الصدفة، أو القدر في واحدة من سخرياته، جمع بين إقليم كردستان العراق ولبنان. قال الإقليم أنه فقد 700 مليون دولار من عائدات بيع النفط، في المصارف اللبنانية. في اللحظة عينها قالت مجلة "فوربس" أن ثروة رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي زادت نحو 700 مليون دولار. أشار صحافي لبناني، ساخراً، إلى أن هناك "بُعداً روائياً" في هذه المصادفة... وبالفعل يبدو الأمر شبيهاً بفصل في رواية. لكن رواية غرائبية من نسق روايات أميركا اللاتينية، الواقعية السحرية، تلك التي حاولت الإحاطة بالعالم الغريب، شبه السوريالي، للبلدان التي تحكمت بمصائرها أوليغارشيات عائلية فاسدة.
لماذا، وكيف، حطت 700 مليون دولار من كردستان العراق في بنوك لبنان؟ لم يكن أحد ليعرف بالأمر لولا المصادفة السحرية التي أدت إلى تبخر تلك الأموال، بعدما تبخرت أموال المودعين اللبنانيين أنفسهم، في بلد العجائب، أي بلاد الأرز.
هنا وهناك، في الإقليم ولبنان، تتحكم أوليغارشيات عائلية وحزبية وعشائرية، بمصير البلد والناس. في الجهتين تغطي حفلات رقص وطرب وعربدة، على نهم شره للاستحواذ على كل شيء. يبدو المشهد وكأنه مأخوذ من إحدى روايات غابرييل غارسيا ماركيز أو ماريو بارغاس يوسا. في "مئة عام من العزلة" يبقى خوسيه أركاديو بوينديا، الجدّ الكبير، ينتقل من جيل إلى جيل، ماسكاً بأعناق العائلة، والقرية ماكوندو، كما لو أن الأمر يتعلق بتقمص للأرواح. وفي "خريف البطريرك"، يظل الناس خائفين من البطريرك حتى بعد موته، الذي لا يشعر به أحد. يحكم وهو ميت.
في "حفلة التيس"، رسم ماريو بارغاس يوسا، صورة دقيقة لرافائيل تروخيلو، الفاسد المرعب، وابنه الفاسد مثله، وأتباعه الذين كانوا يرمون المخالفين لحكمه في مياه تنتشر فيها أسماك القرش. يسرد يوسا الساعات الأخيرة للتيس تروخيلو، وصراعه مع سلس البول والعجز الجنسي... والمعارضين لحكمه.
في العام 1946، أي منذ ما يقارب ثمانين حولاً، تلك التي سئم منها زهير بن أبي سلمى، أسس مصطفى البارزاني حزباً أطلق عليه اسم الحزب الديموقراطي الكردستاني. بقى على رأس الحزب حتى يوم رحيله عن الدنيا العام 1979. ورث الزعامة ابنه مسعود البارزاني، الذي ما زال على رأس الحزب (من عجائب الأقدار أنه ولد العام 1946، كما يقال، أي عند تأسيس الحزب بالذات. أليس مشهداً من الواقعية السحرية؟). البارزاني الأكبر، تزوج أربع نساء وأنجب عدداً هائلاً من الأبناء الذين تزوجوا بدورهم وأنجبوا عدداً هائلاً من الأبناء. وهكذا فقد بقيت روح العائلة صامدة للزمن، مثل روح خوسيه أركاديو بوينديا.
في العام 1965 انشق جلال الطالباني عن مصطفى البارزاني، وأسس حزباً جديداً باسم الاتحاد الوطني الكردستاني، وبقي على رأسه إلى وفاته العام 2017، أي طوال 47 عاماً. ثم خلفته زوجته ومن ثم أنجاله.
حين أقام الحلفاء، بزعامة الولايات المتحدة، منطقة شبه مستقلة شمالي خط العرض السادس والثلاثين من جغرافية العراق، استلمت العائلتان، البارزاني والطالباني، مفاتيح الحكم. وسرعان ما دخلتا في معركة رهيبة من أجل السيطرة على الموارد (أطلق الناس على القتال اسم "أم الجمارك"، على غرار "أم المعارك" بين صدام وحسين والولايات المتحدة الأميركية... مازلنا في الواقعية السحرية). ثم تقاسمت العائلتان المنطقة، فنهضت دويلتان: دويلة البارزاني في أربيل ودهوك وزاخو، ودولة الطالباني في السليمانية وكركوك (في ما بعد، حين تبين أن الأهالي يريدون الانحياز للبارزاني، وطلب الطالبانيون من الحشد الشعبي العراقي الهجوم على كركوك والسيطرة عليها). معبر خابور الحدودي على الحدود بين الإقليم تركيا (أي بين دويلة البارزاني وتركيا) ومعبر بشماك بين الإقليم وإيران (أي بين دويلة الطالباني وإيران) يوفران مصدراً حيوياً للدخل من تهريب النفط لأقارب للعائلتين.
بحسب برقيات دبلوماسية نشرتها ويكيليكس: "يمتلك البارزانيون ما لا يقل عن نصف حصص الشركات الكبرى". وهناك شركات خاصة مسجلة إما بأسماء أفراد العائلتين أو بأشخاص مرتبطين بهما.
وفي وثيقة مسربة، أوردتها ويكيليكس، تبين أن الفرع الكردي للإستشارات التكنولوجية في فرجينيا بالولايات المتحدة، مسجل باسم رجل الأعمال الكردي، هفال دوسكي، الذي يدير جزءاً كبيراً من شركة عائلة بارزاني. في العام 2018 احتل دوسكي عناوين الصحف الأميركية عندما استخدم الشركات المسجلة باسمه لتسهيل شراء قصرين في بيفرلي هيلز بولاية كاليفورنيا، لعائلة البارزاني بقيمة 47 مليون دولار أميركي، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 2 مليون دولار أميركي أخرى لإعادة التصميم.
وقال موقع "ريل ديل" الأميركي، في تقرير، أن القصرين يمتدان على مساحة 21 ألف قدم مربعة، و12 ألف قدم مربعة، وأنه تم بيعهما لشخص عراقي يدعى "هفال دوسكي"، الذي يرتبط بعلاقات قوية مع "مسرور" و"منصور" نجلَي مسعود بارزاني. القصر الأول يُسمّى "المنزل رقم 613 وتبلغ قيمته 27 مليون دولار ويضم ملعبًا داخليًا لكرة السلة، وصالتين للبولينع ومسرحاً منزلياً و12 حمّاماً بالإضافة الى أنظمة الإضاءة والصوت والأمن الأكثر تطوراً وتنسيقا". القصر الثاني وتبلغ قيمته 20 مليون دولار ويسمّى "سفح اليونور"، يبعد ميلاً واحداً عن القصر الأول، ويقع على سفح تل خاص، وهو مظلل بالأشجار وذو زخارف معتادة لعقارات بيفرلي هيلز الراقية، بما في ذلك صالة رياضية وغرفة عرض ومناظر طبيعية. وبيفرلي هيلز، كما هو معروف، هو البقعة التي يسكنها الممثلون في هوليوود وكبار رجال الأعمال (ما زلنا في الواقعية السحرية).
تتحكم العائلتان بمفاصل العيش في الدويلتين. يتبادل أفرادها في ما بينهم الأدوار والمناصب. في دويلة البارزاني: مسعود هو الولي الآمر الناهي. ابنه مسرور هو رئيس الوزراء. ابن أخيه وصهره، نيجيرفان، هو رئيس الإقليم. ابنه منصور، القائد العام للقوات المسلحة. ابنه ويسي، قائد المخابرات، الأسايش. الأمر نفسه في دويلة الطالباني. لكن بما أنه، اي الطالباني، لم ينجب أولاداً وأحفاداً، مثل غريمه، تتم الإستعانة بأولاد أخيه.
لا أحد يعرف ما هو بالضبط القوام القانوني للدويلتين، أهما جمهوريتان أم مملكتان أم إمارتان أم مشيختان أم سلطنتان أم إمبراطوريتان؟
طلبت صحيفة "كردستان تريبيون" الإلكترونية التي تنشر باللغة الإنكليزية في الخارج، من مسعود البارزاني، تقديم إيضاح عن أنباء تشير إلى خسارة ابنه منصور مبلغًا ضخماً من المال في كازينو في دبي، أثناء زيارة بارزاني الى الإمارات العربية المتحدة. وقالت الصحيفة إنه "من المهم جداً بالنسبة لرئيس كردستان إصدار بيان عن هذا الوضع، وتفسير ما حدث للناس لأن الكثيرين يعرفون أن عشيرة بارزاني تسيطر على الأعمال التجارية الرئيسة في منطقة كردستان في قطاعي النفط والاتصالات". وتساءلت الصحيفة: "كيف يمكن لشعب كردستان أن يثق في رئيسه في قضايا حاسمة من قبيل المادة 140 والنفط والغاز، إذا كانت هذه العائلة تسرق ثروات هذه الأمة؟".
ألقي القبض على خمسة صحافيين داخل الإقليم، لقيامهم بإجراء تحقيقات عن الفساد. ثم حُكم عليهم بالسجن ست سنوات بتهمة "التجسس" في محاكمة دانتها "هيومن رايتس ووتش" بسبب "انتهاكاتها الجسيمة لمعايير المحاكمات العادلة بالإضافة إلى تدخل سياسي رفيع المستوى".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها