الثلاثاء 2022/03/29

آخر تحديث: 13:35 (بيروت)

"مدينتان" لعمر نعيم: قصة مسرح في الحمرا..وحُبّ نضال وفؤاد

الثلاثاء 2022/03/29
increase حجم الخط decrease
في العام 2016، طلب المخرج السينمائي الشاب عمر نعيم من "نضال الأشقر، والدتي" أن يقوم بتوثيق احتفاليّة "مسرح المدينة" التي تُتوّج عشرين عاماً من النشاط الأقرب إلى "نضال" شهيّ ومواجهات ضارية مع الأيام. كان في زيارة إلى لبنان من الولايات المتحدة حيث يقيم، وأدرك حينها أنه من خلال هذا الشريط الوثائقي المُرتقب، سيتمكن من مُعالجة الموضوع بأسلوب سينمائي يتخطى القصّة نفسها "لأن الموضوع بدا لي لبنانياً بإمتياز، أي أنه يتمحور في الواقع حول الاحتفاظ بالكرامة والتمسّك بها في الوقت الذي تعمل بلادنا على قتلنا"، حسبما يروي لـ"المدن".

ومن هذا المُنطلق، كان من المُمكن أن يُعالج هذا الفيلم أي نشاط ثقافي في لبنان، في حين أن الشريط يرتكز بالدرجة الأولى على صمود المسرح، بيد أنه كان "في الإمكان أيضاً أن يُعالج أي موضوع آخر يرتبط بالصمود، لا سيما أمام إنحلال الدولة".

وكانت العاصمة الخليلة بيروت تعيش، بين 14 و26 أكتوبر/تشرين الأول من تلك السنة، إحتفاليّة تغمز إلى أيام العز التي رحلت مُستأذنة. احتفاليّة تردد صداها في بيروت كلها، وكانت مُخصصة لذكرى مرور 20 سنة على تأسيس هذا الصرح الذي أرادته نضال الأشقر الملاذ الآمن الذي يختبئ فيه كل من قست عليه الأيام وخذله الواقع.

صَرحٌ دفعت إيجاره، حسبما تؤكد في أحد المشاهد، "لعشر سنوات – لقدّام وبفرد مرّة - حتى إذا غافلني الموت، بقي المنزل الآمن الذي يحتمي فيه الشباب وكل الذين ما زالوا يحلمون". وعبقت الفُسحة التي زارها من أنحاء العالم، مروّضو القدر وغروره، برائحة الإبداع، واستقبلت الإحتفاليّة الضخمة عشرات الفنانين في أمسيات وعروض انتقائية. وخُيل للبعض بأن بيروت كلها اجتمعت في هذا المسرح الصغير بقدرته الكبيرة على أن يُشعرنا بأن "الدني بعدها بألف خير".

اختار عمر عنوان "مدينتان" لهذا الشريط الذي لا يُمكن حصره في خانة الوثائقي، لما يتضمنه من مشاهد مؤثرة وحقيقية وعفوية، تأخذ المُشاهد خلف الكواليس حيث المناكفات والإغواء الكلامي والمرح والضحكات غير المكبوحة بين "نضال وفؤاد" (نضال الأشقر وزوجها فؤاد نعيم) جعلته أقرب إلى رواية دراماتيكية ومُضحكة في آن، تسرد بالدرجة الأولى قصة حب كبيرة بين شخصين لم يُعرف الكثير عن حيثيات حياتهما الشخصية، رغم مُراقصتهما الأضواء منذ أعوام طويلة.

مدينة بيروت. والمدينة القائمة داخل المسرح الذي يحتضن جماعة "سريّة" تُريد بأي ثمن أن تتمسّك بالأمل والفرح والخلق، وتلك الأحاديث الجانبيّة الأقرب إلى زينة خلفيّة لكل ما يحدث على الخشبة. وكم من قصّة حُب ستولد، هذا المساء.

وأصرّت سيدة المسرح، "الست نضال"، أن تعرض "مدينتان" لجمهور صغير نظراً لهيمنة جائحة كورونا، في عطلة نهاية الأسبوع، بمناسبة اليوم العالمي للمسرح، بعدما أجبرتها الظروف على تأجيل موعد إطلاقه مرات عديدة بفعل الخضّات التي يعيشها البلد بلا توقف منذ سنوات ثلاث، فكانت فرصة للتعبير قبل العرض وبعده، عن تلك الرغبة المُلحّة والموجعة بالعودة إلى الحياة بعد انقطاع وعزلة.



واعتلت الأشقر خشبة المسرح الذي قدمت له عروقها وتلك النمردة المزوّدة بالزنطرة العارفة، لتُرحّب بهذه الجَمعَة الحميميّة، مُرتدية العباءة الحمراء المُطرّزة بخيوط ذهبيّة، وتلك الإقتحامية الموجعة بجمالها. وبين تصريح لا يرحم ضد الطبقة السياسية الحاكمة، وجملة شاهقة برسالة الأمل التي تُسيّجها، ضحك الجمهور مُطولاً وصفق بشكل عفوي عندما وضعت الكلمة الترحيبيّة جانباً وأنّبت بعض الشباب الذين وصلوا إلى الإحتفال مُتأخرين، "ليش تأخرتوا؟ المسرح منجي عليه على الوقت". و"وينك جورج؟ (خباز) خليك قاعد مرتاح، إيه؟"، "مش عم بقشع شي إنت فوق بالمسرح ضوّيلي". وكانت هذه العفوية "العفريتة" هي محور الشريط الحدث، بحيث كانت لغة التواصل بين "الست نضال" وفؤاد نعيم، المخرج والممثل والفنان التشكيلي إذ أظهر وجهه الآخر المرتاح والمرح الذي نادراً ما أظهره في الماضي لتمسّكه بحياته الشخصيّة. "أبوك يقول عنّي أني أفضل شحّادة"، تقول الأشقر لابنها في أحد المشاهد. "الماما بعدها صبيّة وأنا صرت ختيار"، يقول نعيم لعمر.

وهذا الأخير يهتف بالإنكليزيّة خلف الكاميرا لوالدته، "وكأنني أتعرّف إليك للمرة الأولى. لا أعرف هذا الجانب من شخصيتك".

ويقول عمر نعيم لـ"المدن": "كان أبي وأمي رائعين أثناء طفولتي، لكنهما أصبحا أكثر إثارة عندما كبرا وكبرت. علّماني محبة الناس والكتب والموسيقى، وزرعا في أعماقي مناقب العمل الجدي والمليء باللعب في الوقت عينه. والغريب أن عالم السينما لم يحتل المركز الأول في بيتنا، وقد مُنعت من مشاهدة التلفزيون في طفولتي. ولا أذكر أننا شاهدنا معاً مع والديّ أفلاماً في البيت أو في صالة السينما. أعتقد أنني رأيت في عالم السينما لغة أتبناها وأكتشفها من دون أن يأخذ أحد بيدي ويدلني على الطريق. كنا في بداية التسعينيات قبل الإنترنت، وكان من الصعب جداً أن نجد في بيروت أفلاماً قديمة وكتباً عن السينما... شكراً Video Chico (متجر شهير في منطقة الحمرا لبيع وتأجير الأقراص المدمجة".

وهذا الوالد، فؤاد نعيم، الذي لطالما وضع ابنة ديك المحدي الصغيرة في الواجهة، واكتفى بحضوره الأنيق الصامت في كل المناسبات الثقافية والفنية، كان حاضراً بقوة في "مدينتان"، وذلك من خلال تسليط الضوء على كواليس مسرحية "الملك يموت" التي وقّعها نعيم وعرضها في الإحتفالية العام 2016، وأيضاً من خلال بعض اللحظات الحميمة الهاربة، بينه وبين نضال الجامحة التي تقول لنا ببساطة، "لم أجد يوماً نفسي جميلة. كانت شقيقتي هي الجميلة. كنت أنا منهمكة في أمور أخرى".

وفي أحد المشاهد، تمكن عمر من تخليد اللحظة التي ترقص فيها الأشقر وتغني مع المطرب خالد العبدالله الذي يُرافقها في مختلف أعمالها، وذلك أثناء التمارين في المنزل لعمل "مش من زمان" الذي تروي من خلاله قصة حياتها بأسلوب غير تقليدي. ولم يتمكن الحضور من أن يكظم انفعالاته، تصفيقاً وهتافاً. والبعض سمح لدموعه بأن تكون صلة الوصل بينه وبين هذا العمل القريب من الروح.

وفي نهاية العرض اتصلت الأشقر بعُمر في الولايات المتحدة، وسمحت للحضور بالتواصل معه عبر رابط الفيديو ليعبّر البعض عن هذا الشوق إلى تلك البيروت التي لا بد أن تقف مجدداً بعد كل الضربات المتتالية. "وجّعتنا يا عمر"، قالت الممثلة القديرة جوليا قصّار. ووقف فؤاد نعيم بصمت محدقاً في ابنة ديك المحدي الصغيرة، بحنان، ليضحك بلا توقف. عندما أقول له، أنها المرة الأولى التي أراك تضحك فيها، كما هي المرة الأولى التي أسمعك تتحدث وتعبّر عن رأيك وأراك بهذا الإرتياح، يُجيب ضاحكاً، "No One Asked Me Before".

فجأة اقترب من الأشقر بعض الشباب وراحوا يعانقونها ويلتقطون لها عشرات الصور. أحدهم قال لها، "بليز ترشحّي ع النيابة". فإذا بها تُجيب بقلّة صبر، "لا نيابة ولا سياسة ولا أمينة ولا شي. اتركوني. بدّي ضلّني حرّة. بدي ضلّني بالمسرح".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها