الثلاثاء 2022/03/29

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

المجنّد السوري سينمائياً وأدبياً... إما قاتل أو مقتول

الثلاثاء 2022/03/29
increase حجم الخط decrease
للقاص العراقي، محمد خضير، قصة مشهورة بعنوان "الأرجوحة"، كتبها حينما كان في الخامسة والعشرين من عمره، بُعيد حرب حزيران 1967. تتحدّث عن مجند موفد من قطعته العسكرية لكي يُبلغ عائلة زميله أن ابنهم قُتل في الحرب، فأتى إليهم يحمل حقيبة الشهيد، أو ما بقي منه، لكنه لم يستطع أن يبلغ أمه الرسالة، وبدلاً من ذلك قضى وقته يلاعب طفلة القتيل، ويحدثها عن أن والدها، الذي أضاعته في حلمها وهي تتهادى على الأرجوحة، بات حاضراً في كل مكان!


ألقُ هذه القصة، التقط المخرج السوري هيثم حقي تفاصيله، فذهب إلى غوطة دمشق، وصنع منها فيلماً روائياً قصيراً في العام 1976، أدى أدواره الرئيسة كل من منى واصف في دور الأم، والطفلة نهال صالحية في دور الابنة حليمة، ورشيد عساف في دور الجندي الرسول.
ومنذ أن ظهر الفيلم بالأسود والأبيض في شاشة التلفزيون السوري(*)، الذي أنتجه، حتى صار هذا العمل التحفة يُعرض بشكل متكرر، كلما حلت على السوريين ذكرى عيد الشهداء، مؤطراً بمحاولة مُخرجه اللحاق بشعرية كاتب القصة من خلال صنع مشهدية شفافة، حاولت أن تمزج بين تحفيز المشاهد لرؤية لحظة صدمة الأم والحفيدة، وبين التكوين الآسر للصمت. مع السعي للتخفيف من نمطية التفكير بالحرب التي تفضي إلى مقتل الأبناء، والابتعاد عن الشعاراتية، في تناول مسألة الاستشهاد، وبما يصنع صورة غير مألوفة للجندي الشهيد، الذي لا بد من تذكره، حتى وإن لم يبق من أثره سوى بضعة أغراض في حقيبة.

كانت صورة الجندي في الوعي الشعبي السوري، محمولة طيلة عقود على قطعة قماشية بيضاء، تجنب السوريون تلويثها، رغم تورط الجيش تاريخياً في إعاقة مشروع الدولة الوطنية، عبر الإنقلابات المتكررة، ثم أخذ البلد من عنقها، وتسليمها لجمال عبد الناصر من خلال مشروع وحدة متسرع، وما تلا ذلك من واقعة الإنفصال، ثم كارثة الانقلاب البعثي، وصراعات الرفاق الدموية، وصولاً إلى لحظة استيلاء الأسد على الحكم، وتملكه للجيش ليصبح أداته الأهم في تدمير حاضر السوريين، ومستقبلهم أيضاً.



صحيح أن الحرب التي اندلعت في تشرين الأول 1973، حملت الكثير من القصص، عن صمود الجنود الذي صدقوا أن لحظة التحرير قد أزفت، إلا أن سياسة الحكم الأسدي التي غيرت تكوين الجيش، وغيرت طبيعته الوطنية إلى أخرى فاسدة وطائفية، كانت وطيلة العقود التالية تنخر في الصورة المكرسة عن "حماة الديار"، الذين انتهوا ليكونوا "جيش أبو شحاطة" كما يقال عنهم في السرد الشعبي الساخر، والذي تناول فساد المؤسسة العسكرية وكان لا بد لأي مجند سوري أن يعايشه طيلة مدة أدائه للخدمة الإلزامية.

في فيلم الكوميديا السوداء بعنوان "ليالي ابن آوى"، للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، يمكن العثور على بعضٍ من نتف الصورة الممزقة لصورة الجندي الذي يصبح شهيداً، في مقاربة غير متكررة، ربطت بين سلطوية التربية العائلية، وما يترتب عليها من هزائم على المستوى الشخصي، وبين محاولة يائسة للانتصار على الخوف الموروث، تتخللها مفارقات ساخرة. 

لكن ما كان مجرد مماحكات مضبوطة مع معاني الجندية في خطاب السلطة، انقلب إلى جحيم غير مسبوق، عندما تفجرت ثورة السوريين في العام 2011، وبات على عشرات الآلاف من الضباط وصف الضباط والمجندين الذي يخدمون في هذا الجيش، أن يحسموا أمورهم، وأن يختاروا في أي ضفة سيقفون!

آنذاك، سيقرر الرقيب المجند (المخرج) زياد كلثوم، أن يستخدم كاميرا جوالة ليصور يوماً كاملاً من حياته في القطعة العسكرية التي يخدم فيها، في غوطة دمشق، وليصنع في وقت لاحق من هذه التفاصيل التي عاشها، بالتوازي مع التفكير في السينما وموقف الفن من الثورة والحرب، فيلماً سيحمل عنوان "الرقيب الخالد"، ليكون أول فيلم توثيقي غير تعبوي، عن الجندي السوري، المغلوب على أمره، بين مطرقة الانصياع للأمر العسكري، وبين سندان الموقف الأخلاقي المُلحّ الذي يوجب عليه إعلان الموقف المعارض. الأمر الذي سيؤدي، لو حصل، إلى إعدامه فوراً، بتهمة عصيان الأمر العسكري، فيما راح يتشكل فصيل الجيش الحر، الذي تكونت طلائعه الأولى من المنشقين عن جيش النظام!

هذه المحاولة، سيقابلها لاحقاً وجهٌ مناقض، مندمج مع خطاب النظام في ترويج الحرب على الإرهابيين، في أفلام جود سعيد الروائية، وتلك التي صنعها نجدت أنزور لتطرق طبول الحرب والانتصارات. 

وضمن هذه التقابلات سيكون فيلم زياد ومضة أولى في السردية التي سيروي فيها آخرون، عن حيواتهم في الخدمة الإلزامية، في أعمال مكتوبة، كان أبرزها كتاب "ساعة الذئب" لعيسى الصيادي، (2021، دار موزاييك للدراسات والنشر، إسطنبول، تركيا) الذي أراد للأوراق التي سجلها أثناء خدمته الإلزامية وسجنه، ونجاته، أن تظهر لتحكي بلغة غير متوقعة عن سياق مقيت قاتل، (لقراءة مطالعتنا للكتاب في المدن هنا). هنا، لا تتهتك صورة الجندي السوري فحسب، بل كينونته الإنسانية، بكل تفاصيلها، ليصبح للنجاة معنى أكبر مما يمكن أن يتخيله أي روائي، لو أراد أن يكتب عما جرى مع هؤلاء البؤساء، الذين شاءت ظروفهم أن يكونوا شهوداً على المجزرة، وهم يحاولون ألا يكونوا فيها قتلة وسفاحين.

وعلى الخطى ذاتها، سيدوّن الشاعر الكردي السوري، جوان تتر، يومياته "إلى العلم در" التي صدرت قبل بضعة شهور عن دار ممدوح عدوان، ليكشف وجهاً آخر للكارثة، يتعلق بالاضطهاد المزدوج الذي يعيشه المجند الكردي، في خضم مأساة وطنية صنعها اضطهاد الدولة الأمنية لكل مكونات الشعب السوري، فيقول: "أشاهد هويتي الوطنية الآن على الطاولة أمامي، وأفكر في أن أقول لطفلي الرضيع: "خذها يا بني، إرمها للكلاب، إرمها إلى قاع بئر، فليكتشف الجيل القادم منكم أننا تهنا عن كرامتنا، تهنا عن حياتنا اليومية، خانتنا تلك الأرقام المدونة أسفل نسر الدولة، التي بتنا، أو ربما كنا في الأصل غرباء عنها، خذها يا بني، وقل لأطفالك عن مزاياها الراهنة، إنها لا تصلح للحصول على لقمة خبز، أو جرعة دواء"!

صورة الجندي، المكللة بالغار، والتي بدأ انزياحها، قبل زمن كتابة السطور السابقة بعقود، صوب العار، بعدما صار العسكر كناية عن كل القباحات التي حلت بالوطن،.. هذا الانزياح ليس معزولاً عن الانقسام السوري الراهن، بين مؤيدين ومعارضين، بين قتلة وضحايا، بين مستفيدين ومتأذين، وبين صامتين ومتكلمين. بل هو جزء من تضاريس الصراع. فحيث يسيطر النظام لا يُراد للصورة أن تكون محترمة فقط، بل يُطلب من العموم تقديسها، وحين يحاول المرء الاقتراب من هواجس الآباء والأمهات بسبب خطر محدق بأبنائهم الذين بقوا لسبب أو لآخر ملتحقين بالخدمة الإلزامية، سيكتشف أن عدداً غير قليل منهم يعيش الخوف من أن يموت هؤلاء في الصراع، ضحايا للعبث!

هنا، سيلتقط المخرج الشاب غياث محيثاوي في فيلمه الروائي القصير الأول "عودة"، الذي عرض في أكثر من مهرجان أوروبي، مقطعاً مُركزاً من الهواجس التي تطرق عقل جندي (أحمد كيكي) حصل على إجازة قصيرة "24 ساعة" بعدما دفع ثمنها مليون ليرة، في مواجهة أمه (أمل عمران) التي تحاول ألا تظهر خوفها، عبر ادعاء شخصية قوية تقنع نفسها، ومن ثم ابنها، بأن ما يجري هناك، حيث يعيش المجندون الخوف من الموت، ومن أن يصبحوا قتلة، هو أمر طبيعي، وأن شيئاً سيئاً لن يحدث لابنها، الذي يجلس ساهماً أمام نافذة الغسالة وهي تعلك البذة العسكرية، فلا يشبه سوى السجناء الذين يقضون الوقت في جحيم أقبية المعتقلات، عراة تستر عوراتهم بقايا سراويل قصيرة.

ومن دون استغراق في الكلام الملفوظ الذي يوثق لما كان يدور في عقول السوريين في بدايات الصراع، ستتيح كاميرا محيثاوي للمشهدية أن تتحدث، فتصبح الغسالة صاحبة الصوت الأعلى، بينما يمكن الهرب إلى الماضي في السقيفة الواطئة المعتمة، ومع تحطم نظرات العيون لدى الجندي الفزع وأمه المكابرة، سيتذكر المشاهدون تاريخاً طويلاً من تحطيم الشخصية السورية عموماً ومن تقزيم كينونة المجندين، ليصبحوا كائنات بلا ملامح، أو أصحاب وجوه غائرة كالضحايا في سلسلة لوحات النزوات للإسباني فرانسيشكو غويا. 

(*) صنعت المخرجة العراقية د.خلود جبار نسخة فيلمية قصيرة من القصة ذاتها حملت العنوان نفسه في العام 2007.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها