الجمعة 2022/12/23

آخر تحديث: 10:42 (بيروت)

بين الإيطالي غايتانو والإيرلندي شون...يأتون إلى بلادنا كي يموتوا

الجمعة 2022/12/23
بين الإيطالي غايتانو والإيرلندي شون...يأتون إلى بلادنا كي يموتوا
بدو حادثة مقتل الشاب الإيرلندي وانتظار خطيبته له، تلخيصاً حللقصة التي سردها الإيطالي روبرتو سافيانو في نصه «عكس الموت»
increase حجم الخط decrease
 
قتل الجندي الايرلندي، شون روني حين أُطلق النارعلى آلية كان على متنها في دورية تابعة للأمم المتحدة في منطقة العاقبية، بجنوب لبنان.

قالت خطيبته، هولي ماكونيلوغ إنها كانت في انتظاره وأنهما كانا يخططان للزواج في العام القادم، أي بعد شهر أو شهرين. قالت إنها رأته آخر مرة قبل ثلاث سنوات، وكان قد مضى على التحاقه بالجيش سنة واحدة.

تبدو حادثة مقتل الشاب الإيرلندي وانتظار خطيبته له، تلخيصاً حرفياً للقصة التي سردها الإيطالي روبرتو سافيانو في نصه «عكس الموت»، إذ يروي مأساة الفتاة الإيطالية ماريا التي كانت تنتظر خطيبها من أفغانستان. كانت تتهيأ للعرس. اشترت ثوب الزفاف، وأخذت ترسل الدعوات للأهل والأصدقاء. كانت تنتظر قدومه بلهفة. سيتزوجان ويشتريان بيتاً، ذلك البيت الذي رفض البنك منحهما قرضاً من أجله، فقرر خطيبها الالتحاق بالجيش لتأمين المال اللازم.
ولكن الخطيب لم يأت أبداً. جاءت جثته في كفن. 

كان خطيبها، ويدعى غايتانو، من جنوب إيطاليا. أكثر الملتحقين بالوحدات العسكرية لأداء المهمات في الخارج، هم متطوعون من جنوب إيطاليا الفقير. لماذا؟ لأنهم يحصلون على مبالغ عالية جداً. حتى بعض المشلولين يحاولون الإلتحاق بالجيش. في السابق كان الألوف من الشباب، حين كانت الخدمة العسكرية إجبارية، يقدمون إثباتات على عدم قابليتهم للإنتساب إلى الجيش بداعي إصابتهم بأمراض مزعومة أو أنهم كانوا يلجأون إلى دفع رشاوي، ما يعادل وزنهم ذهباً مقابل كأس من البول ممزوج بالدم من شأنه أن يعفيهم من الخدمة. الآن لم تعد مثل هذه الأشياء تحدث طالما أن الجيش صار مصدراً للغنى.

رفض الخدمة العسكرية لأسباب إيديولوجية والبقاء عاماً كاملاً من دون راتب كان خياراً يتبعه الشبان اليساريون، الطلاب منهم على وجه الخصوص. الآخرون كانوا يعتبرون الأمر مجرد فرصة مهدورة وسنة ضائعة من دون عمل. كان أداء الخدمة العسكرية طريقة لمعرفة ما إذا كانت الثكنة أو البذلة العسكرية أفضل من بذلة العمل والمعمل، وما إذا كانت قيادة الشاحنات العسكرية في طرقات أوروبا أفضل من الجلوس في البار.

كانت ماريا خطيبة الجندي الايطالي تبدو كطفلة، بقدميها اللتين أدخلتهما في حذاء لا بد أنها اشترته من محل لبيع أحذية الأطفال. هي تستعمل مقاساً صغيراً لأنها لا تستطيع العثورعلى ما يناسبها في محلات الكبار. الموديل نفسه يصلح لدمية مع أربعة ثقوب للرباط على طول مشط القدم.

هل هذا هو الحال مع خطيبة الجندي الإيرلندي. الأرجح أنه كذلك.
غرفة ماريا، والأرجح أيضاً غرفة خطيبة الجندي الإيرلندي، مازالت كما كانت عليه منذ كانت صغيرة. صور فنانين وفنانات على الجدران. دمى كبيرة، بما في ذلك رف زجاجي يضم ذلك النوع الغالي من دمى باربي التي كانت أمنية غالية لكل طفلة وكان الأهالي يمنعون بناتهن من اللعب بها فكان عليهن الإحتفاظ بها في الخزائن الزجاجية للعرض فقط. غرفة فتاة صغيرة كانت فكرت أنها ستتركها كي تغادر إلى بيت أكبر، بيت الزوجية. فوق الكومبيوتر ثمة لوحة مؤطرة من تلك التي يشتريها المرء في شارع سان جورجيو آرمينو: صورة خليج نابولي مضاء بمصابيح صغيرة تظهر كوهج نار بركانية. في هذه المنطقة الريفية تبدو نابولي بعيدة للغاية. يلوح كما لو أنها اشترت البطاقة وفي ذهنها رحلة غايتانو إلى أفغانستان. 

كان لهما عنوان بريد إلكتروني مشترك. لم يكن غيرهما يعرف كلمة السر. كان غايتانو يغار عليها. يخشى أن تشرع في الكتابة إلى أحدهم ممن تعرفت إليهم من خلال "التشات". ولكنها في الواقع كانت تدخل موقع التشات فقط لكي تتحدث إليه. هو ولا غير سواه.

كل البنات بدأن التشات والواتس أب حين التحق أحبّتهن في الجبهات في الخارج، في الصومال أو البوسنة أو أفغانستان أو.. لبنان، هناك حيث التحق الشاب الإيرلندي.

تنتشر صور غايتانو في كل ركن من غرفة ماريا. غايتانو على الشاطئ، غايتانو يرفع الأثقال في صالة تدريب. غايتانو يقبلها. وثمة صورة طريفة تدفعها إلى الضحك: غايتانو يرفعها إلى الأعلى حاملاً إياها بشكل أفقي تماماً مثلما يفعل رافعو الأثقال في الألعاب الأولمبية. الحال أن غايتانو لا يتمتع بجسم ذي عضلات. تركيبه الجسماني كان يؤهله لأن يكون ملاكماً من وزن الريشة مثلاً. هذا ما يبدو عليه الشاب الإيرلندي أيضاً.

صديقات ماريا، اللواتي يذهبن إلى الجامعة، أخبرنها أنهن بدلاً من إهداء سلال الحلوى التقليدية لضيوف العرس يفضلن توزيع أرقام الطوارئ لدى المنظمات الإنسانية. 

في القرية، قرية غايتانو، كانوا بدأوا يحضرون اللافتات للترحيب بقدومه. الجميع كانوا يستفسرون عن أشياء جديدة. يريدون أخباراً جديدة عن غايتانو. حتى مدير البنك، ذاك الذي كان رفض إعطاءهما قرضاً لشراء بيت لإفتقارهما إلى ضمانات، حتى هو، ذاك الذي كان أحد الأسباب التي دفعت غايتانو إلى حمل حقيبته والذهاب إلى الحرب، جاء إلى أمه وقال لها: بالنسبة لقرض البيت سأتدبر الأمر بمجرد وصول الفرقة. بمجرد وصول المصابين. تعالي إليّ وسأسوي الموضوع فوراً. 

أرادت ماريا أن تبصق في وجهه.
تجلس ماريا أمام هدايا الضيوف ودعوات العرس. تجلس أمام شظايا حياة كاملة تبعثرت. حياة كانت حلمت بها ولكنها لم تتحقق قط.

من السنوات التي قضياها معاً ليس لديها سوى القليل. هي تعرف أنه يحب البرتقال الطازج، وحين كان يذهب إلى ليترنو لكي يقطف الدراق، يعود متخماً لأنه كان يتناول كيلوغرامات كثيرة منها. تعرف أنه كان معجباً جداً بالملاكم بيترو أورينو من توري أنونزيانا، يستقل الشاحنات التي يعرف والده سائقيها لكي يذهب لحضور مبارياته. تعرف أنه كان يحب الإستلقاء معها وأنه كان يريد الإنتقال من الريف ولكنه كان ينتظر إلى ان يصير معه ما يكفي من المال لشراء بيت وتلك كانت النقطة التي أوصلته إلى الموت. تعرف أنه كان يخجل من تقبيلها أمام العائلة. 

كانت سعيدة لأنه كان غيوراً عليها ويؤنبها على أشياء تافهة، يقول أنه يفعل ذلك لأنها تلبس بطريقة خاطئة، تجعل الكثير من الفتيان ينظرون إليها. من الصور التي أرسلها من كابول تعرف أنه كان يحب أسواقها وهو كان أخبرها أن الناس هناك مسالمون، هم أبعد ما يكونون عن النزعة العدوانية. كتب إليها يقول إنه يريد أن يأخذها مرة إلى أفغانستان وأن الناس في كابول سأموا من الحرب وأنهم يتوقون إلى السلم والهدوء. كتب يقول إنه لم يكن يتوقع أن يأتي إلى بلاد ساحرة كهذه إلى حد أنّ المرء يرغب في المجيء إليها والإستقرار فيها وعلى المرء ألا يحمل مواقف مسبقة. تعرف أنه كان يلتقط صور الجبال الساحرة في تورا بورا وهو أخبرها أنه حين يستاء من شيء يتمكّن من العثور على السكينة عبر التأمل، وهو أمر كان يعجزعن القيام به هنا(أي ايطاليا). ولكن هناك أشياء كثيرة كانت تجهلها عنه. كانت بحاجة إلى معرفة المزيد.

كان غايتانو في الرابعة والعشرين، تماماً مثل الفتى الإيرلندي.
لم يكن الإيطالي غايتانو، ولا الإيرلندي شون، يخوضان مؤامرة على أفغانستان أو لبنان. الأرجح أنهما لم يعرفا الكثير عن طالبان أو حزب الله. كانا بحاجة إلى المال اللازم كي يتزوجا ويعيشا حياة مستقرة وسعيدة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها