الجمعة 2022/02/04

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

محاولة في الدم

الجمعة 2022/02/04
محاولة في الدم
لوحة للفنان السويدي كيم جاكوبسون
increase حجم الخط decrease
لفتتني منذ مدة غير قصيرة نسبيًا، مقاربة للكاتب عبد الصمد ديالمي، تعتبر أن الحداثة لم تُعلمِن السياسة فقط، بل علمَنَت الدم أيضًا. يومها، لم يكن الكلام جديدًا على مسمعي بالتمام والكمال، إلا أنه أتى في سياق استرعى انتباهي وتفكيري فتوقفت عنده، بشكل من الأشكال، ﻷنه أضاء على ملاحظة غير بسيطة. بل أشار إلى أمر تأسيسي، أكثر قاعدية من غيره لناحية بداية مشروع حركة تحرر المرأة، نصف المجتمع، والرحلة الشاقة في طريق تحقيق هذه الغاية.

أتى الكلام في تلك الأوراق، في سياق يرى أن الحداثة، بدايةً من عصر النهضة، لم تُعلمِن السياسة والمجتمع بشكل حصري، بل هذه كانت نتيجة من نتائج علمَنتها لما هو أقرب بكثير إلى الإنسان في حياته اليومية. أي أن الحداثة كانت قد علمنت ما يتطابق الإنسان معه، الجسد عمومًا، وعلمنت، فوق هذا وذاك، ما يحويه الجسد من سوائل، ومن دم على وجه الخصوص.

في تلك الحقبة، صاح الدم الأنثوي: أنا الدم، سائل مثل بقية سوائل الجسد، مثل البول واللعاب والمني والغائط، مثل عصارات المرارة. إنني مجرد سائل ينبض في الشرايين والأحشاء، في تفاصيل الجسد. أنا الدم لا علاقة لي بأي مقدس، لا علاقة لي بأي "نورم" اجتماعي آخر، لا علاقة لي بأي مكانة اجتماعية، ولا علاقة لرجال القبيلة بسَيَلاني. أنا الدم خارج معادلات الأخلاق، خارج مقولات الشرف، وليس هناك أي قرابة مفاهيمية أو وجودية تجمعني بمفاهيم الطهارة والنقاء، لا في فترات الحيض ولا في فترات الولادة والنَّفاس، لا في سنين المراهقة ولا في الكهولة.

أنا الدم سائل سيّال مجرد، له لون ورائحة، له ملمس، له كثافة ودرجة لزاجة. يمكن دراستي فيزيائيًا، ودراسة تركيبي كيميائيًا من دون الحاجة إلى أي كتاب ديني أو نص مقدس. من دون الحاجة إلى احتكار التفسير مؤسساتيًا. لا يمكن تأويلي بفتوى ولا بموعظة دينية. أنا شرط من شروط الحياة، جزء من هذا الجسد الذي يربط الإنسان بالعالم الوحيد الممكن، العالم الوحيد القائم، العالم الأرضي الذي يؤكد على إنسانية الإنسان. أنا الدم جزء مما يعلن، بشكل مطلق ونهائي، أن كل ما له علاقة بي ستظهر عليه، بأي شكل من الأشكال، علامات الحياة والدفء، إذ لا علاقة لي بأي سحر أو شعوذة. لا علاقة لي بأي رمز سماوي أو أرضي. أنا أجسد العلامة على هشاشة الإنسان، أؤكد على أن الإنسان مجرد إنسان.

اللافت في الأمر أكثر، هو كيفية خدمة آلية التقديس بالمطلق، والدم على وجه الخصوص، لكل ما يعيق تحول المرأة إلى إنسان عادي، كائن اجتماعي، يومي، أرضي، له حاجيات تتخطى المأكل والملبس، تتخطى الجنس في علاقة زوجية مقدسة مسقطة ومعلبّة لتكون مجرد أداة لاستمرار الحياة. فللدم أبعاد تتخطى أداتية النساء للرجال وغرائزهم. وتتخطى، فوق هذا وتلك، كل تجربة جسدية للنساء تحسم الأمر لناحية أنهن بشرًا، كائنات لهن حقوق وعليهن واجبات، كما الرجال النصف الآخر من المجتمع.

كان هذا التحرير سيصب، وبشكل حتمي، في خدمة تطويق هذه السيادة والسلطة التاريخية المطلقة لنا نحن معشر الرجال. وكان سيستدعي ظهور نوع حقوقي جديد سيزيد كمية المنافسة، وشدتها، على السلطة والتسيّد، على سوق العمل، في الوظيفة، والمنافسة في المعرفة والاكتشافات والعلم والأدب، وفي صنع القرار. كان التحرير يهدف إلى إطلاق المنافسة في الرغبة واللذة والشغف والرعشة، يهدف إلى استكمال العلاقة بين أجساد لا تكون فيها إحداهن مجرد موضوع رغبة وشهوة جسد آخر. باتت الشهوة متبادلة، متوزعة، منثورة على الجميع بأشكال متساوية. باتت النساء، وجسدهن من خلفهن، ذاتًا وموضوعًا في آن، تُرغَبن بالقدر ذاته الذي تَرغَبن فيه.

هذا أيضًا ما دفع رحلة التعددية الاجتماعية قدمًا إلى الأمام بشكل من الأشكال. كسر تابو المجتمع، وكسر طبيعة علاقات القوة والهشاشة المرتبطة فيها وبها، المرتبطة بالأغشية. أن يبدأ نوع جديد في رحلة كسر امتياز الحقوق المرتبطة حصرًا بالرجل. الرجل الذي يحتكر الحرية على الرغم من خوفه من الدم المسال خارج الحرب والقتال والموت، بل الدم الذي يسيل في تفاصيل الحياة اليومية للنساء.

لقد كانت الرحلة تمعن في أن تنتزع النساء الحق بالتعبير عن رأيهن، عن تطلعاتهن، عن بداية فرض مطالبهن الحياتية اليومية على أي ممارسة اجتماعية وسياسية حالية أو مستقبلية. أن يتم الاعتراف بمشاكلهن، وباحتياجاتهن، على لسانهن. أن يتم تأكيد على أن نوعًا جديدًا سيعلن أنهن لسن مجرد سلب، لسن مجرد ملحق بأصل، علامة وإشارة على تكثيف هوية مصنوعة سلفًا، كينونةً لا تتمتع بكافة امتيازات الحق الحصري للخطيئة كي تُسجن خلف سور الشرف وكافة المفاهيم الذكورية الفصيحة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها