الأربعاء 2022/06/01

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

فادي العبدالله لـ"المدن": قصائدي كتابة ناجين لا يحتملون نجاتهم

الأربعاء 2022/06/01
فادي العبدالله لـ"المدن": قصائدي كتابة ناجين لا يحتملون نجاتهم
البياض، نقيض للتراب، وهو جزءٌ منه.
increase حجم الخط decrease
لا يحتاج الشاعر والناقد الموسيقي، فادي العبدالله، إلى تقديم. نعرفه من نقده الجاد في الموسيقى والغناء، وشغفه في اللغة واشتقاقاتها، ورقّته في القصيدة المشحونة بالصورة والدلالات الفكرية والعاطفية واللغوية والمجازات... يحفر المعنى في المفردات ويستنبطه من خلال نبرة هادئة هانئة، وفي بياضه الشعري شيء من مِلح الحياة. هنا حوار حول ديوانه "البياض الباقي" الصادر عن منشورات الجديد 2021.

تختار في غلاف مجموعتك عبارة "الشعر أفضل ما فينا، الباقي تراب"، هل تحاكي في هذا العبارة جملة الشاعرة الروسية آنا اخماتوفا "سوف تحيا من بعدي" التي استوحاها بسام حجار عنواناً لأحد كتبه؟ وهل البياض هو رديف الشعر في عنوان كتابك؟ بمعنى آخر، ما الذي تقصده بالبياض، وقد استعملت العبارة في أكثر من معنى وفي أكثر من سياق؟

* عبارة الغلاف اختيار الناشرة، رشا الأمير، لكن بحسب فهمي فإن جملة أخماتوفا لم تكن عن بقاء الشعر، بل عن بقاء الأشياء المادية، الخشب مثلاً، التي تستمر بعد صنّاعها ومالكيها. لكن الشعر، بالمعنى الذي يتجاوز النوع الأدبي ويخترق كل نتاجات البشر، هو ربما أفضل ما ينتجه البشر، هو ما يتجاوز وظيفية الشيء الملموس أو المرويّ ليضفي عليه منطقاً غير وظيفيّ وغير خاضع لاحتياجات الجسم الذي هو من تراب وإليه.
البياض، في هذا السياق، نقيض للتراب، وهو جزءٌ منه. هو الملح الذي يستحق أن يغطي الأراضي التي أغرقها الدم، والذي أنحاز إليه في مطلع الكتاب وأعاود مندهشاً اكتشافه داخل الجسد في آخر الكتاب. والبياض هو المساحة التي لولاها لا مجال لمداد الحبر على الصفحة ولا لقراءةٍ ممكنة. والعنوان مأخوذ من قصيدة تتحدث عن "البياض الباقي" في الحدق بعد الوفاة. من الصعب ربما تفكيك صورة مغزولة من خطوط متعددة تضم المجاز والحقيقة والجسد واللغة والطبيعة، بهذا هي أيضاً صورة تتجاوز الوظيفيّ في اللغة.

ما اللحظات أو الأوقات التي تستوحي فيها القصيدة أو تستلهمها من الموسيقى أو الرقص أو العزف، وتصبح الموسيقى عبارات مكتوبة؟ هل القصيدة تفسّر اللحن، أو الموسيقى، وهل يمكن تفسير الموسيقى ككل؟

* لست من أنصار تفسير الموسيقى باللغة، ولا أحسب أن اللحن "يعبّر" عن أفكار أو عن مقاصد. لذا لا أعتبر أن على القصيدة أن تفسّره، مثلما ليس عليها أن تشرح لوحة أو أن تصف رقصة.
غير ان الفنون حاضرة في الكتاب، ليس كمهمازٍ للكتابة، بل كاعترافٍ بالفضل لها على ما تهبنا إياه، ما تخلقه فينا من إيحاءات وأحلامٍ وقدرة على تخطي الواقع والمشاعر نحو مساحات من الحرية يمكن لنا أن نقبض فيها على ما لا يمكن الإمساك به، كالزمن مثلاً، أو ما لا يقال كالعالم خارجاً عن وعينا به.

هل فقدت "يقين الشعر" فعلاً، وأي "أيمان" يمكن أن يلازم الشعر؟

* أحسب أنني فقدته فعلاً، "يقين الشعر"، أي بداهته، والإيمان بملازمته للحياة وحضوره المستمر وبأثره فيها. يمكن العيش ربما من دون الشعر، مثلما هو ممكن من دون الموسيقى أو من دون الفلسفة، لكن في عالمٍ أفقر بكثير وأغبى. ربما فقدتُ الإيمان، لكن الكتابة تظل عند ذاك مسألة رجاءٍ بأن تبرز بين الأنقاض كسرةٌ من حساسية أو من الخيال تبرر جهد الكتابة ذلك وتشاركها مع الآخرين.

في جانب من قصائدك، كأنك تكتب مشهديات الحروب التي أصابت بعض بلدان المشرق العربي (سوريا تحديداً)، فيحضر خراب المدن، والأشياء الصغيرة التي نراها بعد كل قسوة، ويحضر الغرق، لكنك في الوقت نفسه تقول ما يشبه الصرخة "لن أكتب ملحمتكم/ من أنا لأحمل عظامكم كلها، وأطحنها مداداً/ ولن يكتبها أحد"... هنا، هل تؤيد عبارة ثيودور أدورنو "بعد أوشفيتز، كتابة الشعر عمل بربري"...

* كان تسيلان قد رد على عبارة أدورنو هذه، وكتابته كلها تدحضها. لكن كتابته أيضاً تغيّر الشعر نفسه في معرض هذا الدحض. لا أحد يدخل نفسه في معرض المقارنة بتسيلان، ولا مقارنة أوشفيتز بالحروب السورية مثلاً ومجازرها ومعتقلاتها. بل ربما كانت القصيدة التي تشير إليها هي بالضبط اعلان امتناع القيام بجهد تسيلان من جديد. لكنها محاولة لالتقاط ما يمكن أن يستمر وأن يحدث عندما لا يكون هنالك من تسيلان مشرقي، وعندما يكون العيّ والعجز عن القول تتناثر أصوات الاتهام وأدلته في كل لحظةٍ من العيش ويمتلئ بها حتى الصمت. في هذا الجانب من القصائد، في الفصل الأول من الديوان، مسار مزدوج، حيث يحضر الخراب ومشهديات الحروب بالتوازي وأحياناً بالضبط في لحظات السفر في العالم، إن للسياحة أو للعمل. تحت لحظة الوجود في سلم العالم وأمانه النسبيّ، يحضر الحلم بأرضٍ مجدورة، بأشلاء أطفال، بامتناع الطمأنينة. هي إذن على ما أحسب كتابة ناجين لا يحتملون نجاتهم وفي الوقت عينه لا تشدّهم الضحويّة ولا نداء الموت الجماعي.

تقول "السفر حيلتي لإغواء النفس بالعيش"... هل هو أيضاً حيلة للكتابة؟

* ليست الكتابة بالنسبة لي هدفاً ولا أعيش لكي أكتب. أظن أن فقدان الإيمان بالشعر هو أيضاً فقدان نظرة رومنطيقية تعلي من شأن الكتابة فوق العيش ولا تتردّد في التضحية بالحياة في سبيل مجازٍ أعلى. لكنني أحسب أن الكتابة هي توسيع للعيش ولاحتمالات اختباره، وأن الحياة أيضاً شعاع مسلّط على مقلع اللغة ينتزع منها جملاً أو مفرداتٍ ليشحنها من جديد بطاقة البدايات، كي يكون في مستطاعها أن توسع علينا هذا العيش. إن كانت هذه، على ما افترض، كتابة ناجين لا يحتملون نجاتهم، فإن السفر والكتابة والفنون والأصدقاء تعمل جميعها على ابتكار غوايةٍ للعيش، تتخطّى الغريزة البيولوجية للبقاء في الحياة وقَيْدها. هي بالتالي مسارات مختلفة ولا يمنع أن تتقاطع في تلك اللحظات التي تمنح الحياة شعرها، حين يتماسّ منطقان أو تتصادم حاسّتان (وأرى أحياناً أن المنطق والحواس ليسا متغايرين، وكلاهما متعدّد) أو نرى اندماج المتخيّل بالمرئي.

إلى أي مدى تحاكي نصوصاً مثل القرآن وغيره في شِعرك؟ وإلى أي مدى يحضر طيف باول تسيلان وإدمون جابيس وبسام حجار وعباس بيضون في بعض قصائدك؟

*أظن أن السؤال يحمل طيّه مسائل ثلاث مختلفة:
فالعلاقة بتسيلان خاصة، وعلى المرء أن يحاول اغتياله رمزياً، كما فعلت في كتاب أسبق (يؤلفنا الافتتان) كي يستعيد قدرته على التعامل مع اللغة، بعدما دمغها تسيلان بتفجيراته العنيفة والآسرة لها.
وأما القرآن وغيره من النصوص المؤسسة لأفقنا اللغوي، فالعلاقة بها كعلاقة المثّال بجبال الرخام، نحاول انتزاع مساحة صغيرة وصياغتها بحسب خيال فرديّ ومن خلال هذه العلاقة ننتمي إلى بلاغةٍ نعيد اختراعها، وننتمي إلى تاريخٍ للغة ولاستعمالها نندرج فيه بينما نحاول فيه تغييراً.
وأما الآخرون، بسام وعباس وجابيس وغيرهم، فهم الواهبون لنا، شعراء وأصدقاء، هباتٍ نحاول من خلالها التعويض قليلاً عن الفقد الجماعي والفردي، عن الحروب وعن الموت، وعن الخسارات كبيرها وصغيرها، التي تشكّل كل يومٍ من أيامنا.
على هذا ينتظم الديوان إلى حدٍ ما من خلال البحث عن توازنٍ ومقابلةٍ بين الفقد والخسارة، على كل المستويات، وبين الهبات التي تمنحنا إياها الصداقات واللوحات والموسيقى والقصائد والرحلات، وكذلك بين وعينا بالفقد والخسارة الدائمين في الروح وبين لحظة تجاوز كل ذلك، مثلما يتجاوز باخ آلام المسيح نحو استمرار قدسيته غير المنقطع في الوجود، نحو توكيد العيش المتولّد عن الحب وعن لحظات الشعر.

من بعد مجموعات شعرية عديدة، هل بات لديك قاموسك الشِّعري؟ هل الشِعر بالنسبة إليك تمرين على الكتابة حول مفردات مثل: الذاكرة والقسوة والألم والطرب والنافذة والغائب والموسيقى والمدينة والبياض وغيرها؟

* ما الفائدة من التمرين، إن لم يكن تمريناً على الغياب؟ لا شك أنني، رغم السنين، أظل أحمل اهتماماً بعدد من الثيمات وحساسية تجاه بعض اللحظات كلحظات الطرب وآثار الفقدان والبحث في المدن عن طبقات معانيها. لكنني لا أتمرن بشكل قصدي على ذلك، ولم أسعَ إلى حصر معجمي، واعياً (بحسب أحد العناوين) بما لا يسع الشعر قوله، وبما يسعه.
ما أراه أكثر أهمية عندما أنظر إلى كتبي المختلفة، وأولها صدر منذ أكثر من عشرين عاماً وكتب قبلها، هو مسألة النحو. فالقاموس آخر الأمر واسع ويمكن لنا أن نعجب بمفردات جديدة أو أن نبحث عنها لتتوافق مع تغير التجارب. لكن مسألة النحو، وبناء الجملة وتراكيبها وايقاعها، كاشفةٌ أكثر بالنسبة لي عما يجري لي من تغييرات وما زالت تفتح مساحات واسعة لاستكشاف الاحتمالات الكامنة في لغة كثيرة القواعد إلى حد انها تكاد تقبل أي صورةٍ لما يتيحه اختلاف القواعد من حرية.

أي حبّ تكتب؟

* كيف يمكن أن نطلق صفة الجمال على وجه وحصان وموسيقى وأمسية وأخلاق؟ على النسق عينه، يطرح مفهوم الحب الإشكال عينه عن أنواع الحب المختلفة التي يمكن جمعها في هذه المفردة. لكن ربما يكون القاسم المشترك في ما أبحث عنه وأكتبه هو في الوقت عينه تعيين موضوع الحب (شخص محدّد، او لوحة بعينها) وانفتاح مساحة ما يخلقه الحب من طاقة وزاوية في النظر إلى الحياة بما يتجاوز فردانية موضوعه وفردانيتي. هذا ما يبرر أيضاً أن نكتب وننشر للعام ما ينطلق من خاصٍ حميمي يحرسه الخَفَرُ.



فادي العبد الله 
شاعر ومحامٍ ومحاور وكاتب وناقد موسيقي مواليد طرابلس العام 1976، عمل على طيفٍ واسع من العروض والكتب المنشورة، وأصدر عدداً من الكتب الشعرية وهي "غريب وبيده كاميرا" 2000، "يؤلّفنا الافتتان" 2005، و"أشاطركِ الألم برهة والودّ طويلاً" 2015.

بوصفه فناناً وكاتباً وناقداً، شارك العبد الله في معارض وعروض عديدة، من بينها "الثورة مقابل الثورة"، التي استضافها مركز بيروت للفن (2012) و"تواقيع"، أشغال داخلية 5، من تنظيم جمعية أشكال ألوان، بيروت (2010). كما تعاون مع بلال خبيز ووليد صادق في "مجموعة الثلاثاء" لتقديم عمل في بينالي الشارقة 8 (2007) و"الملف: وقت عام"، أشغال داخلية 3، من تنظيم جمعية أشكال ألوان، بيروت (2005). أشرف على كتاب "سماع الشرق" (بالفرنسية، 2020) في مناسبة المعرض الذي قدمه متحف MECUM (متحف حضارات اوروبا والمتوسط، في مارسيليا) بالتعاون مع مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية (أمار) وشارك في ندواته.

تتنوع أعمال العبد الله المنشورة من المقالات التي تدور حول القانون والموسيقى والأفلام إلى تلك التي تتمحور حول النقد الأدبي. وقد طوّر اهتماماً خاصاً بالموسيقى العربية التقليدية وصلتها مع الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، كما أنه محرر فخري في مجلة "معازف" الالكترونية. وقبل تبوئه لمنصبه الحالي في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (2008- حتى الآن)، درّس العبد الله القانون في اثنين من معاهد قانون الأعمال الدولي، القاهرة، ومركز ميلون، جامعة باريس الثانية بانتيون أساس (2002- 2004).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها