الثلاثاء 2022/07/19

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

مَن قتل يوسف بيدس وقضى على بلد بكامله؟

الثلاثاء 2022/07/19
increase حجم الخط decrease
خلال الحجر الصّحي، امتلكت المخرجة والكاتبة كريستيل خضر، متسعاً من الوقت لنفسها، وشعرت بالضرورة المُلحّة لتعمل على الإنهيار الإقتصادي وتأثيره في السرديّة عبر المسرح. وتقول خضر لـ"المدن"، بأسلوبها الحكواتي، أنها كانت تحتاج إلى القصص وتطوراتها وفصولها لتتعامل مع كل ما يحدث من حولها، فإذا بها تعبر جسرها بلا خوف من ضجيجها. في عروضها التي ترفض التنازل عن ستائر التفرّد، لا يهمّها أن تُعالج تلك الأمور الصغيرة والأخرى الأكثر خطورة التي تحدث في الراهن السريع. قصص كريستيل خضر تنبثق من الأرشيف. من ذاك اليقين بأن الماضي غالباً ما يُقدم لنا المستحيل.

والآن، إلى يوسف بيدس. ذاك الرجل الأكبر من الحياة الذي أراد أن يحوّل لبنان إلى سويسرا الشرق، فإذا به يقود بنك إنترا إلى الهلاك. إلى "التراجيديا الكبيرة التي أصابت المودعين والبلد والمؤسس"، بحسب الحكواتيّة الشابة التي قامت برحلة بحث طويلة كانت نتيجتها من شقّين: أولهما مسرحية إذاعية تحمل عنوان "صعود وسقوط سويسرا الشرق" بتكليف من مسرح "spektakle" في زيورخ، عرضتها الشابة في مهرجان سمير قصير في إطار قراءة مباشرة. وثانيهما مسرحية "مَن قتل يوسف بيدس" التي بدأت العمل عليها مطلع العام. "كانت مسألة ضروريّة أن أشرح ماذا يحصل في البلد من الناحية الإقتصاديّة".

كريستيل خضر لا تفهم هذه الرغبة في توسيع النظام الإقتصادي في السلطة والذي لا يُشبه رغبة الناس في الحب، في نسج العلاقات العاطفية.

"مَن قتل يوسف بيدس" التجهيز التفاعلي الذي لا يُمكن حصره داخل إطار المسرح التقليدي، حوّل "مركز بيروت للفن" من 24 حزيران الماضي إلى 16 تموز الجاري، منزلاً صغيراً يتشاطره 24 شخصاً فقط يجلسون جنباً إلى جنب. يُجيبون على الهواتف العتيقة الموضوعة على طاولات مُتلاصقة تجمعهم وهي الشاهدة على ضحكاتهم الصغيرة العصبيّة، وقلقهم المُتململ.

تطلب منهم خضر، من مكان ما في المسرح الذي لا خشبة كلاسيكيّة فيه وما من مُمثلين يقودون الحبكة، أن يتداولوا سندات لن تفيدهم في شيء. وهم يعرفون سلفاً أنهم ذاهبون إلى الهلاك، ومع ذلك يُجيبون على الهواتف، يلبّون طلبات كريستيل، ويضحكون بعصبيّة. والهلاك هو الوجهة النهائيّة، تماماً كما حصل في بنك إنترا، ومع الفلسطيني–اللبناني يوسف بيدس (1912 – 1968) الذي أسس البنك الشهير في خمسينيات القرن الماضي وأشهر إفلاسه في العام 1966.

هو قدر رجل لم يعرف أن يكظم ميله للعظمة وهوسه بالأحلام المستحيلة. وقدر بلدٍ، المُفلس فيه هو شعب بكامله.

هذا التجهيز التفاعلي يُشكّك في حركة التوسّع النيوليبراليّة من خلال العلاقات العاطفية التي كُتب لها أن تفشل، ومن خلال التدقيق في حقيقة الإنهيار الإقتصادي لبلد بكامله، وينطلق من سقوط بنك إنترا في العام 1966.

والمسرح بالنسبة للشابة الثائرة بهدوء الحكواتيّة، هو عمل جماعي، "ويُرافقني فريق عمل بإنتظام. نديم دعيبس (تصميم الديكور) على سبيل المثال هو أول شخص أقرأ له نصي ويُعطيني الملاحظات. في هذا العمل، لا مُمثلين. وتصميم الديكور يوازي أهمية التأليف الكلامي. التأليف الصوري هنا بأهمية التأليف الكلامي. أنا شخصياً أدافع بشراسة عن كون المسرح عملاً جماعياً. الكتابة وحدها تحتاج إلى عزلة".

لا تعرف خضر ما هي العناصر التي تُغذي الخلق في داخلها، "أقرأ كثيراً. وأعود باستمرار إلى الأرشيف".

إبن يوسف بيدس، مروان، حضر أحد العروض.

في نهاية العرض، "ذهبنا أنا ونديم لنتحدث معه. قال لي: ما الذي ذكَّرك؟.. جلسنا معاً ونظر إلينا وقال: كانت للبابا هواتف مُماثلة على طاولته! وكنا في الحقيقة قد حصلنا على صورة تظهر هذه الهواتف التي أعدنا إستعمالها في العرض. عائلته أحبت العرض. لم يجدوا فيه أي شيء قد يهين الذاكرة، أو القصة".

حالياً، تنغمس خضر في تمارين عملها الجديد. والتمارين، بطبيعة الحال، تقام خارج لبنان. إذ يبدو البلد مُنهمكاً بأمور حياتيّة مُلحّة أخرى. "أنا مُستقرة في لبنان. لكن عملي مُرتبط بالخارج. أعيش من خلال الجولات في الخارج".

في نهاية العرض الإذاعي، تتحدث خضر مباشرةً مع يوسف بيدس، تشكره لأنه بنى الإهراءات. إهراءات القمح في المرفأ، التي أنقذت نصف المدينة، أقلّه ظاهرياً. هذه الإهراءات أنقذت الشق الثاني والأخير من حياة كريستيل خضر. وفي نهاية عرض "مَن قتل يوسف بيدس" التفاعلي، الناس يضحكون، يستغلّون الفرصة للتعرّف من كثب إلى هؤلاء الغرباء الذين تقاسموا معهم رحلة الهلاك. وتعرفوا في الطريق إلى رجل لم يعرف متى يوقف نزعة العظمة التي هيمنت على كيانه. وها هو البنك والبلد يتقاسمان القدر عينه. وإن بفارق في الوقت لا يُستهان به.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها