الأحد 2022/06/05

آخر تحديث: 11:35 (بيروت)

«لا للأعراف الطائفيّة»: حين يدخل التغييرُ البرلمان

الأحد 2022/06/05
«لا للأعراف الطائفيّة»: حين يدخل التغييرُ البرلمان
جلسة عامة لمجلس النواب لانتخاب رئيس المجلس(علي علوش)
increase حجم الخط decrease
تحتاج الجلسة الأولى للمجلس النيابيّ اللبنانيّ، التي جرت الثلاثاء الماضي، إلى قراءة هادئة. يلفت، هنا، طبعاً وصول النوّاب الذين يطلقون على أنفسهم صفة «تغييريّين»، وينكبّون اليوم على بلورة تكتّل يستند إلى رؤية سياسيّة واقتصاديّة مشتركة، يلفت وصولهم إلى ساحة النجمة سيراً على الأقدام، والتعبير عن تضامنهم، قبل الجلسة مباشرةً، مع ذوي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وذلك في لقاء يكتظّ بالدلالات والعبر، وهو أبعد من أن يكون مجرّد تفصيل.  

ما كاد هؤلاء النوّاب يُنتخبون، حتّى راحوا يتعرّضون لحملة شعواء من اليمين ومن اليسار. بعضهم اتّهمهم بالشعبويّة، وبعضهم اتّهمهم بالافتقار إلى الواقعيّة السياسيّة، وبعضهم اتّهمهم بالتشرذم. من شبه المستحيل على النوّاب الآخرين أن يفهموا أنّ هناك تكتّلاً تغييريّاً لا يريد الاصطفاف مع أحد، حتّى عند التقاطع، ولا ينحاز إلّا لاقتناعاته ولقضايا الناس. من شبه المستحيل عليهم أن يقبلوا إمكان وجود نوّاب من خارج الصندوق يأتون إلى المجلس من دون مواكبة وسيّارات فخمة، ويعترفون بتنوّعهم، ويحاولون إدارة هذا التنوّع بالعقل والحوار. ومن شبه المستحيل أن يتصوّروا أنّه لا يوجد على رأسهم زعيم طائفيّ يحوّلهم إلى خرفان مطيعة، ويملي عليهم، مثلاً، أن ينتخبوا صديقاً قديماً فاسداً بحجّة عدم الرغبة في خلق مشكلة مع طائفته. كلّ ما جرى في ذلك اليوم كانت له رمزيّته: التكافل مع أهل الضحايا قبل الجلوس مع المجرمين في المجلس؛ دخول ساحة البرلمان، أي ساحة الشعب، سيراً على الأقدام، لا بالسيّارات الفارهة؛ حضور الكتلة التغييريّة الذي أعاد إلى مجلس الشعب زخم الديمقراطيّة الفعليّة من خارج التفاهمات المسبقة والمحاصصات التافهة؛ الضعضعة البادية على رئيس المجلس إبّان إدارة الجلسة، فيما أزلامه في الخارج يحاولون التعويض عن هزالة النصر بالزفّة وإطلاق الرصاص.


قراءة دلالات هذه المشهديّة الجديدة ليست صعبةً على النوّاب التقليديّين فحسب، بل على الناس أيضاً، وعلى الإعلام. فمن الأسهل، على هؤلاء، أن يدخل النوّاب (التغييريّون) لعبة الاصطفافات القديمة. هكذا يسهل تصنيفهم. لذا انطلقت حملات تتّهمهم بأنّهم يشبهون سواهم، وهم لم يبدأوا عملهم التشريعيّ والرقابيّ بعد. حملات كهذه متأصّلة في نفسيّة قلقة تخاف من الرهان على الجديد، وتخشى أن تفكّك المشهديّة الجديدة قواعد العالم القديم الذي اعتدناه وتربّينا عليه. فالعادة، كما كتب كارل ماركس ذات يوم، ألدّ أعداء الإنسان. ما قام به التغييريّون، قبل جلسة المجلس وفيها، لم يكن شعبويّاً، بل رمزيّاً. ومن لا يقدر على التمييز بين الشعبويّة والرمزيّة، مدعوّ إلى اقتناء نظّارة طبّيّة.


من ضمن ملابسات هذه الجلسة الأولى الغنيّة بمضامينها الرمزيّة، قرار النوّاب التغييريّين أن يصوّتوا بورقة كُتب عليها: «لا للأعراف الطائفيّة». ربّما يعتبر بعضهم أنّ ردّ فعل كهذا هو من خارج السياق. لكنّ الذهنيّة الطائفيّة في بلدنا هي من ضمن السياق، وتكاد تكون في صلب السياق. وهنا بالذات تكمن أهمّيّة الرسالة التي أراد التغييريّون توجيهها. قامت فوضى كبيرة إثر هذه المبادرة، في المجلس هرج ومرج، وفي الخارج أخذ وردّ. لكن تعالوا نضع الأمور في نصابها. الطائفيّة ليست الانتماء الدينيّ، ولا حتّى الانتماء إلى مجموعة دينيّة قرّرنا أن نطلق عليها اسم «طائفة». الطائفيّة هي نقيض المواطنة، لكونها تعتبر أنّ انتماء المواطن إلى الدولة يجب أن يمرّ بالطائفة. وإذا ارتضت الطائفة أن تنصّب عليها زعيماً، كما لو أنّها قبيلة، يستوجب الانتماء إلى الدولة المرور بهذا الزعيم، ما يغذّي الممارسة الزبائنيّة ويبطل مفهوم الدولة. هنا بيت القصيد. والذين لا يريدون إطلاق ورشة سياسيّة ومجتمعيّة حقيقيّة تفضي إلى اجتثاث الطائفيّة من النصوص والأعراف، مطالبون بأن يخبرونا كيف يتخيّلون مواطنةً لا يرتبط فيها المواطن مباشرةً بدولته. هنا بالذات تكمن مشكلة الحديث عن حقوق المسيحيّين أو حقوق المسلمين. فالجماعات الدينيّة، كما يقول أحد الأصدقاء العارفين، لا حقوق لها. الحقوق هي للمواطنات والمواطنين. أمّا الجماعات الدينيّة، أو الطوائف، فتعطى ضمانات كي تطمئنّ وتتخطّى عقدة الخوف والغبن وسواها.


الأحزاب القائمة على مبدأ دينيّ أو طائفيّ في لبنان، والتي تستقطب الناس وتجيّشهم بالاستناد إلى هذا المبدأ، لا تستسيغ مثل هذا الكلام طبعاً. وهي، على الأغلب، ستقاوم أيّ خطّة جدّيّة لاجتثاث الطائفيّة من النصوص، بحجّة أنّ إلغاء الطائفيّة سيفضي إلى دكتاتوريّة الطوائف الكبيرة وسيطرتها على الطوائف الصغيرة. لكنّ منطقاً كهذا يتناسى أنّ التغلّب على الطائفيّة، في النصوص وفي النفوس، يجب أن يتلازم مع مشروع بناء دولة عادلة يتماهى معها المواطنات والمواطنون، وتضمن لهم حقوقهم، بحيث يدركون أنّ الاستغناء عن الزعيم الطائفيّ، بوصفه مايسترو تأمين الخدمات، ممكن، حتّى إنّه ضروريّ لقيام الدولة. لا يمكن، إذاً، تخطّي الطائفيّة من دون إعلاء شأن الدولة. فهذان المساران متلازمان، ويجب تحقيقهما من ضمن خطّة طريق واحدة.

هذا هو الرهان الأخير لظهور النوّاب التغييريّين في الندوة البرلمانيّة بحلّة جديدة وبممارسة جديدة، حتّى ولو رأى بعضهم أنّهم سقطوا في مطبّات، وهذا أمر يناقَش. وهذا هو الرهان الأخير للأمر الفريد الذي قاموا به حين كتبوا على أوراق بيضاء معدّة للانتخاب، لأوّل مرّة في تاريخ المجلس النيابيّ في لبنان، أنّهم يرفضون الطائفيّة والأعراف الطائفيًة. تذكّروا جيّداً أنّ هذا لم يقم به أحد قبلهم، ولا أحد سواهم…
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها