الخميس 2022/04/28

آخر تحديث: 11:52 (بيروت)

ليونور دي ركوندو: الكتابة كما لو كانت موسيقى

الخميس 2022/04/28
ليونور دي ركوندو: الكتابة كما لو كانت موسيقى
أصدرت حتى الآن أربع روايات قاسمها المشترك هو الجمال الطاغي للغة
increase حجم الخط decrease
ليونور دي ريكوندو، الروائية والعازفة، هي حصيلة لغتين، مغلفتين بنغمات موسيقى: الفرنسية والإسبانية، هي التي ولدت في بلباو، عاصمة إقليم الباسك الإسباني، ونشأت وتعلمت في فرنسا. وهي، إذ دخلت عالم الكتابة بخيال خلاق وقدرة في تطويع اللغة لسرد مبدع، فإنها أبهرت: حذاقة إسبانية وأناقة فرنسية وإيقاع موسيقي جميل.

أصدرت حتى الآن أربع روايات، قاسمها المشترك هو جمال اللغة الطاغي. بالفعل، هي تكتب وكأنها تعزف. تستثمر مخزونها الموسيقي، باعتبارها عازفة كمان، لاقتراح تشكيل لغوي ينهض ويهبط في فقرات موصولة تكاد تدفع القارىء إلى الغرق في الإيقاع. لكن هناك شيء آخر تتقاسمه النصوص: الجسد.

الجسد الإنساني في أبعاده الجمالية والذهنية والنفسية والجنسية، والتفاعل الذي لا حدود له في تقارب الأجساد وتباعدها، بعضها لبعض أو بعضها من بعض، من دون أن يستطيع أي حاجز إجتماعي أو طبقي أو جندري الوقوف في وجهيهما، أي وجهي هذين التقارب، التباعد.

نشهد ذلك، بوضوح في رواية "الحجر الحي". تجري الرواية في العام 1505، تبدأ بموت راهب كان مايكل أنجلو معجباً بجمال جسده إلى حد الوله. الآن وقد مات الراهب، يسعى أشهر النحاتين على وجه البسيطة، بضراوة، إلى أن يستعيد جسده عبر النحت. سيخلق راهباً من حجر. سيبعث الروح فيه عبر الخلق المبدع لفنه. من لمسات يده وإزميله، سيصير الحجر حياً.

هكذا ينزوي في قرية بعيدة لإتمام هذا الخلق. لاستعادة الجسد الجميل. غير أن الاشتغال على جسد الراهب يذكره بأمه. بجسد أمه. تنهض ذكراها وينفجر حنينه إليها. الذكريات التي ظنّ أنه دفنها. العطور، وضحكة الطفل ميشيل الذي فقدته أمه في عمر السادسة مثله، وطعم الفطيرة المقلية التي صنعتها مضيفته ماريا صاحبة النزل، والفرس الأبيض لكافالينو المجنون الذي كان يظن أن البشر هم محض حيوانات... هذه الذكريات، التي تدفقت مع طرقات إزميله على الجسد النحتي للراهب الضائع، تجلّب معها ملامح وجه أمه وتفاصيل جسدها، محرضة إياه، مع جسد أندريا، على المزيد من الطموح ليعود إلى روما لإنجاز قبر البابا ذي الطابقين.

تدور أحداث روايتها "بونتو كاردينال"، في الوقت الحاضر، وتروي حياة شخصية متحولة جنسياً. نفتح الرواية ونجد، من الصفحة الأولى، المرأة التي تقود السيارة، متلهفة للوصول إلى المرآب. ونتابعها في لهفتها وشوقها. توقف السيارة. تطفئ المحرك. تنزل. تزيل مكياجها، تخلع باروكة شعرها، تخلع فستانها الحريري، تدحرج جواربها عن كاحليها، إنها شاب بهي الطلعة... عاد إلى موقعه الجندري الذي حُبس فيه اجتماعياً. إنه شاب، ذَكَر في عيون الناس، لكنه، حين يختلي بنفسه، يريد أن يكون امرأة. إنه، وقد خلع الزي النسائي، على وشك مقابلة زوجته وأطفاله لتناول العشاء. عندما كان طفلاً صغيراً، كان يقضي ساعات في خزانة والدته، كرهاً للأجواء الذكورية والرائحة الكريهة لغرف تغيير الملابس بعد مباريات كرة القدم. في نهاية الأمر، سوف يفجر القنبلة ويخبر الجميع بأنه لا يريد أن يكون ما يريد الآخرون، بل ما يريده هو، ما يرتاح إليه.

رواية ليونور دي ركوندر، الأجمل والأكثر تألقاً، في رأيي، هي "حالات حب" (إذا صحت ترجمة العنوان الفرنسي "آمورس"، أي الحب لكن بصيغة الجمع). أشبه بسيمفونية أدبية دقيقة حيث أرادت المؤلفة، عبرها، أن تنتصر للسرد الكلاسيكي الرصين، وتعمد إلى تكريم رواد الأدب الواقعي للقرن التاسع عشر، بدءاً من غوستاف فلوبير، وتحفته "مدام بوفاري"، وصولاً إلى جي دي موباسان وإميل زولا، وغيرهما، الذين تعتبرهم الروائية يمثلون "لحظة غير عادية في اللغة الفرنسية". البنية الموسيقية واضحة في إيقاع النص. هناك تناوب مدهش بين التسارع والبط، الصوت والصمت، الواحد والمجموع.

فيكتوار، بطلة الرواية، قادرة على التعبير عما تشعر به وهي تعزف على البيانو لأن ما يحدث لها هو ثورة في جسدها ولا يمكنها مشاركتها مع أي شخص آخر. هناك منازل برجوازية يعيش فيها أناس ذوو ظروف اجتماعية مختلفة، في منزل فيكتوار وزوجها وخادمتها، منزل برجوازي بامتياز، نقف أمام أكثر من مصير: مصير الخادمة ومصير السيدة ومصير الولد ومصير الزوج، في بنية بوليفونية متناسقة إيقاعياً.

تقوم الخادمة سيليست بأعمال السيدة فيكتوار التي لا تنجب أطفالاً. الخادمة تنجب طفلاً. تعرف فيكتوار ممّن أنجبته، لكن لا بأس. سيصير الولد ولدها. يوحد الطفل أدريان السيدة وخادمتها في الأمومة ويفتح باباً لجسديهما فتتبادلان الأدوار. يأتي الطفل ويجلب معه الحب بكل تجلياته: الحب في كل الأجواء، حب الأم، حب الجسد، الحب بين السيدة والخادمة، الحب بين السيد والمرأتين.

قبل الطفل، كان الفضاء كالحاً والأجواء ملبدة والعواطف مضمرة. بعده تفجر ينبوع الحب في كل ركن ومن كل صوب. عشعش في كل قلب. لعل هذا هو السبب في كتابة العنوان بصيغة الجمع.

تقارب الكاتبة موضوعة الحب والأحاسيس والمشاعر والعواطف، من بوابة الجسد. الجسد حامل السيرورة النفسية والروحية للكائن الذكوري والأنثوي على حد سواء. بحث مايكل أنجلو عن الكمال الذي رآه في جسد الرجل. تعرفت فيكتوار على نفسها في سيليست وفي كاردينال بوينت، غيرت الشخصية جسدها من حال إلى حال.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها