الإثنين 2022/05/30

آخر تحديث: 13:49 (بيروت)

"تحوّلات" سركيس سيسليان.. العودة للبورتريه كاستعادة للفرد

الإثنين 2022/05/30
increase حجم الخط decrease
تقيم "غاليري آرنيلي"، بالتعاون مع "زيكو هاوس"، معرضاً للفنان اللبناني-الأرمني، سركيس سيسليان، بعنوان "تحولات". يضم ّالمعرض بورتريهات بأحجام مختلفة، هي آخر ما أنتجه الفنّان متعدد الممارسات الفنيّة بوسائط مختلفة. وكان سيسليان قد تخرّج في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة – "ألبا"، حائزاً شهادة الماجستير في الفنون البصريّة.


لطالما كان التأمل في البورتريه مسألة مثيرة للقلق. هذه التجربة تختلف عن سواها، إذا ما أردنا مقارنة مفاعيلها بمفاعيل أنواع الفنون البصرية الأخرى. البورتريه يطرح أسئلة حول النموذج، وطبيعة التمثيل، والحضور، والغياب والمعاناة. هذه المساحة القماش، الصغيرة غالباً، هي شيء مختلف عن الواقع نفسه، أما الحضور السيكولوجي المضمر، الذي يحيط بالشخصية، مع ما يمكن أن يكتنفه من غموض، فيمنع الصورة من الوقوع في التسطيح الواقعي. علماً أنّ واقعية البورترية، إذا ما تخلّت عن بعض معوقات المشابهة، قد تؤدي، بدورها، إلى آفاق تعبيرية غير تقليدية.

وجوه سركيس سيسليان مختلفة في إيحاءاتها، إضافة إلى كونها مختصرة في بعض الأحيان. وإذا كان بعضها ينتمي إلى حيز الأوتو-بورتريه، فيبدو أنها تتخذ طابعاً أكثر شمولية من كونها شخصية خالصة ذات إرتباط بالصانع. في هذا المجال، لا تعود الشخصية الممثَلة مجرّد إنعكاس لقسمات صاحبها، ومميزات وجهه البيولوجية، إذ يقتضي النهج الفني للصورة أن ننسى المؤلف الذي صنعها ونموذجه. تمثل الشخصية حياتها الخاصة، أو حياة سواها، في مساحة صغيرة وغير متحركة من لوحة قماشية، أو صورة فوتوغرافية أو كتاب، ومع ذلك تبدو هذه الحياة غالبًا أكثر واقعية بالنسبة إلينا، وأكثف من الحياة الواقعية نفسها. أليست الصورة المرسومة، هنا، موضوعًا متناقضًا؟ حين تعبر عن ارتفاع الغرور والكبرياء أو العودة إلى البساطة الثانوية. إنه حقًا الغرور عندما يُطلب من اللوحة فقط من أجل التباهي والوصول إلى الخلود المخادع لصورة مجمّدة عن النفس. كم عدد القلاع والمتاحف وقاعات المدن التي تعرض صورًا احتفالية ومحكمة تنضح بالحزن والاكتفاء والملل؟

إذا كانت شخصيات سيسليان تجنح صوب مشاعر لا يلتقي بعضها مع البعض الآخر، فتتمسّك بالأمل تارة، وتغرق في اليأس تارة أخرى، وتتراوح ما بين السعي نحو تطوير الذات، أو إهمالها حد التدمير الذاتي في الوقت نفسه، فهي، في هذه الحال، تتساءل عن جدوى الوجود ومكانته. الوجود المتحرّك، كما في صور الفنان المتعددة، المجتمعة أفقياً على مساحة واحدة، وهي في حالة ذوبان، هي برهان على ذلك. يمكن رسم الصورة مثل أية صورة ذاتية، كما يمكن نحتها أو نقشها أو تصويرها، أو حتى كتابتها. يمكن أن يتم ذلك لأسباب سياسية أو اجتماعية أو شخصية، ونتساءل، في الحالات كلّها، عن دور الصورة والتمثيل والأبعاد الماورائية. يمكن للفنان تقديم السمات الجسدية للنموذج، أو الشهادة على انتمائه الاجتماعي، أو محاولة نقل الصفات النفسية للفرد. فذلك كلّه متاح في الفن التصويري.

في المقابل، تمكّن بعض الصور، الأقل رسمية، من استعادة نضارة التعبير وروعة اللقاء. وجه الآخر يقدّم نفسه للمتلقي كنافذة على مشهد بسيط وجديد. لم تعد "ذات" الموضوع المرسوم تبدو متضرّرة في العزلة المأسوية لمرآتها الخاصة، بل تحوّلت من خلال نظرة الرسام والمشاهد. من المجهول يخرج وجه مجهول، ونشهد ولادته الثانية: ها هي شفاه وشبه ابتسامة أو عبوس، وعينان ونظرة وجبهة، وفكرة تنبض بالحياة أمامنا من دون سابق إنذار. لقد أصبحت هذه الأشياء جميعها موضوعًا خالصًا للتأمل، شجرة تؤتي ثمارها من دون أن تدرك ذلك حقاً.

صحيح أن أعمال سيسليان تقتصر على وجوه برّانية، إلا أنها تحمل ذواتٍ داخليّة متمرّدة من خلال إصطدامها بواقع مرفوض. لا يرسم سيسليان وجوهاً مثاليّة أو مكتملة، بل يحمّلها صخباً ومشاعر غامضة، حدّ إذابتها، وتلاشي ملامحها، لتصبح هذه الوجوه أسلوباً ذاتياً للتحديق في عالم هش ومتحلّل يحيط بنا، كما لو أنها مَراياه. من خلال تنوّع ألوانها، علماً أن الطابع المزنوكرومي يبدو طاغياً في أعمال عديدة، كما عبر ملامحها، وملمسها وأشكالها، تبدو هذه البورتريهات كأنها في طور التحوّل المتواصل، كما يشير عنوان المعرض.

ويلاحَظ أنّه بينما يستكشف الفن المعاصر المزيد من محاولات تحطيم الأيقونات، هناك عودة ملحوظة إلى موضوع كلاسيكي في تاريخ الفن: الصورة الشخصية. يوضح فابريس هيرغوت، كبير أمناء المتحف الوطني الفرنسي، أنّ "اختيار موضوع الوجه البشري هو إنعكاس للاهتمام بالفرد، من طريق رد الفعل، بينما يشبه المجتمع، بشكل متزايد، عالمًا موحدًا قريبًا من ذلك الذي وصفه أورويل في روايته 1984".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها