت القوميات والأنظمة الاشتراكية وبدأت تظهر هويات جديدة جامحة تميل إلى الدين والتديّن، وجاءت فتوى الخميني كشحمة على فطيرة...

تبين سيرة الطالب الباكستاني ألياس كارماني التي نشرها الكاتب مبين أزهر في موقع "بي بي سي"، أن الفتوى ساهمت في الفرز الديني في لندن، ينقل عن كارماني أنه عاش في حي توتينغ جنوبي العاصمة البريطانية لندن في أسرة باكستانية تقليدية. كان والده يعمل سائقا لحافلة عامة كما كان ناشطاً في الحركات النقابية. لعب الدين دوراً مهما في نشأة ألياس، ولكنه لم يكن مهتما بالشأن الديني على وجه الخصوص. يضيف الياس "كنا مطيعين لوالدينا، وكنا نقصد المسجد عند اقتضاء ذلك، ولكن كانت لنا حياة موازية لتلك الحياة. فقد كنا نحضر الحفلات الصاخبة وندخن الحشيش ونخرج مع الفتيات ونعمل كل شيء بوسعنا أن نعمله". وعندما حان الوقت للالتحاق بالدراسة الجامعية، فرّ كرماني من هويته الأسرية الباكستانية وتوجه إلى غلاسكو في اسكتلندا. يقول "كنت باكستانياً كارهاً لهويته ولم أرد أن يكون لي اصدقاء سمر. كان كل أصدقائي من البيض الليبراليين. تلك كانت المجموعة التي أختلط بها". في غلاسكو، يقول ألياس "قضيت وقتا رائعاً، ولكن حصل شيء مزعج في عام 1989. ما كان ذلك "الشيء المزعج"؟ الفتوى التي أصدرها آية الله خميني، والتي حلل فيها قتل سلمان عند ذاك، وجد نفسه موصوماً بفتوى لم يكن له أي دور في إصدارها. يقول "ظننت أن اصدقائي (من الإنجليز البيض) كانوا يتفهمونني ويتقبلونني، ولكنهم بدأوا بتوجيه أصابع الإتهام. هل أنت معنا أم ضدنا؟ لم يكن كرماني يشعر بالارتياح عندما كان يرتاد المساجد في ذلك الوقت، فقد كانت المساجد البريطانية في الثمانينيات تدار من قبل كهول من الهند وباكستان لم يكونوا يجيدون اللغة الانجليزية. ولذا سعى ألياس للحصول على الارشاد والتوجيه من مسلمين أصغر سنا يجيدون لغة البلد الانكليزية، وعثر على ضالته. نتيجة ارشادات هؤلاء، عاد كرماني إلى اعتناق دين آبائه وأجداده، ولكن بطريقة أكثر تطرفا، إذ كان تركيزه على الهوية الإسلامية العالمية وليس الأمور الأخلاقية والروحية الشخصية. يقول ألياس "كان الأمر عبارة عن ثقافة مضادة أو معاكسة لها نمط خاص من اللباس واللغة. تركت أصدقائي من غير المسلمين وعندما أكملت دراستي الجامعية كرست نفسي كليا للحركة (الإسلامية)." ويقول "بدأ الأمر عندما نشر سلمان رشدي روايته "آيات شيطانية" وعندما شعرت بأن الناس بدأوا بالتخلي عني وتهميشي. لذا أقول دائما إني واحد من أولاد رشدي. تم توجيهي نحو التطرف من قبل ليبراليين بيض".

أما كنان مالك فكتب مقالة بعنوان "سلمان رشدي تحدى من حاول إسكاته واليوم يخشى كثيرون من التسبب بالإساءة". ويبدأ بالاستشهاد بمقطع من رواية رشدي تشير الى أن عمل "الشاعر"، وهو أحد الشخصيات في رواية "آيات شيطانية"، هو "تسمية ما لا يمكن تسميته والإشارة إلى عمليات الاحتيال والانحياز إلى طرف وطرح الجدل والتأثير على شكل العالم ومنعه من النوم". ويضيف الراوي: "وإذا سالت أنهار الدماء من الجروح التي أحدثتها أبياته، فإنها ستغذيه". ويقول إنه يبدو أن هناك "شيئاً فظيعاً" حول الرواية وهو الغضب الذي "تسبب بأنهار من الدماء. بما في ذلك الآن دماء رشدي".

ويعتبر الكاتب إن مسألة رشدي كانت نقطة تحول في الحياة السياسية والثقافية في بريطانيا، حيث فتحت النقاش حول قضايا مثل الإسلام الراديكالي والإرهاب وحدود حرية التعبير وحدود التسامح. و"نشأ في أعقاب ذلك "عداء أكبر للمسلمين، وشعور أقوى والرفض الأخلاقي لإهانة الثقافات أو الأديان الأخرى في مجتمع تعددي". ويشير إلى أن ما كان مهماً في الأمر "لم يكن ما كتبه رشدي بقدر ما كانت الرواية ترمز إليه". ويضيف الكاتب: "ربما كانت الحملة ضد رشدي هي أول موجة غضب كبيرة ضد تشويه رموز الهوية في وقت اكتسبت فيه هذه الرموز أهمية جديدة". و"نادراً ما كان البريطانيون من أصول مسلمة الذين نشأوا في السبعينيات وأوائل الثمانينيات ينظرون إلى الإسلام على أنه هويتهم الأساسية. أدّت أزمة رشدي إلى حدوث تحول في وعي الذات وبدايات هوية إسلامية مميزة".

في المقابل، وبعد تنامي التطرف الإسلامي في السنوات الأخيرة ترسّخت صورة رشدي كرمز لـ"الكفاح ضدّ التطرف ولحرية التعبير"، وهي صورة لطالما لازمته في الغرب. واعتبر رشدي عام 2005 أن الفتوى بحقّه كانت مقدمة لاعتداءات 11 سبتمبر 2001. وكتب في 2016 "لم تكن حالتي سوى تمهيد لظاهرة أوسع بكثير باتت تعنينا جميعا".
 وبإزاء من ورد أعلاه يكون السؤال، من صنع التطرف هل البحث عن الحقيقة التاريخية أم "الجهل المقدس" كما يسميه الكاتب الفرنسي أوليفييه روا؟... موضوع شائك ومعقد، ليس أقلّه بأن مهاجم رشدي وطاعنه(اللبناني الأصل) بحسب والدته، زار لبنان لشهر وعاد إلى أميركا وقد تبدلت أفكاره نحو التطرف.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها