السبت 2022/07/02

آخر تحديث: 10:38 (بيروت)

عادل داوود... ضحايا الحرب يتحكمون باللوحة

السبت 2022/07/02
increase حجم الخط decrease
مع الوقت، تعلّم أن يُحوّل الوحوش التي تُشاركه الأنفاس والأيام، حليفاً يواجه معه كل ما حصل في الطريق. وهي تحل ضيفاً في مُجمل أعماله لتُذكره بأنه في وقت من الأوقات كاد أن يصل إلى مرحلة الجنون، لولا حضورها البهيّ الذي يترنّح على صدى الأسلوب التجريدي والتعبيري والسوريالي. وهذه الرقصة التي تتأرجح بين إنفجار اللون وضبطه.

الأكيد أن الوحوش التي تقطن لوحات الفنان الكردي-السوري المُقيم في فيينا، عادل داوود، تزوّر الذكريات نيابةً عنه، وهو يُعاملها بكثير من التفهّم وكأنه يعرف سلفاً بأنها ستُرافقه إلى أجَل غير مُسمّى. ولكي لا يُربك زائر عالمه الداخلي ويُقلقه، يعمد داوود إلى التخفيف من ضراوتها، مُضيفاً إليها ما يُشبه الشاعريّة لتبدو أكثر وقاراً. وفي المعرض الجماعي الذي يطل من خلاله ابن الحسكة في غاليري "آرتيكونت" المُتخصّصة بالفن المعاصر في النمسا، يُمكن التأكد من أن الوحوش التي تقطن اللوحات، وربما أيضاً روح داوود المسكونة بضوء فجر الحرب التي ما زالت تتربّص في مكان ما في أروقة روحه الداخليّة، ستطل علينا بقامتها البهيّة لتُذكرنا بأننا في الواقع لا ننسى. 

ترعرع عادل داوود (1980) في محافظة الحسكة، شمال شرقي سوريا، في منطقة ذات غالبيّة كرديّة تقع على حدود تركيا والعراق. ويروي لـ"المدن" كيف أنه لم يكن يعرف ما هو الرسم، لكن قيل له باكراً، في الصف الثالث أو ربما الرابع إبتدائي، بأنّه رسّام. وهو لم يفهم سرّ إنجذابه لهذه المادة التي كانت محوريّة في المنهج الأكاديمي.

لكنه كان يتعامل مع الرسم وكأنه اللعبة التي يترنّح على أرجوحتها من دون أن يعلم في تلك المرحلة المُبكرة بأنها ستتحوّل لغة التواصل الوحيدة التي سيُتقنها بتلك الشراسة المُخمليّة. أو بأنه، بفضلها، سيتصالح مع وحوش ستُضيء له طريق العودة إلى الذات. مع الوقت وصل تعلّقه بالرسم إلى مرحلة نسي من خلالها أي شيء آخر له علاقة بالدراسة. وفي المرسم الخشبي الصغير الذي بناه عندما انتقل من مرحلة الطفولة إلى الصبا، وصل به الخلق إلى درجة أنه لُقب بالـ"فنان" في المنطقة قبل أن يشعر بأنه يستحق اللقب.

ولأنه أراد أن يُعزز معرفته الأكاديميّة بالرسم، انتقل إلى الشام حيث بدأ من الصفر. وفي الـ27 من عمره إنضم إلى كليّة الفنون الجميلة، وكان شعوره للمرة الأولى بالغربة التي تعلّم أن يعتاد حضورها البهيّ، تماماً كالوحوش التي تقطن لوحاته شبه الشاعريّة. غادر عادل داوود منطقته الكرديّة، ومرسمه الخشبيّ الصغير، هو الذي كان فناناً تشكيلياً في الحسكة وأصبح طالباً في كلية الفنون في الشام.

وبعد 6 أشهر على تخرّجه في الكليّة في العام 2012، كان اللقاء مع صاحب فُسحة "آرت هاوس" في دمشق، جامع الفن الشهير غيّاث المشنوق، الذي آمن بتجربته وأقام له معرضه المُنفرد الأول في فسحته الشهيرة. وفي تلك السنة أيضاً، كانت طبول الحرب بأسرارها العظيمة، وكانت مسألة عاديّة أن يمكث عادل داوود لأيام طويلة في المنزل مُحاطاً بأصوات الإنفجارات.

وعندما تقدّم بطلب الحصول على فيزا للنمسا، بحكم دعم بعض الأصدقاء المُقيمين فيها، إنتهت قصّة لتبدأ أخرى، وحصل اللقاء مع الوحوش التي تُحاول أن تحل ضيفة وقورة في أعماله. 

الأكيد أن عادل داوود كان طموحاً، وعاش رغبة حقيقيّة في العيش بالقرب من المتاحف، وأراد الإنتقال إلى النمسا إنطلاقاً من عشقه لغوستاف كليمت وإصراره على التطوّر. والغربة كانت تنتظره، مرة أخرى، في كل الزوايا. وفجأة، استحق داوود لقب اللاجئ وأصيب بصدمة يصفها "بالصدمة الحضاريّة" من الأشياء البسيطة، "سقف فوق رأسي، الكهرباء والماء. أشياء الحياة العاديّة. مع الإشارة إلى أنني رسمتُ اللوحتين الأخيرتين لي في سوريا على ضوء الشمعة".

وكان المأوى الذي يستقبل عادةً كل من لا عائلة له، منزله طوال 9 أشهر. وكان اللقاء الأول والحقيقي مع الوحوش التي استقبلته بقامتها المهيوبة في الغرفة الصغيرة التي تقاسمها مع 9 أشخاص انتظروا مثله أن يتبدّل قدرهم.

وكان الفن ملجأه الوحيد. ولم يتوقف عادل داوود عن الرسم طوال الوقت. وكانت عينه تصطدم بالأشياء الغريبة التي كانت تخرج منه لتستقر على الأوراق الصغيرة التي استعان بها ليتخلّص من الجنون الذي كاد أن يُصيبه. كان واثقاً من أنه سيُواجه مُشكلة نفسيّة إذا توقّف عن الرسم. 
وكانت الأشكال التي خرجت منه، لها علاقة بالأساطير. وفي حين أن لوحاته في سوريا كانت تُجسّد الجمال، تحوّلت في الغرفة الصغيرة التي تقاسمها مع غُرباء تواصلوا بعضهم مع بعض من خلال الصمت الثقيل، قبل تواصلهم من خلال الأنفاس العالقة في الصدر، وحوشاً كانت تكبر يوماً فآخر في داخله.

ربما كانت الوحوش هي من ترسم عادل داوود في هذا المأوى الذي حضن مَن لا منزل لهم. ولأن فيينا كانت تبحث عن فنانين مُعاصرين يضيفون لمسات حديثة إلى فنّها الكلاسيكي العريق، لفت صديقه إنتباهه إلى إعلان صغير عن متحف يبحث عن فنانين "موديرن" من خلال مُسابقة تقدّم لها أكثر من 765 فناناً من أنحاء النمسا... ومن بينهم صار عادل. وفي المرحلة النهائيّة اختار القيّم على هذه المسابقة 22 فناناً ليعرضوا في أهم المتاحف في النمسا. وكان عادل داوود بينهم. وكان المعرض الجماعي الأول، فبدّل حياة إبن الحسكة الذي تصالح طوال 9 أشهر أمضاها على سرير صغير في المأوى، مع الوحوش التي باتت تقطن مُجمل أعماله. لكنه لم يتمكّن من التخلّص من الماضي، فإذا به يستعين به لتتم عمليّة التطوّر.

ويُعتبر عادل داوود اليوم، أحد أبرز الفنانين المُعاصرين في النمسا، وقد وقّع عقوداً مهمّة مع أبرز الغاليريهات، وصارت له مكانته في الساحة في صف الفنانين الذين إنفجرت طاقاتهم الإبداعيّة بعد الحرب العالميّة وإستحقوا لقب "التعبيريين". وبطبيعة الحال، فإن أعماله تُجسّد الحرب التي ما زالت تُسيّج مُخيلته هو الذي وجد الراحة في فيينا. ويُحاول داوود أن يروي من خلال اللوحات شبه الشاعريّة بوحوشها المروّضة، كيفيّة تعامله مع الذاكرة وذلك من خلال الألوان الواضحة جداً والصارخة في بعض الأحيان. وهو يعزو ذلك "للشمس الحاضرة بالشرق وتولّد الألوان الواضحة جداً على عكس الألوان الرماديّة الحاضرة في أوروبا".

ويشعر داوود أحياناً أن ضحايا الحرب هم الذين يرسمونه. هم الذين يتحكّمون في اللوحة. وهو يتجنّب التحدث عن السياسة في أعماله المسكونة بالجمال والذاكرة والألم، ويبتعد عن التحريض على عنفٍ عاش طقوسه كاملةً "أيام الحرب" التي من المستحيل أن ينساها. لكنه يُحاول أن يوظّف جنونها بطريقة تعبيريّة وفي "كانفا" كبيرة الحجم. وقد اقتنى متحف فيينا أحد أعمال عادل داوود (ثانيتان قبل الموت). وهو يُركّز أحياناً على اللمسات الأخيرة بين شخصين قبل أن يصل الموت ويغرس يده في قصصنا الصغيرة، ويُسلّط الضوء أيضاً على الهمسات الأخيرة التي تُقال قبل هُنيهات من الرحلة الأخيرة، مع الإشارة إلى أنها قد تُلخّص بحوراً من الأحاسيس.

يُخبر عادل داوود أنه يعيش حالة مُستمرة من القلق خلال الرسم، ويقول أن الرسم يعزله عن الحياة التي لا يعرف كيفيّة التأقلم مع مُتطلباتها الصغيرة وتفاصيلها الدقيقة. يتجه عادل داوود، إذاً، للعزلة حيث مسألة طبيعيّة أن تقترب الأمور من الجنون. وحيث تحلّ الوحوش ضيفة لا تُكلّف نفسها عناء الإعلان عن حضورها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها