الخميس 2022/03/17

آخر تحديث: 14:07 (بيروت)

أروى صالح... ثورية تعيش بين دفتي كتاب(2)

الخميس 2022/03/17
أروى صالح... ثورية تعيش بين دفتي كتاب(2)
تصف أروى صالح تجربة الحركة الطالبية بـ"الكيتش الصراعي"
increase حجم الخط decrease
(*) بعد الجزء الأول، هنا الجزء الثاني من مقال ينشر على حلقات، بمناسبة مرور ربع قرن على رحيل الناشطة اليسارية والكاتبة أروى صالح.

مع أن أروى صالح "الحالمة" و"الرومانسية"، عُرفت بين أقرانها ككاتبة موهوبة وناشطة، إلا أن الأعمال التي خلَّفتها شحيحة لأسباب تعود، جزئياً، إلى طبيعة العمل السياسي "السري" والتصوفي في ذلك الوقت (كانت، غالباً، تكتب لصحيفة حزب العمال الشيوعي المصري). كانت تتساءل أيضاً لماذا لم تستطع أن تكتب رواية، رغم رصيدها الوافر من الحكايات، فقد كانت هي نفسها شخصية روائية، أرادت ذلك من دون وعي. وبحسب زوجها السابق، الكاتب مهاب نصر، "أصبحت تعيش بين دفتي كتاب صنعته بنفسها. كانت ثورة تدور في يأس وسط المرايا، ومثل كل الحالمين أرادت أن تلغي الوسيط المعذب، تحطم الديكور وتعيد بناءه من دون أن تلتفت إلى مصدره الجوهري، إلى جنون إلغاء الوسيط وجنون الاعتراف به كصورة للذات، هكذا ألقت بنفسها في إحدى هذه المرايا لتنهي عذاب الوساطة".

ومن يقرأ "سرطان الروح"، وهو عنوان قصيدة طويلة لأروى (يضمها الكتاب الذي صدر عن دار النهر في 1998)، ويضم خلاصة وافية عن أعمالها غير المنشورة، يرصد فكرة محورية حول "الانعزالية والاكتئاب والشرود في أحلام اليقظة". ويحوي الكتاب أيضًا قصتين قصيرتين (بورتريهات، والبيتلز)، ومقالات قصيرة تناولت فيها تجربة صنع الله إبراهيم الكتابية، تحت عنوان "صنع الله إبراهيم شاهد لكل العصور". وثمّة فصل عن السيرة الذاتية بعنوان "تمشية". يحمل الكثير من الألم الذاتي والشخصي، تحكي فيه وقائع من حياتها ومحاولتها الانتحار، أكثر من مرة، وفي واحدة منها أنقذها عسكري من الأمن وصحبها لقسم الشرطة مُعنِّفًا إيَّاها! 

وكتابها "المبتسرون" ينتمي الى "الكتب الرومانسية" الثورية، ويتضمن حكاية جيلها الذي صنعته، أو بالأحرى دمّرته، هزيمة العام 1967، والتي يُطلق عليها "النكسة"، ونشأ على سياسة قائمة على "الحب" لا السياسة، عالم السياسة لذلك الجيل، تشكل وفق "إزدراء السياسة" والخوض في الجدل الأخلاقي والحقوقي والحلمي و"استخدام ألفاظ إيحائية عن الشرف والكرامة" (ناجي نجيب، كتاب الأحزان، ص 50). ويزعم بعض محبي أروى أن الكتاب ما زال صالحاً للاستدلال في الوقت الحالي، خصوصاّ أن هذا الجيل ما زال يحتل حيزاً كبيراً في ما يمكن أن نسميه "النخبة الثقافية" في مصر، سواء في الانتاج الأدبي، أو المواقف، أو الفضائح... والكتاب "يحمل شكلاً أدبياً خاصاً". والمؤلفة نفسها تتفق مع نقادها بأن هذا العمل "لا ينتمي الى أي جنس أدبي"، وتقول "ألم يخبرهم أحد أن ما يفتح المعنى واللغة هو الكتابة، أن تكتب نصية الحياة، فأنت لست في حاجة إلى جنس، بل في حاجة إلى دعوة الحياة الحقيقة التي تقع على أطراف الصدق، لقد حاولت المواءمة بين لغتي وفشل جيل كامل، فهل يحتاج هذا مني إلى البحث عن جنس أدبي رفيع؟". فالكتاب ليس مذكرات، بالرغم من حضور التجربة والذكرى في قلب الكتاب ومشروعه النقدي. وهو بحسب تقديم سماح سليم لترجمته الانكليزية "ليس كتاب تاريخ، بالرغم من أن كل جملة، وكل استدعاء للتحليل والنقد، مشبّع بالمعرفة التاريخية، وأخيرًا، فهو ليس مقالًا في الاقتصاد أو علم الاجتماع السياسيين، مع أن الخيوط الرئيسة في الكتاب تتضمن تحليلًا محكمًا، من ناحية الطبقة والجندر، لفشل كل من مشروع التحرير الوطني والمشروع الماركسي في مصر. هو لا شيء من ذلك، وكل ذلك في الوقت نفسه. وقد استخدم ناقدو صالح بالطبع شكل الكتاب المستعصي على التصنيف، متعدد المعاني هذا، ضدها".

يرى الباحث وضاح شرارة ردًّا على ما كتبه الكاتب الاسرائيلي يوسي أميتاي عن الكتاب حيث وصفه الأخير بقوله إن "الكتاب يتميّز حقًا، من ناحية الشكل، بعدم وجود نظام أو أسلوب محدّد. فالعبارات طويلة ومعقّدة جدًّا وتحتوي على كميات كبيرة من المقولات الـمُبهمة والجمل الاعتراضية. وكثيرًا ما تقفز فجأة من موضوع الى آخر كما أن هناك أحيانًا عدم اتصال نصي ومنطقي". فيفنِّد وضاح هذا قائلاً بإنّ ما تكتبه أروى أشبه بـ"كتابة محمومة تتقلب بين وجوه الصور والمعاني… وأحرف الاعتلال"، ويُبرِّرُ هذا بكَون أروى صالح "لا ترطن رطانة التلامذة، ومردّدي المحفوظات عن ظهر قلب، بما تستعيده من هؤلاء وغيرهم، حتى حين تُحاذي الاستعادةُ عمل الناسخين والوراقين. فهي لا تكتبُ إلا منتشيةً بما تكتب، على ما تلمح، فتجيء جملها محمومة يضج في جنباتها الوصف والرأي واللوم والمقارنة والخيبة والرجاء، ولا تستقر على قرار، أو تكاد، حتى يدعوها داعٍ آخر الى الإنزعاج، على قول المتصوّفة، وترك مستقر الكلام إلى وجه طارئ ومختلف"("أحوال أهل الغيبة/ خاتمة الأحزان والمراثي" (دار رياض الريّس).

أروى، بحسب مهاب نصر، لم تكن تحمل عاطفة قوية تجاه كتاب "المبتسرون" رغم استيائها الظاهر من نقاده. كان ثمة كتاب آخر تحكي عنه، أوراق كتبتها في أسبانيا في لحظة انتهت بانتكاسة مرضية، كانت تحكي عنها بسخونة وحميمية وألم باعتبارها الأصل الضائع لـ"المبتسرون". مهاب نصر، لديه جموح في الكتابة عن أروى كأنها قضيته، أو هي "الأيقونة" التي تعبّر عن جيل مضى، ويركز مهاب على حلم أروى والجيل الحالم وكتاب "المبتسرون". يقول في مقال نشره في موقع "مدينة" بعنوان "الحالمون": "قصت عليّ أروى قصة الكتاب "الأصلي". عن رحلتها الاستشفائية إلى إسبانيا التي انتهت بردة قاصمة للهيستيريا، عن جارها الشاب الإسباني الذي زارها يوماً وفوجئ بثلاجتها شبه فارغة. عن انطلاقها في كتابة "المبتسرون" بروح محمومة على شفا الجنون. ثم عن تخلصها من كل ما دونته. لا أذكر إن كانت قد أحرقته أو ألقت به إلى القمامة. لكنها ظلت نادمة، تنظر إلى "المبتسرون" الجديد الذي أعادت كتابته كنسخة باهتة عن الأصل. هذا الندم ضروري جداً. لأنه هو نفسه استباق، وقطع لمسار المستقبل بفكرة "الأصل الغائب". الكمال هو تذويب الذات في الكتاب، حريق وخلاص، استثناء داغم يقضي على مشكلة ازدواج الارادة أو تعددها. هذه هي الكذبة الرومانسية الأكثر فداحة".

 

تقف أروى في كتابها أمام المرآة لترى وتحلل وتنتقد نفسها والحركة الشيوعية في مصر والمثقف البرجوازي المصري، وأيضاً المجتمع المصري، في واحدة من أحرج مراحله على مر التاريخ الحديث، وهي نفسها تدمج بين الخاص والعام حينما تقول: "مشاكل علاقتي بالشيوعية هي نفسها مشاكل علاقتي بالحياة"، والحركة الطلابية "كانت كياناً هلامياً بقدر ما كانت تواجه واقعاً غير واضح المعالم، كانت هذه الحركة تخرج من طبقة هلامية لا استقلال لها تلائم هذا الوضع هي البرجوازية الصغيرة "الطالبية"، التي كانت تنتمي بوجدانها وبكثير من مميزاتها إلى نظام عبد الناصر وعلى رأسها مجانية التعليم"، الحركة "تبخرت ووجد زعماؤها أنفسهم في العراء ليذوقوا نفس المهانة التي طالما تجرعها جيل الستينيات حيث أصبحوا هم أيضاً زعماء بلا جمهور، وعرفوا معنى الترهل واليأس"، أما السبعينيون فقد صاروا بقايا من زمن لم تصقلهم فيه تجربة، زمن لم يكادوا يتعرفوا عليه وأصبحوا الجمهور المناسب لقادة الستينيات "يلاعبونهم لعبة الطليعة على الطريقة الستالينية فقد صنع التقاء هؤلاء الشبان، عديمي الخبرة الذين ظنوا أنفسهم قادة الشعب، بالقادة الماركسيين من زمن عبد الناصر، مهزلة تركت في ضحاياها شعوراً بالخزي والمرارة، قضي على كثيرين حتى لم يعودوا يصلحون لشيء".

تصف أروى صالح تجربة الحركة الطالبية بـ"الكيتش الصراعي" وتقتبس من احدى مقالات محمد حسنين هيكل الذي حاول فيه وصف الشباب الذين اختاروا الانضمام الى منظمة نضالية بأنهم شبان يبحثون عن حماية و"دفء الجماعة". وتتساءل أروى "لماذا إذاً كنا ننضم جماعات الى الجماعات النضالية الرائجة في زمننا؟ أكنا نستجيب لنداء التاريخ... أم لدواع خفية كما يلمح هيكل؟" وتجيب: "عدا أقلية، فالأرجح أن كلتا الاجابتين صحيحة، انضم البعض الى الحركات النضالية لعدل ميزان الحق أو التاريخ، وخلالها يحاول الواحد منهم أن يقفز على أزماته الداخلية"، لم يكن ثمة سياسة، بل خيال جمعي لا يمثل الواقع، يمجد التضحيات، ويعشق الأفكار ويترفع عن الأشياء المحسوسة، ويحيل واقع السياسة السائدة إلى القذارة، ويتصور السياسة على صورة الحب، وفي النهاية يكون الاصطدام بالواقع وتشعباته.... والحال أن نظام عبد الناصر، وهو نفسه و"جه آخر للمبتسرين" على زعم مهاب نصر، وهو الثوري ضد الملكية والاقطاع، و"الاشتراكي" على طريقته، دفع بنضوج بورجوازية جديدة، من أبناء الطبقات البورجوازية الصغيرة - والتي قامت بثورة تموز يوليو 1952، وهي الطبقات التي كانت تكن كل كراهية ورغبة في الانتقام من البورجوازية الريفية والمدنية القديمة من أيام النظام الملكي. قضى عبدالناصر على "البورجوازية الطفيلية" و"الصنايعية" وظهرت مكانها بورجوازية جديدة من أبناء الطبقة التي ينتسب هو إليها. استولى البورجوازيون الجدد على الثروات الصناعية والعقارية والمالية التي قام بتأميمها النظام الحاكم". تقول أروى "لقد ظننا أننا أبناء عهد جديد يبدأ فيه الشعب رحلته المستقلة عن نظام عبدالناصر بعد طول تبعية. ولكننا كنا مخطئين فالحركة الطالبية بنت زمن عبدالناصر وأحلامه أكثر كثيراً مما يظن بعض قادتها حتى اليوم". أو بمعنى آخر وجود الحركة الطالبية المصرية ارتبط بوجود عبد الناصر، ولما تأزم عبد الناصر تأزمت معه".

عدا "المبتسرون" وما تضمنه من سرد، يمكن وضعه في خانة "الاعترافات" تعبّر عن جيل رومانسي متصدّع ومنهزم و"فصامي"، كانتْ أروى تعاقدت مع كتاب الأهالي، وهو سلسلة كتب شهرية كانت تصدرها جريدة الأهالي الناطقة بلسان حزب التجمع، أسسها ورأس تحريرها صلاح عيسى ورفع شعاراً لها هو "ثقافة الهدم والبناء" مفسراً بذلك هدف السلسلة، بأنه إذا كان منطق الحركة السياسية اليومية، يحتمل المساومة، فإن جوهر دور اليسار على صعيد الوعى والانتماء، هو الهدم والبناء، ذلك أن الأمر هنا أمر تكوين، وتأسيس، يتجاوز ضرورات الحاضر وقيوده، إلى آفاق المستقبل وأحلامه. ولعل هذا الفهم لدور اليسار المعرفي، هو ما شجع أروى على الإقدام للتعاون مع السلسلة. وكان الكتاب الذي اختارته لتترجمه هو من تأليف المفكر البريطاني الاشتراكي وزعيم حزب العمال توني كليف بعنوان "النضال الطبقي وتحرر المرأة".

تقول أمينة النقاش "من دون إرادتي، وجدتني طرفاً في المشكلة التي نشأت بين أروى وبين صلاح عيسى، إذ إن الكتاب كان قد أوشك على الصدور بعنوان "نقد الحركة النسوانية" وهو ما كان محلاً لاعتراض أروى، التي تمسكت بالعنوان الأصلي للكتاب، وفشلت كل المحاولات لإقناع صلاح بتعديله، وكانت حجته في ذلك أنّ الكتاب طُبع بالفعل، وأن العنوان الأصلي يتصف بالعمومية، فيما العنوان الثاني أكثر جاذبية للقراءة من ناحية، وينطوي على المضمون الحقيقي لفصول الكتاب من ناحية أخرى، إذ يقدم المؤلف نقداً للحركة النسوية التي أخذت في الانتشار في أميركا ودول أوروبا الغربية، مع بدايات عقد الستينيات من القرن الماضي، ويعقد مقارنة بين موقف الحركات الثورية والاشتراكية والنقابية من اضطهاد المرأة وتحررها، مرجعاً ذلك إلى حركة التاريخ، رافضاً منطق الحركة النسوية الغربية، التي تفسر تاريخ اضطهاد النساء وتحررهن بالصراع بين الرجل والمرأة.

قبلت أروى على مضض التسوية الممكنة لتلك الأزمة، بأن وضعت الجملة التالية فى صدر الكتاب وعلى غلافه الأخير: العنوان الأصلي للكتاب "النضال الطبقي وتحرر المرأة" وتم تغييره بمعرفة هيئة التحرير. تقول أمينة النقاش: "أعتقد أن الأزمة لم تمر بسلام بالنسبة لها، بل عمقت من إحساس أروى بالاضطهاد، وقدمتْ لها زاداً جديداً للعزلة التي فرضتها على نفسها، وفرضها عليها في الوقت نفسه، ما وصفته "بالحصار الفاشستي للمرأة العزباء" وهو الوضع الذي غدت هي نفسها عليه!"
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها