الأحد 2022/05/08

آخر تحديث: 08:27 (بيروت)

تسي تسي دانغاريمبا:سيرة زيمبابوي من الاستعمار الى الفساد

الأحد 2022/05/08
تسي تسي دانغاريمبا:سيرة زيمبابوي من الاستعمار الى الفساد
ما يمكن أن يؤخذ على الثلاثية هو تسرّب دفقات من الإيديولوجيا إلى ثنايا النص.
increase حجم الخط decrease
حين رُشحت رواية الكاتبة الزيمبابوية تسي تسي دانغاريمبغا إلى القائمة الطويلة، ومن ثمّ القصيرة، لجائزة "البوكر" للرواية العالمية، ورد الخبر مقتضباً في الصحف والمواقع الإخبارية العربية. بدا واضحاً ان أحداً لا يعرف عنها شيئاً، واعتبرت الرواية عملها الإبداعي الأول. 

لو بحثنا في دهاليز غوغل، باللغة العربية، عن هذه الكاتبة بالكاد سنعثر على شيء. هذه هفوة للوسط الصحافي والأدبي العربي في العموم، وفضيحة، بشكل خاص، لدور النشر العربية المهتمة بالترجمة.

تسي تسي واحدة من أبرز الكاتبات في إفريقيا والعالم. وروايتها التي رشحت للبوكر ليست الأولى، بل هي في الواقع الجزء الثالث من ثلاثية بدأتها عام 1988 بروايتها الأولى «nervous conditions» (ظروف عصيبة). وليس عن غير وجه حق أن النقاد اعتبروها، ويعتبرونها، أي الرواية، واحدة من أهم أعمال الأدب الأفريقي في القرن العشرين.

كان الروائي النيجيري تشينوا آشيبي أشاد بها بقوّة فيما اعتبرتها دوريس ليسينغ تحفة أدبية وقالت: "هذه هي الرواية التي كنا ننتظرها". صدر الجزء الثاني بعنوان «the book of not» (كتاب ليس) في 2006. والجزء الثالث والأخير، الذي رشح للبوكر قبل عامين بعنوان «this mournable body» (هذا الجسد الذي يرثى له). الروايات الثلاث، تلاحق قصة حياة تامبودزاي سيغاوكي، منذ طفولتها في بداية الخمسينات من القرن الماضي إلى بداية الألفية الثانية، أي عام 2000 في بلدها روديسيا الذي كان خاضعاً للاستعمار البريطاني وتحول اسمه إلى زيمبابوي بعد نيل الإستقلال. قصة تامبو، الاسم المختصر للطفلة، في بعدها الرمزي قصة البلد ذاته: من مرحلة الخضوع للاستعمار والكفاح ضده وصولاً إلى الإستقلال، ومن ثمّ الغرق في مستنقع الدكتاتورية والفساد. 

القهر
الحيز البارز في الأجزاء الثلاثة، هو القهر الذي تواجهه المرأة. تتفتح مدارك الفتاة على هذا القهر حين تلمس ببراءة طفولية، أن هناك تمييزاً صارخاً تتعرض له، في البيت وخارجه، ولا تفسير له سوى أنها فتاة. 
تامبو، ذات الأحلام والرغبات الحادّة والإرادة القوية، لا تقف مكتوفة الأيدي ولا تستسلم لقدرها بل تباشر على الفور كفاحها من أجل انتزاع ما تعتبره حقّها، أو حقوقها، في الحياة. 

هكذا تبدأ رحلة تامبودزاي سيغاوكي، وقد بلغت الثانية عشر من العمر، نحو الانعتاق: مواجهة والديها قبل كل شيء. لا تقبل ممارستهما التميّيز بينها وبين أخيها، الذي يتمتّع بكل شيء فيما تحرم هي من كل شيء. غير أنّ إحساسها بالظلم يغور نحو العمق حين ترى التمييز في معاملة النساء، كبيرات أم صغيرات، في كل مكان من حولها. هي تدرك، من دون أن تكون قادرة على الإفصاح عن ذلك، أن هناك تسلّطاً ذكورياً، بطريركياً، ظالماً. وأن هذا الأمر قائم بوجود الاستعمار أو من دونه. بل هي تشعر بإن الاستعمار ليس سبب كل البلاء.

تتوق تامبو، إذن، وقبل كل شيء، إلى التحرر من قيود بيتها وقريتها الريفية. وفي كل منعطف من سيرها في الحياة تواجه الإذلال لدرجة تصل في بعض الأحيان إلى حافة الانهيار. يأتيها الظلم من أقرب الناس إليها: والدها وشقيقها. يتمتع أخوها، نهامو، بكل الفضائل لأنه صبي، أي ذكر. ويخلق هذا الأمر في داخله أنانية ضخمة تهبط بثقلها على كاهل تامبو. وحين تسأل والدها لماذا لا يرسلها هي أيضاً إلى المدرسة يجيب: وهل ستطبخين الكتب لزوجك إذا تزوجت؟ 

من أجل البقاء
تصميم تامبو على نيل ما تصبو إليه، أي التعلّم والشخصية المستقلة (مرة أخرى من المستحسن رؤية صورة زيمبابوي في الفتاة)، يقودها إلى خوض معركتها الخاصة. صراعها الضاري الذي هو، بمعنى ما، صراع من أجل البقاء. تقرّر أن تعمل. أن تبيع الذرة كي تؤمن نفقات التعلّم في المدرسة. يقف الأخ، كما هو متوقع، في طريقها، ويسرق رؤوس الذرة ليوزعها على أصدقائه في المدرسة. لا عجب، إذن، أن نرى الرواية تبدأ بالجملة الصاعقة لتامبو: "لا أشعر بالحزن لموت أخي". هي جملة أكثر إيحاء وإدهاشاً من الجملة الشهيرة في مفتتح رواية "الغريب" لألبير كامو.

إرادتها في الصمود تحقق لها ما أرادت في أن تنال التعليم. تلتحق بالمدرسة التي أقامها الاستعمار، بفضل نقود تحصل عليها من امرأة بيضاء. تكبر تامبو ويستمر صراعها وتتعرض لمشاكل ومتاعب وخسائر. وعندما تتخرج وتبدأ العمل في وكالة إعلانات، تدرك أن القوى السياسية والتاريخية التي تهدد بتدمير نسيج مجتمعها تقع خارج أسوار المدرسة أيضاً.

تستمر قصة تامبو كامرأة تترّنح تحت ثقل الأعباء الهائلة التي تكدّست بفعل ميراث القبيلة والعادات والتقاليد، أيضاً ممارسات الساعين للتخلّص من الاستعمار. 

انتصار تامبو في الذهاب إلى مدرسة الإرسالية، على عكس ابنة عمها نياشا، هيأت لها أرضية صلبة تمكنها من البقاء. ولكن ها قد بدأت مسيرة جديدة. مسيرتها في خوض نشاط محموم من أجل حقوق المرأة والاختلافات الجنسية والتحيز الجندري، ومسيرة الناس للتخلّص من العبء الكريه للمناضل روبرت موغابي، الذي تحوّل إلى دكتاتور. 

إذا أردنا المضي في استخراج الدلالة الرمزية من مسيرة تامبو، أمكن القول إنها تعكس استفادة زيمباوي من الفضائل التي وفرتها السلطة الاستعمارية، متمثلة بالأقلية البيضاء، من تعليم وطبابة وخدمات ومواصلات، من أجل التحرر من تلك السلطة بالذات. 
قصة تامبو هي القصة الموازية لانتقال زيمبابوي من بلد خاضع للاستعمار إلى دولة جديدة، ولكن فاسدة.

الرحلة الصعبة والمنهكة ولكن، المدهشة، لتامبو تستمر في الجزء الأخير من الثلاثية، أي الرواية التي رشحت للبوكر، التي ترجمت في الإعلانات الخبرية العربية بـ"في هذا الجسد الحزين» (الترجمة الأكثر دقة، كما قالت هي: في هذا الجسد الذي يرثى له).

في الجزئين الأولين كان السرد بضمير المتكلم. كانت تامبو تتكلّم. في هذا الجزء الأخير يجري ذلك بضمير المخاطب. كأن الساردة تريد الخروج من ذاتها لتخاطب نفسها عن بعد. لتتأمّل مصيرها بعد كل التبدلات التي حصلت لها.

ما بعد الاستعمار
يطفو على السطح شعورها بالمرارة في زيمبابوي الجديدة، زيمبابوي ما بعد الاستعمار، حيث انتشر الفساد والقمع (اعتقلت الكاتبة تسي تسي في هراري، العاصمة، لمشاركتها في مظاهرة مندّدة بالفساد).

ما يمكن أن يؤخذ على الثلاثية هو تسرّب دفقات من الإيديولوجيا إلى ثنايا النص. مقاطع كثيرة، على لسان البطلة، تامبو، في مختلف مراحل عمرها، تختزن أفكاراً وأقاويل أقرب إلى البروباغندا، تتجاوز مستواها الفكري وتشكّل، في الواقع، نشازاً داخل الإطار العام وتلعثماً في نطق المتن. أفكار عن الاستعمار والرأسمالية، رغم أن وقائع الرواية نفسها تبين أن نمو وتطور ونجاح تامبو تحقق بفضل الاستعمار.

في الجزء الأخير تطل الرأسمالية بقوامها الإستهلاكي في شكل وظيفة تعرضها على تامبو امرأة تعمل في السياحة البيئية. بات كل شيء، في زيمبابوي المستقلّة، قابلاً للبيع والشراء، بما في ذلك الأجساد والنفوس. تُجبر نساء القرية على تنظيم "تجربة إفريقية أصيلة" لخدمة السياح الأوروبيين بالرقص بأجسادهن العارية.

الحال أن قصة المؤلفة تشبه إلى حد كبير قصة بطلة الثلاثية. وليس غريباً أنها، أي المؤلفة، في الواقع، نهلت من حياتها الخاصة وحياة أسرتها في مجتمعها الزيمبابوي، هي التي ولدت في 1959 ودرست الطب في جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة.

قوّة الثلاثية وتفوقها وتألق خطها السردي وقدرتها على أسر القارىء، لا تكمن في مجريات الوقائع والسياسة والتاريخ، بل في متانة القماشة التخييلية وتماسك الشخصيات التي تنبض بالحياة، مسنودة بلغة سهلة، ممتنعة، وحوارات متقنة ووصف تفصيلي يغوص عميقاً ويحيط بالتفاصيل، بما في ذلك، تلك التي تختبئ في الجانب المظلم من الصورة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها