الأحد 2022/06/26

آخر تحديث: 06:28 (بيروت)

النمساوي روبرت سيثالر: القضايا الكبيرة لا تصنع روايات كبيرة…بالضرورة.

الأحد 2022/06/26
النمساوي روبرت سيثالر: القضايا الكبيرة لا تصنع روايات كبيرة…بالضرورة.
تلفيق "رواية" باهتة ومهلهلة وخالية من الجمال الفني ليس السبيل الجيد لإدانة النازية
increase حجم الخط decrease
 ينتمي الروائي النمساوي، روبرت سيتالر إلى التقليد السردي لكتاب الشمال الأوروبي (البلدان الاسكندنافية وهولندا على وجه الخصوص)، في الكتابة الحيادية الباردة والغوص في مجاهل الطبيعة الصامتة، La natura morta، حيث الغابات والخلجان والجروف والبحيرات المغلقة والسفوح الخضراء ولكن شبه المهجورة. يعيش البطل، وغالباً ما يكون رجلاً، في متوسط العمر أو أواخره، لوحده، في كوخ منعزل. إن وجد هناك جيران، فعلى مسافات بعيدة.

ليس هناك اتصال أو تواصل، وتكاد الرواية كلها تمضي دون أن ينطق البطل بكلمة واحدة. 
يلاحق الكاتب بطله في حركاته اليومية، من لحظة نهوضه من النوم فجراً إلى حين استلقائه، في بواكير الليل، للنوم. يمضي القارىء، برفقة الرجل، في رحلة سردية مغلقة، في ذوبانه مع الطبيعة وعيشه اليومي مع الأعشاب والأشجار والحشرات والطيور والثمار والخضار والسواقي والجداول. تأمين الأكل من صيد السمك أو الطيور وقطع الحطب والطهي على النار في عراء الطبيعة.

رسم سيثالر هذا الفضاء في نصوصه وأتقنه، بشكل خاص، في "حياة كاملة". رواية قليلة الصفحات، تلاحق يوميات العيش لرجل ريفي يعيش في عزلة، في الجانب النمساوي من جبال الألب. 

هوذا، أندرياس ايغر، وسط الثلج والبرد. يكدح بضراوة في وجه ظروف قاسية وعزلة مطبقة. يفعل ذلك في صمت، لا صوت إلى صدى صرخات فأسه ولهاثه. ولا شيء في الرواية سوى الصمت واللهاث. وسيل من الأحلام والذكريات. لا أفعال، لا حوادث، لا دراما... إذا أردنا أن نغض النظر عن الشخصية الميتة يوهانس كاليشكر، الذي عثر أندرياس على جثته، من أول سطر في أول صفحة في الرواية. سيحمله أندرياس إلى القرية ليتخلّص منه ويعود إلى عزلته وصمته، من دون انفعال. فالموت، كالعزلة، من أغراض العيش في تلك البقعة الغارقة في الصمت.

رواية "حياة كاملة" هي سرد لحياة كاملة في صفحات قليلة، من دون الكثير من الأفعال وخالية تماماً من أي تمزقات روحية أو انعطافات درامية.

بائع التبغ
الرواية الأخيرة لسيثالر، "بائع التبغ"، شيء آخر. نبرة أخرى. أراد المؤلف أخيراً أن يغادر العالم الريفي الرتيب ليقتحم المدينة وفضاءاتها الصاخبة.

فكرة جميلة، في وسعنا قول ذلك من دون تردد، لأن الأفق الكتابي لا يمكن أن يحشر في فضاء سردي واحد طوال الوقت. ومن الجميل أن يتهيأ للقارىء مساحة يشهد فيها اصطدام سكون الريف وصمته بضوضاء المدينة وحركتها.

ولكن لا. ليس هذا ما أراده المؤلف. الحال أنه لم يهجس بمعاينة البعد المديني للعيش وتجليه في هواجس وأفكار وأحلام بطله الفردي. أراد ما هو أبعد من ذلك. بل لعله أراد، في قفزة واحدة، أن يخرج من جلده الروائي ويرتدي قناعاً فضفاضاً ويقفز إلى الخشبة ليقوم بدور لا يناسبه. 

هذه الرواية تلاحق دفعة واحدة، ومن دون مقدمات، قضية كبيرة: وضع اليهود في النمسا عشية وصول النازية.

فرانز هوشل، الفتى الصغير، لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، ولم يتلق سوى القليل من التعليم المدرسي، ترسله أمه إلى فيينا للعمل أجيراً عند بائع التبغ.  
 السعي في تتبع مسيرة صعود هتلر، ووضع اليهود هو موضوع كلاسيكي تطرق إليه المئات من الكتاب. لم يفلح كلهم في اجتراح صنيع إبداعي. في الدروب الموحلة للقضايا الكبيرة والمآسي المحزنة، هناك دوماً خطر الانزلاق في لجة الدعاية المباشرة والشعارات الطنانة والأفكار النمطية. هذا ما يحدث للروائي هنا.

فيينا، التي "هواؤها من الجنة"، تُختصر بالشارع الذي يقع فيه محل بيع التبغ. وأهل عاصمة الفن والموسيقى يختزلون في ثلاثة أشخاص، يكاد لا يربط بينهم أي رباط، من حولهم سوف يطل بين الحين والآخر جنود قساة ونازيون متعصبون يرددون شعارات مناهضة لليهود.
كل شيء مرتب بشكل مسبق لإعداد المشهد لصعود النازية في النمسا. ولكن بالنسبة إلى قارىء في بداية سنة 2022، يبدو الأمر ملفقاً ومصطنعاً وصارخاً في سطحيته. لا شيء مثيرا أو ملفتاً أو صارخا أو مدهشا أو مؤلما: قرأنا أشياء كهذه عشرات، بل مئات، المرات. الفكرة والشخصيات والحوار واللغة والحبكة والمغزى. لا جديد.

كليشيهات تخلو من أي عمق أو فرادة أو دهشة أو حكمة أو ذكاء. صياغات فقيرة تخلو من أي قيمة جمالية. ولأن الفكرة مكررة، بشكل عقيم، ينبغي أن نكرر ما قاله ماركس عن تكرر المأساة وتحولها إلى مهزلة. وفي سياق تمريغ الأشياء في وحل المهزلة يلجأ الروائي إلى اختيار واحدة من أشهر شخصيات القرن العشرين، كدليل على تعرض اليهود للاضطهاد: سيغموند فرويد.

القارىء يجد نفسه أمام مؤسس علم النفس. والأرجح أن هذا الأمر سيكون مبعث فرح. يحسب أن "البروفسور"، كما يسميه المؤلف، سوف يُغني النص بآراء وأفكار عميقة وسيخلق معادلاً  ذهنياً، منيراً، للجو القاتم في المدينة. غير أن القارىء سوف يصاب بالإحباط سريعاً. فرويد هنا شخصية باهتة، نافرة، لا يقول شيئاُ ذكياً ولا يتصرف كإنسان من لحم ودم. إنه، هنا، دمية كاريكاتورية.

أي دور يلعبه فرويد في الرواية؟ لا شيء. أكرر: لا شيء على الإطلاق. يأتي إلى محل التبغ، كل يوم تقريباً، ليشتري السيجار. هذا هو عمله. ولأنه زبون دائم يتعرف إليه الصانع، أي الفتى هانز، ثم سرعان ما يصير الإثنان، فرويد وهانز، صديقين حميمين. يجلس مؤسس على النفس مع هذا المراهق ويتناقش معه في شؤون النفس البشرية والليبيدو والوعي الباطن والأشياء المدرسية الأخرى التي نحفظها عن ظهر قلب.

يسرق الصانع السجائر من المحل (لا يقول الروائي أن الولد يفعل ذلك ولكننا، نحن القراء، نلاحظ ذلك فهو لا يدفع ثمنها بل يأتي بها خفية) ويأتي إلى بيت فرويد فيخرج هذا إليه ويستقبله ويجلس الإثنان ساعات طويلة، في البرد، وهما يتناقشان.

كيف يعقل حدوث أمر كهذا، في رواية تتحدث عن تاريخ فعلي ووقائع تاريخية وقعت بالفعل ويعرفها جميعنا؟ هذه ليست رواية فانتازية كي تتحمل هذا المنحى الغريب، اللامنطقي، والصارخ في هزليته. كيف وبأي منطق يترك عالم النفس بيته وعمله ويصرف ساعات طويلة ليجلس مع فتى  شبه أمي؟ أيفعل ذلك طمعاً في السجائر؟ أهو فقير (وخسيس) إلى هذه الدرجة؟ لقاءات غير مقنعة، بل هي مضحكة، بين مؤسس علم النفس وفتى قروي بسيط.
يلقي عالم النفس الشهير محاضرات سيكولوجية وسياسية طنانة على رأس المسكين فرانز.
كل الأفكار والمحاضرات موجهة لنا بالطبع، نحن القراء، ولكن ما فائدة القالب الروائي في هذه الحالة؟ وما الغاية من طرح هذه الأفكار طالما أنها قائمة أصلاً في كتب متاحة لمن هب ودب؟
كما هو معروف فإن الرواية ليست مجرد أفكار. هي صنيع مركب تمنح القارىء المتعة وتمس ذوقه الفني وتتفاعل مع مشاعره وأحاسيسه، فإن غاب عنها ذلك لن تكون أكثر من دروس جافة في السياسة أو علم النفس أو أي شيء آخر. لا نكون، والحال هذا، أمام رواية بل نص آخر، أياً كان اسمه. 

قرر الكاتب أن يسطّر نصاً عن النازية وقمع اليهود. هذه فكرة نبيلة. غير أن تلفيق "رواية" باهتة ومهلهلة وخالية من الجمال الفني ليس السبيل الجيد لإدانة النازية والتعاطف مع ضحاياها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها