الإثنين 2022/08/15

آخر تحديث: 15:49 (بيروت)

جورج الراسي.. أمين معلوف/البدايات... سنوات الجمر (1967-1968)

الإثنين 2022/08/15
جورج الراسي.. أمين معلوف/البدايات... سنوات الجمر (1967-1968)
increase حجم الخط decrease
الموسم الجامعي 1966-1967 شهد ولوج كوكبة من التلامذة المميزين إلى حرم الجامعة اليسوعية(جامعة القديس يوسف) وإلى رديفتها "مدرسة الآداب العليا" المتخصصة بالعلوم الإنسانية.

معظم القادمين الجدد جاؤوا من مدرسة "سيدة الجمهور" التي اعتادت أن تحتضن أبناء البورجوازية المسيحية على وجه الخصوص، كما خرجت أجيالا ممن كان لهم شأن فيما بعد.. وفي كل الاتجاهات... يكفي أن أذكر على سبيل المثال لا الحصر طبعا رياض سلامة حاكم مصرف لبنان منذ أجيال، وكارلوس غصن الرئيس السابق لشركة رينو... وقد تحصلوا جميعهم تقريبا على الجنسية الفرنسية بالإضافة إلى جنسيات أخرى.

وحدي من بين أفراد البوطة كنت آتيا من مدرسة "فرير" الجميزة... التي نالت نصيبها من عصف انفجار المرفأ في 4 آب / أغسطس من عام 2020...

التاريخ الحاسم كان حزيران/ يونيو من عام 1967.

طبعا ذلك التاريخ يعني لكم شيئا... أطلقوا عليها جزافا اسم "حرب الأيام الستة" وهي لم تكن في الواقع سوى "حرب الساعات الست"...

خلال تلك الأيام كنت منزويا في صومعتي في بلدة برمانا الجبلية. وقد اعتاد الأصدقاء والرفاق الالتحاق بي في الجبل لتتبع أخبار الحرب بفضل راديو ضخم نصبناه في الصالون نتحلق حوله لآلتقاط آخر أنباء الانتصارات...

ولا أخفي عليكم أن بعضنا أضطر للإستعانة بالآلات الحاسبة لتعداد عدد الطائرات الإسرائيلية التي كان أحمد سعيد يسقطها من إذاعة "صوت العرب" في القاهرة...
الكل كان يعرف أن تلك كانت حرب "الضربة الأولى" فلماذا تكالب العالم كله على عبد الناصر لمنعه من توجيه تلك الضربة؟

في آخر خطاب له عشية تلك الحرب العجيبة كان عبد الناصر واضحا: "هدف الحرب هو تدمير إسرائيل.." قالها بالفم الملآن... فلماذا اراد العالم كله كبح جماحه؟

حتى الأصدقاء السوفيات كانوا الأكثر إلحاحا "لضبط الأعصاب"...

لكن "الأصدقاء السوفيات" ليسوا "جمعية خيرية"... هنالك قاعدة ذهبية يجب أن تضعوها دائما نصب أعينكم: السوفيات يساعدونكم شرط أن تظلوا دائمآ بحاجة إليهم... لا يساعدونكم ويمدونكم بكل أنواع الأسلحة لكي تحقق القومية العربية نصرا كاسحا فتصبح لاعبا دوليا مهما وينتهي الأمر بإقصاء الشيوعيين عن الساحة...

تلك كانت بعض المواضيع الجانبية التي كنا نتداول بها على هامش الكارثة التي كرسحت الأمة العربية لأجيال مقبلة و آلى أجل غير مسمى...

بالطبع كان أمين معلوف مثلنا جميعا مأخوذا بتلك الأحداث يحاول ان يحلل وأن يفهم...
وأذكر أن نقاشا دار بيننا حول الحرب السابقة حرب 1956 بعد أن أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، الذي أعقب ذلك بمشاركة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. طبعا تم دحر العدوان بإنذارات من كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة... وأضطر الغزاة إلى الانسحاب...

فهناك حقيقة أخرى يجب أن نفهمها على صعيد العلاقات الدولية والصراعات بين الأمم والقارات ألا وهي تطابق الرؤى والمصالح بين السوفيات بالأمس والروس حاليآ من جهة، والأميركان من جهة ثانية، على نقطة واحدة جوهرية هي طرد الإستعمار القديم -فرنسي-انكليزي-اسباني-برتغالي...-حيث وجد... للحلول محله... وما يجري في دول إفريقيا اليوم خير دليل على ذلك...

وبالتالي فإن الوقوف ضد العدوان الثلاثي كان من هذا المنطلق لطرد الإستعمارين الفرنسي والإنكليزي من المنطقه العربية...

لكن القطبة المخفية في حرب 1956 -الني لم تزعج أحدا - كانت تسلل إسرائيل إلى أفريقيا عبر مضيق تيران الذي فتح أمامها بحماية قوات الأمم المتحدة... (تجدر الإشارة هنا إلى أن جزيرة تيران سلمتها مصر مؤخرا آلى السعودية بمباركة إسرائيلية)..
وقد حققت إسرائيل في تلك الحرب "الخاسرة" نصرا استراتيجيا هائلا..

ومن المعروف أن انسحاب قوات الأمم المتحدة من سيناء عشية كارثة 1967 أضطر مصر إلى آعادة آغلاق المضيق... وكانت تلك أولى شرارات الحرب...
هذه المسألة أثارت حينها دهشة أمين وأعرف أنه تعمق في مراجعتها ومحاولة فهمها...

تلك كانت المواضيع التي تشغل بالنا في أول سنة جامعية.. ثم أخذت الأمور تقترب منا أكثر...
ففي يوم من أيام شهر تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1968 جاءني احد افراد البوطة الصديق بطرس لبكي يطرق بابي لأمر طارئ و"خطير"...

(بطرس بالمناسبة درس الهندسة ثم انتقل لدراسة الإقتصاد في جامعة القديس يوسف. وهو أحد الخبراء الكفوئين بكل ما له علاقة بشبكات الصرف الصحي... -نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى.. -و قد عمل لفترة مساعدا لصديق آخر هو الفضل شلق عندما كان الفضل رئيسا لمجلس الإنماء والإعمار... وكان وحيد أمه Bianca سيدة لطيفة وراقية من أصل يوناني، يعيشان في شقة متواضعة في شارع محمد الحوت الشعبي، غرب بيروت.. و"عنده شغل" هذه الأيام لأنه كل بضعة أشهر يصدر دراسة عن هجرة اللبنانيين.... قبل أن يفرغ البلد..).
المهم جاءني بطرس في ذلك اليوم وهو يلهث.. وهو يقول لي: "هل سمعت بما حدث..؟

-خير انشالله؟
-لقد هجموا على طلاب مدرسة الآداب العليا بالجنازير... وجرحوا بعضهم...
- (من "دذك" علي هذا الصباح كما يقول الإخوة في العراق - قلت في نفسي؟) ماذا تريدني أن أفعل يا بطرس.. من قال لك أنني جيمس بوند؟

-لا... يجب أن نصدر بيانا على الفور ندين فيه هذا العمل الهمجي...
-يا سيدي آذا بيان على الراس والعين...

(يجب أن أوضح أن منزل أهلي في ذلك الوقت كان قريبا من مدرسة الآداب العليا في حي يسمى "فرن الشباك " وفي شارع -تاريخي - سأتحدث عنه لاحقا يسمى "شارع المدور"... وبما ان "صيطي "بين الرفاق أنني " شاطر بالعربية"... فقد كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار إلي وتقع القرعة علي لصياغة بيان يسر الصديق ويغيظ العدى... يعني من كعب الدست...)..

اما ملخص تتابع الأحداث فكان كما يلي: ظهرت لأول مرة في التاريخ الحديث تيارات "يسراوية" في عقر دار الجامعات الفرنسية. إلى درجة أن بعض الجماعات ذهبت بها الوقاحة آلى حد إقامة أسابيع تضامن مع... "الحركة الوطنية"... والمنظمات الفلسطينية... لا بل دعت بعض "أساطين" تلك المجموعات آلى القاء محاضرات في حرم الجامعة...
يعني لكي تفهموا الوضع أسوق لكم بعض ما جرى...

إن قيام دعاة ثوريين من طراز منير شفيق مثلا (كان على ما أذكر ممثلا للثورة الصينية..) بإلقاء محاضرة في مدرسة الآداب العليا في ذلك الوقت يشبه آلى حد كبير قيام الخليفة أبو بكر البغدادي بإحياء مناظرة في جمعية الأم تيريزا في كلكوتا...

هذه "الإستباحة " استفزت مصلحة الطلاب في حزب الكتائب التي كان على رأسها آنذاك كريم بقرادوني (لمن يعرفه... وقد أصبح متخصصا فيما بعد بألشأن السوري).. وكان ساعده الأيمن (لمن يعرفه أيضا) ميشيل سماحة (الذي أطلق سراحه منذ أيام قليلة بعد عشر سنوات قضاها في السجن بعد إدانته بنقل متفجرات وإعداد تفجيرات..)..

كان سماحة في العشرين من عمره يكره "اليسار "كرها شديدا. ناهيك عن كراهيته اللامتناهية للفلسطينيين...

ويبدو أنه كان مفطورا منذ نعومة أظافره على لعبة الأجهزة الأمر الذي قاد "الفتى الكتائبي" إلى الإرتباط بالمسار الطويل لإيلي حبيقة من التحالف مع إسرائيل وصولا آلى تخوم دمشق مرورا بصبرا وشاتيلا...

لا بل تمكن فيما بعد من بناء شبكة علاقات عالمية قبل أن يصبح مستشارا لأمين الجميل في رئاسة الجمهورية ويتولى إدارة تلفزيون لبنان قبل أن يخطو خطوته التالية إلى "سعادة " النائب و "معالي" الوزير...

لا بل وصلت مواصيله آلى فرنسا حيث تحالف مع "جماعة فولتير" المتطرفة وأصبح نديما ل Claude Géant الصندوق الأسود للرئيس الفرنسي السابق Nicolas Sarkozy . وقد صدر في أيار / مايو 2019 حكم بسجن Guéant لمدة عامين بينهما واحد نافذ آمضاه بالفعل، بعد إدانته بتبييض أموال، كما سحبت منه كل القابه الشرفية بما في ذلك جوقة الشرف... حدث مثل هذا من شأنه إسقاط دولة كاملة في بلد كفرنسا... اللهم إلا إذا العهد "قويا" طبعآ!

تجدر الإشارة إلى أنه أدار عام 2007 حملة Sarkozy الإنتخابية ودخل قصر الÉlysé مع الرئيس الجديد وأصبح الأمين العام للقصر قبل أن يتولى شؤون وزارة الخارجية...
و جدير بالذكر أنه كان المتهم الأول في عملية نقل شنط الأموال الليبية المقدرة قيمتها ب 50 مليون دولار لتمويل حملة Sarkozy الإنتخابية...

أي زعيم عربي يتسنى له شراء رئيس جمهورية فرنسا بـ 50 مليون دولار... ويتردد؟
كان لا بد من فتح هذا الفاصل لكي نبين مدى تشابك تلك الأجهزة وقدرة سماحة على الولوج اليها...

مختصر الأمر أن المجموعات الكتائبية التي كانت تعمل بإشرف أعلى قيادة ميليشيوية قامت بعملية "تأديب" لمن خرجوا عن بيت الطاعة مستعينة بـ"الجنازير"...
وكان علي أن ارد ببيان...

لقد استضفت بطرس بالطبع واستمهلته بعض الوقت لكتابة "البيان" بينما كان ينتظرني في صالون الدار. فدخلت إلى غرفتي الصغيرة في طرف البيت (ثلاثة أمتار بمترين...) وخرجت بعد حين والجوهرة الثمينة بين يدي... فأخذها بطرس بسرعة و هرول لا أدري إلى أين...

لكن المفاجأة الكبرى كانت اليوم التالي إذ عقد ثلاثة طلاب مؤتمرا صحفيا لقراءة "البيان"... وكأنه "البيان الشيوعي"... أما الثلاثة فكانوا: أمين معلوف وسمير فرنجية وكريم مجدلاني... وقد أوكل أمر الإلقاء إلى... أمين معلوف...
أعتقد أن البيان المكتوب على عجل وتحت الصدمة.. كان عالي النبرة... إذ يبدو أن الفرسان الثلاثة تبدلت ألوانهم خلال المؤتمر...

ولم تكد تنتهي هذه الواقعة حتى ضجت "بيروت الشرقية" بما اقترفه ابناؤها من اعرق العائلات المسيحية بحق الميليشيات المحسوبة على المسيحيين والحاكمة بأمرها في ذلك "الغيتو".

... وبدأت الإتصالات ليل نهار لإيجاد مخرج من هذه المصيبة....
وكان المخرج في اليوم التالي جمع المخربين الثلاثة مع بشير الجميل الذي كان في أول ظهور له على الساحة السياسية... لكي يقوموا مجتمعين بوضع آكليل من الزهور على قبر الجندي المجهول...

مضت بعد ذلك أشهر عديدة قبل أن أستيقظ مذعورا ذات ليلة وأنا أكرر ما قاله ذلك المكتشف: وجدتها.. وجدتها...
لماذا تم آختيار أولئك الثلاثة بالذات؟

لأن أحدهم كاثوليكي (أمين).. والثاني ماروني(سمير)... والثالث أورتوذكسي (كريم)....
(يا غافل آلك الله...)... قلت في نفسي...
وعدت أغط في نوم عميق...


(*) مدونة نشرها الكاتب جورج الراسي في صفحته الفاسبوكية وهي من اربع حلقات، هنا  الحلقة الأولى.
الصورة: أمين معلوف يتصدر إحدى الأمسيات التي كانت تقام في شقة جورج الراسي في بيروت (شارع بدارو) للاستماع إلى عزف منير بشير. وتجمع العائلة وأمين معلوف وجاد تابت عام 1974.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها