الثلاثاء 2022/05/17

آخر تحديث: 12:57 (بيروت)

محمد عبلة.. التشكيل كمشروع حياة ومعنى للتحرر

الثلاثاء 2022/05/17
محمد عبلة.. التشكيل كمشروع حياة ومعنى للتحرر
قصر حبي
increase حجم الخط decrease
يُمثّل حصول التشكيلي المصري محمد عبلة (69 عامًا) على وسام غوته الألماني في مايو/أيار 2022، قيمة حقيقية ذات أوجه متعددة، ودلالات مركّبة. يتأتى ذلك من ثقل الجائزة، وأهمية التكريم وطبيعته وحيثياته، وما يحمله هذا الاختيار من تثمين لتجربة عبلة الإبداعية المجرّدة، وما ينطوي عليه من تأكيد لجهوده الفردية العملية في خدمة الفن على أرض الواقع، وتعزيز التواصل الثقافي الداخلي والخارجي، كمثقف عضوي يتجاوز دوره الشخصي جهود مؤسسات بأكملها. وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن التكريم يُبرز تقديرًا خاصًّا لحالة محمد عبلة الاستثنائية، التي تعكس كيف يكون الفن مشروعًا متكاملًا للحياة وممارساتها الاعتيادية، ومفهومًا واسعًا للتحرر والتمرد؛ فنيًّا وإنسانيًّا.
إن هذا الاستحقاق الفريد لأرفع وسام وميدالية شرفية رسمية من جانب جمهورية ألمانيا الاتحادية؛ للشخصيات المؤثرة في مجالها، وذات الإسهامات الخاصة في التبادل الثقافي الدولي، لم ينله أي فنان مصري أو عربي من قبل. وعلى مدار 67 عامًا، منذ ابتداع هذا التكريم، لم يحظ به من بين 371 مكرَّمًا من 70 دولة سوى قلة من العرب، منهم الشاعر السوري أدونيس، وأستاذ الفلسفة المترجم المصري عبد الغفار مكاوي، والشاعر السوري اللبناني فؤاد رفقة. وسيتسلم عبلة الجائزة في مدينة فايمار الألمانية في 28 أغسطس/ آب المقبل، في عيد ميلاد يوهان غوته (1749-1832)، إلى جانب ثلاثة فائزين آخرين، هم المؤرخة الجنوب أفريقية تالي ناتيس، والفنانتان الهنديتان نيمي رافيندران، وشيفا باتاك.

لم تخرج حيثيات تتويج محمد عبلة عن هذه الركائز المحورية، في إبداعاته ووسائطه المتنوعة بين التصوير والنحت والبوب آرت وغيرها، وفي نشاطاته الفنية والإدارية والاجتماعية المتعددة. ومما ذكره معهد غوته في مقره بميونيخ، أن الوسام يأتي تقديرًا لتلك الأعمال التي تدعو إلى حرية الفن، وبناء الجسور بين الحضارات، وثقافة التنوع والتبادل والتفاعل، إلى جانب دور المكرّمين في الاهتمام بالثقافة والمجتمع المدني، والعمل بطريقة فنية من أجل مجتمع مفتوح وديمقراطي ينعم أفراده بالمساواة.

تمضي رحلة محمد عبلة، الفنية والإنسانية، منذ بواكيره الأولى وحصوله على بكالوريوس الفنون الجميلة من قسم التصوير بجامعة الإسكندرية عام 1977، مرورًا باستكماله دراسته في سويسرا والنمسا، وصولًا إلى أحدث معارضه في التشكيل والنحت، تحت هذه المظلة بامتياز، فهو دائمًا "برّه الكادر"، وفق عنوان أحد معارضه، بمعنى أنه خارج الإطار والبرواز، إذ ينشط التجريب لديه عادة من خميرة مصرية الطابع والهوية المحلية، ويحمل الهامش من الحرية والإثارة والتمرد والمشاغبة ما لا يتسع له المتن المألوف والمتوقع والصارم. وهذه الرؤية هي التي تُكسبه عادةً النظر خارج الصندوق، والانحياز إلى المهمّشين والبسطاء، لإظهار تنوّع الثقافة المصرية وثرائها، وربطها بالوافد الغربي بمرونة عبر صلاته الوثيقة بفناني المشرق والمغرب. 

وليس غريبًا أن يتحدّث معهد غوته عن محمد عبلة كمؤسسة منتجة وراعية للفن، باعتباره صيغة للحياة، ومعادلًا للحرية والانفلات. إن منجزه التشكيلي يضعه وسيطًا بين مصر وأوروبا، استنادًا إلى أن الفنان الجاد الحقيقي عليه مسؤولية اجتماعية، وحياته لا يمكن فصلها عن عمله. والفن من هذا المنظور هو التزام بالتنوع والتسامح، وضمان لحرية التعبير، التي طالما انضم عبلة للحملات المنادية بها. كما أن هدفه الدائم بالتعبير الحر المرن من خلال الوسائط المتنوعة هو تعريف الجمهور المحلي والعربي والأجنبي بكل جوانب المجتمع المصري وتفاصيله، سواء عبر الصور اليومية الواقعية ذات الحس الفوتوغرافي، والمجالات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، والجذور التراثية الغنية، والمفردات الشعبية والفلكلورية، وغيرها من تجليات الأداء المتسق مع الذات الباحثة عن التجديد والانطلاق وكسر الأحادي والنمطي والمستقر.

ويتوازى هذا المنجز الإبداعي غير التقليدي مع سلسلة من الجهود والنشاطات الذاتية الأخرى لمحمد عبلة، التي يتفوق فيها بأفكاره الجريئة على جهود المؤسسة الرسمية بكل إمكاناتها. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تأسيسه لمركز الفيوم للفنون ومتحف الكاريكاتير بقرية تونس في محافظة الفيوم (حوالي 100 كيلومتر من القاهرة)، وهو أول متحف للضحك في الشرق الأوسط، يتضمن أعدادًا كبيرة من لوحات الكاريكاتير الأصلية للفنانين من سائر الأجيال المتعاقبة، كما يتولى تنظيم ورش العمل والكثير من البرامج التعليمية والتثقيفية وغيرها لتطوير الفن، وتدريب الفنانين الناشئين، وتنمية مهاراتهم الابتكارية.

أما "حرية الفن" في تجربة محمد عبلة، الفنان المستقل المكتفي بإبداعه، فهي الإشارة الأجدر بالتوقف عندها في تقرير غوته، إذ تشكّل هذه الحرية السمة المهيمنة على مجمل أعماله، فلوحاته وتماثيله تكاد تحكي تاريخها الخاص، وتبوح بأسرار أحبارها وخاماتها، من تلقاء ذاتها. كما أن العملية الفنية برمّتها في تصوره هي تفجير مفاجآت، ومرح بريء يتحلل من القوانين، ويعفي نفسه من الحسابات، ويعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، والإنسان وذاته.

الفن لدى عبلة حالة من البساطة والتجاوز والإحساس بنبض الألوان والخطوط والخامات، وتجربة مفتوحة على كل الاحتمالات، تنهل من بكارة اللحظة، والطزاجة الإنسانية، سعيًا إلى اقتناص الدهشة من خلال المغامرة واللعب البريء الطفولي. تكتسب أعماله دائمًا، من لوحات ومنحوتات وتكوينات مركّبة، صفات إنسانية وصبغة تاريخية، فهي تحمل سيرتها الذاتية، وتسرد ما بداخلها من نبض الخامات، وما مر عليها من تحولات وتفاعلات مع روح الفنان، وكأنما هي كائنات حية، تفصح عن جوّانياتها بالطريقة التي تلائمها، والفنان ملتزم بحياده.

يعنى عبلة بمحاولة إيجاد أوعية وقوالب للمعاني والمضامين الجوهرية، لا الأشكال والأسطح، فالصورة وراءها حكايات غنية بالدلالات والأفكار، فاللهب مثلًا ليس تجسيدًا للهب المعروف، وإنما إحالة إلى وهج الاشتعال، وتمدد ألسنة النيران وحرارتها من قلب الأرض إلى وجه السماء. وتتنوع تجلياته الفنية بين البورتريهات، والوجوه التاريخية، وسائر الكائنات والعناصر والظواهر الطبيعية والكونية، كالشمس والنجوم والنباتات والأزهار والأمواج والدوامات وغيرها، وهي كلها تضج بخصوبة الحياة المعيشة وعنفوان الحركة المشهدية بدون صخب أو تعقيد. كما تتلاقى فيها الجذور التاريخية والإحالات الفلسفية والخلفيات المعرفية والثقافية، بدون أن تطغى على طبيعة  الفن كتعبير جمالي خاطف ينبني على اختزان الرؤى والقدرة على استدعائها وتحليلها. ويسرد الفنان كذلك أساطيره الشعبية الدرامية، وملاحم الثقافة الشفاهية، مزاوجًا بين الحقيقة والخيال، والوعي واللاوعي، والواقع والأحلام.


ولا يتعارض التأمل والتعمق والغوص في ما وراء الأشكال المصوّرة والمجسّدة، مع النزعة إلى البراءة والطفولية والاستجابة للمزاج البصري والشعوري، فأن تكون المعاني قريبة من حواس المتلقي وذائقته الفنية ليس معناه الخفة والتسطيح بطبيعة الحال. وتختزن أعمال عبلة الثرية بين طياتها وأنسجتها الملامح المصرية الخالدة من وجوه البشر، وتقلبات نهر النيل، وسير المراكب، ومعالم الشوارع والبيوت، والأحياء الشعبية، والموالد والأعياد والاحتفالات الدينية، كما في معرضه "يوميات القاهرة"، وغيره.
 
ويتقصى الفنان بأناة ورهافة اللحظات الإنسانية المؤثرة والحالات الدقيقة، المشحونة بالمشاعر الجياشة والانفعالات الخاصة، كتلك الأعمال النحتية مثلًا التي تحمل عناوين من قبيل: الوقوف على الحافة، الجلوس على العرش، التطلع، الاسترخاء، لهب، دوامة، وغيرها، حيث تتجلى صراعات الإنسان الحائر، المحاط بالمخاطر، مع كائنات وظواهر أكثر قدرة منه على التحمل والثبات والصلابة في المحن.

ويتطور هذا الصراع الإنساني الكوني في تجربة محمد عبلة، في ظل جائحة كورونا، ومرحلة العزل الاجتماعي، ففي مجموعته النحتية "ماذا جرى للأرض؟"، يكاد يتماثل ما يغزو الإنسان من خواء وانكسار، وما يسيطر على الأرض من فراغ وامّحاء، في العالم الجديد اللامنطقي، وغير المفهوم. على أن الفنان في معرضه الأحدث "زمن الصبار" (2021)، يعيد الألوان الزاهية إلى لوحاته، والاخضرار إلى صحراء أرضه، والابتسامة إلى وجوه الأطفال، لتستعيد النباتات والبشرية والكائنات حيويتها مرة أخرى، ويتوّج الضوء بطلًا للحكاية، ويسترد العالم المادي روحه المفقودة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها