الثلاثاء 2022/05/17

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

الأوكراني أندري كوركوف: العَيش في المنطقة الرمادية

الثلاثاء 2022/05/17
الأوكراني أندري كوركوف: العَيش في المنطقة الرمادية
يرسم كوركوف بعمق وحنان حياة تتار القرم
increase حجم الخط decrease
في العام 2002، صدرت الترجمة الإنكليزية لرواية "الموت والبطريق"، للأوكراني أندري كوركوف، عن دار بنغوين - لندن. ثم تبعتها العام 2005 رواية "قضية حياة أو موت". كتبتُ مراجعة لهما في صحيفة "الحياة". كانت المراجعة الأولى والوحيدة. توالت بعد ذلك رواياته وتُرجمت إلى عشرات اللغات. ومع هذا بقي كوركوف شبه مجهول للقارىء العربي.

مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ظهر الاهتمام به. ليس بوصفه الروائي الأوكراني الأشهر على وجه البسيطة، بل باعتباره، أيضاً، الناطق باسم هواجس الأوكرانيين ومعاناتهم وصوتهم مناهضتهم للحرب الظالمة التي فرضها عليهم بوتين بشكل عبثي.

في العام 1991 نالت أوكرانيا استقلالها إثر اندثار الإتحاد السوفياتي.
في 2013 حاول بوتين إعادتها، إلى "حديقة الشعوب المتآخية"، أي النسخة الجديدة من الإتحاد السوفياتي، بإملاء اتفاقية "صداقة وأخوة" مع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوفيتش، الموالي لروسيا، الذي قيل إنه فاز في الانتخابات بالتزوير. اندلعت انتفاضة شعبية عارمة استمرت شهوراً (كتب كوركوف يوميات الانتفاضة ونشرها في كتاب صدر العام 2014). انتصرت الانتفاضة وهرب يانوفيتش إلى روسيا واستلم الأوكرانيون الموالون للاتحاد الأوروبي السلطة. ثارت ثائرة بوتين. اشتعلت فيه الرغبة في الانتقام. أرسل ضباطاً وفرقاً قتالية إلى المقاطعات الشرقية في أوكرانيا، تلك التي تملك نزعة انفصالية وتشعر بالولاء لروسيا، دونباس، دونتسك، لوهانسك. ارتسم خط فاصل بين الطرفين ونشأت منطقة محرمة. هرب ساكنو القرى والبلدات، هناك. لكن البعض منهم تشبث بالأرض وقرر الصمود.

زار كوركوف المنطقة أكثر ولاحظ كيف يعيش الناس في خوف أبدي من إمكانية اندلاع حرب. آنذاك خطرت له فكرة كتابة رواية، عن الناس العالقين بين فكي كماشة، في المنطقة الميتة، الحرام، الرمادية. صدرت الرواية العام الماضي، 2021، بعنوان "النحل الرمادي"، وصدرت ترجمتها الإنكليزية، «the grey bees»، عن دار ماكلهاوس في لندن.

هل هناك بالفعل إمكانية للعَيش على حافة الموت؟ في ظل رعب دائم من اندلاع الحرب في أية لحظة؟ كيف يكون العيش، في واقع الحال، في بقعة غير واضحة المعالم، بين بين؟ بقعة رمادية؟... كل شيء رمادي في "النحل الرمادي". بطل الرواية سيرغي سيرغيتش، وهو ضابط سابق متقاعد، آثر البقاء هناك والتفرغ لتربية النحل. يسكن وحده في شارع شيفشنكو المسمّى على اسم الشاعر الأوكراني الشهير. في الشارع الآخر، مقابله، شارع لينين، يعيش صديقه اللدود باشكا غريتش، (والكنية تعني: الرمادي).

قرية صغيرة، ضائعة وسط المناظر الطبيعية الرمادية، مزيج من السهوب المغطاة بالثلوج والأراضي الصناعية المهجورة. أفكار سيرغيتش رمادية: الحنين إلى زمن كان فيع شاباً يعيش في ظل دولة لينين. في ذلك الحين، كما تُظهر صورة قديمة له، كان يرتدي بذلة رمادية. وميض الألوان الوحيد هو ذكرى زوجته التي انفصلت عنه، بفستانها الأحمر المنقوش بالنمل، وسيارته من نوع لادا، وقفير النحل. ذكرى زوجته تتلاشى، وتتحطم السيارة ولا يبقى في عالمه سوى النحل.

يعيش الصديقان، مع آخرين متناثرين حولهما، في المنطقة المحايدة، قطاع الأراضي الضائعة بين الجانبين المتحاربين. بالنسبة إلى سيرغيتش، فإن البقاء في المنطقة الرمادية أفضل من الانحياز إلى أحد طرفي النزاع. إن سأله أحدهم ما إذا كان مِن دونيتسك (المدينة التي يسيطر عليها الانفصاليون المدعومون من روسيا)، يقول: لا، بيتي في المنطقة الرمادية... يكشف كوركوف أن المنطقة الرمادية ليست في الحقيقة منطقة محرّمة. لا أحد يعرف بالضبط عدد الأشخاص الذين بقوا في المنطقة الرمادية، ضمن الحرب، لكن من الواضح أن البعض ما زال يعيش هناك.

شخص تحبّه، لكن ليس بما يكفي لأن تتقاسم معه هواجسك وأسرارك الحميمة. وتكرهه، لكن ليس بما يكفي لأن تتخلّى عنه عندما يكون هو الروح الحية الوحيدة من حولك.

صداقة سيرغيتش وباشكا غير متوازنة، تماماً مثل صداقة البلشفي الثوري، لينين، والشاعر المتمرد، شيفشنكو، الذي سعى جاهدًا من أجل التحرر الوطني الأوكراني. ومع ذلك، يجد سيرغييش وباشكا نفسيهما غير قادرين على الانفصال. إنهما مضطران، رغماً عنهما، لنسج علاقة شبه حيادية، رمادية. هذه حال روسيا وأوكرانيا. وفي هذه الأرض الحرام، أقام باشكا صداقة مع الانفصاليين ورجال الجيش الروسي، في حين تآلف سيرغييتش مع المقاتلين الأوكرانيين، الذين يظهرون ويختفون. الصداقات التي يصنعانها مع الأصدقاء، الأعداء، هشة مثل لحظات السلام العرضية من حولهما. يستمر تآخي باشكا مع الانفصاليين طالما تستمر الفودكا ووجبات الطعام التي يسلمونها له من وقت لآخر. تتكون صداقة سيرغيتش مع الجنود الأوكرانيين من رسائل نصية غير متكررة مؤلفة من كلمة واحدة: "هل أنت على قيد الحياة؟"...

يغطي النصف الأول من الرواية يوميات العيش في لسيرغيش في منزله، ويأتي باشا لزيارته، على وقع أصوات القذائف والانفجارات، وقد اكتسب الإثنان خبرة في معرفة أنواع الانفجارات وما إذا كانت على مسافة بعيدة، آمنة، أم قريبة بشكل خطير، أو ما إذا كانت مقبولة بما يكفي للاستغراق في النوم مباشرة، أم مزعجة بما يكفي لطرد النوم من العيون وبث الفزع في النحل... يستدرجنا كوركوف بهدوء إلى المنطقة الرمادية. يجعلنا ندرك أن منزل سيرغيتش هو منزل رغم كل شيء. بيت وألفة ودفء. ليس ذنبه أن الحرب أتت إليه، في عقر داره. منزله الآن وسط أرض المعركة. ومع ذلك، لم يقم أحد بإطلاق النار على العدو من فنائه أو نوافذه أو سياجه، أي أن منزله ليس هدفاً معادياً لأي طرف. لهذا السبب بقي في منأى عن الألغام والقذائف التي سقطت على ليتل ستارهوروديفكا خلال السنوات الثلاث التي قضاها هناك.

لكن، تأتي اللحظة التي يتحتم عليه فيها أن يترك المكان. يجب أن يتركه، من أجل النحل. بحثًا عن مكان أكثر أمناً. أين؟ في القرم. هناك، حيث يجلس الرجال مكتوفي الأيدي يشربون في محطة للحافلات، ويقل عدد زوار متجر القرية، يشك السكان المحليون في وجود رجل قادم من المنطقة الرمادية. يرسم كوركوف بعمق وحنان، حياة تتار القرم، الذين وجدوا أنفسهم في حضن بوتين رغماً عنهم. يكفي الاتهام بسرقة شموع من كنيسة أرثوذكسية لإرسال تتار القرم إلى السجن. أن تكون من تتار القرم، كافٍ لتوليد مثل هذه الاتهامات بعيدة المنال. مقاطع متناثرة في الرواية تمتلأ بأغانٍ ومواويل وألوان وألعاب وأذواق وملابس لشعب التتار. وفي طريقه للخروج من شبه جزيرة القرم، يقابل سرغيتش ضابط الجمارك الروسي. يسأله الضابط مندهشاً: "ماذا، هل ما زلت تعيش في الإتحاد السوفياتي؟"، فيرد سيرغيتش: "لم يخبرني أحد عن شيء. بقيت أقود السيارة طوال الوقت بلوحة الترخيص السوفياتية".

في أحد أحلامه الحية، في وصف دقيق وجميل، يرى سيرغيتش الأضواء الساطعة للألعاب النارية:
ما هذا؟ سأل سيرغيتش.
نصر، رد باشكا بفرح.
ومن الذي انتصر؟ سأل سيرغيتش.
لا يهم. المهم انتهت الحرب.
لكن أي حرب؟ كرر سيرغيتش في ارتباك.
يستيقظ سيرغيتش قبل أن يتوسع باشكا. النصر مجرد حلم.
متعة سيرغيش الوحيدة المتبقية هي النحل.

في مقدمة الرواية كتب كوركوف: "لا أعرف متى سأتمكن مرة أخرى من زيارة القرم أو دونتسك، ولا أعرف متى ستنتهي هذه الحرب، لكن كل ما أتمناه بإخلاص هو أن يتركوا سكان المنطقة الرمادية لكي يعيشوا حياتهم كما يريدون. أن يبقوا في أمان ويعود للعسل المصنوع في دونباس طعمه الخالي من نثار البارود"... نعرف الآن أن ذلك لم يتحقق. نعرف أن المنطقة الرمادية تلونت بالدم. لا بدّ أن النحل تشتت وهاجر، وسيرغيتش وباشكا قد ماتا. والآخرون؟ ماتوا أو تشردوا في أصقاع الأرض.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها