الجمعة 2022/12/30

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

بيليه البدايات... مات بعض "الفوتبول" وبقيت كرة القدم

الجمعة 2022/12/30
increase حجم الخط decrease

 

لطالما كانت المعادلة على هذا النحو. أنت تقرأ بشكل صحيح، والكاتب يكتب بشكل مقصود. مات بيليه البارحة، الكون بأكمله سمع الخبر. إنه من الاخبار التي لا يمكن التعتيم عليها. بعض الناس شعروا بالحزن، وبعضهم الآخر لم يعنِ له أمر رحيل الجوهرة السوداء أي شيء. لم يدرك بعضهم أن من مات هو جزء لا يتجزأ من عالم "الفوتبول"، وأن من بقي هو الكثير من كرة القدم. لقد مات بعضٌ من روح الطابة المستديرة كلعبة شعبية، كأصل قبل أن تبدأ اللعبة بالتحول، وفي كثير من الأحيان، إلى عالم البزنس والأرباح والياقات البيضاء والأكمام المزرّرة. قبل أن تتحول اللعبة إلى مخادع المراهنة والفوز والخسارة، وإلى أول ما يخطر لنا في عالم اليوم: الأرقام الفلكية لفوز الأندية بالتعاقد مع بعض اللاعبين.

لم أشاهد في حياتي مباراة واحدة لبيليه. لربما مرت أمامي بعض اللقطات التي لم يخطر في بالي، في أي يوم من الأيام، أن أبحث عنها بشكل مقصود. أي أنني لم أبحث عن لقطة لبيليه وهو يلعب ويسجّل، ولم يكن عندي هذا الهمّ، ولا هذه الرغبة. لاعب مثل بقية اللاعبين، يقولون إنه كان مراوغًا وماكرًا في أدائه. يقولون إن له سجلاً حافلاً من الانتصارات والميداليات والكؤوس والاهداف. هذا بأكمله لم يكن يعنيني. إلا أن الفارق اليوم هو أن الموت يغير الكثير من المعادلات. كأن تتعود على وجود شيء ما، وبعد مرور الزمن تتوقف عن ملاحظته إلا في لحظة غيابه عن المشهد.

لقد كان فراقًا متوقعًا في حالة شخص مريض. نهاية طبيعية لمطلق إنسان لمجرد كونه إنسانًا. إلا أنه رحيل للعبة في شخص، موت لأصل من الأصول، رحيل مدماك من مداميك المستديرة. بيليه يتموضع هنا بالتحديد، خارج أي تصنيف. هو التنصيف ذاته إن كان لنا أن نقول أي شيء في هذا الشخص، أو أن ننصفه بالوصف. هو معيار، ودرب، ورحلة، وعنوان، قبل أن يكون لاعبًا.

أن تنظر إلى بيليه فلا ترى إلا طابة مصمّمة بلمسات فنية وألوان مختلفة، هي الألوان والتصاميم التي أتت عليها كل الطابات التي أُنتِجت خلال تاريخ اللعبة. جسده ملعب ممتد، فيه من مساحات العشب الأخضر الفاتح، وفيه أمكنة مخصصة للركلات الركنية، ومواضع مخصصة لركلات الجزاء، ونقطة الوسط حيث تدوي صفارة الحكّام فتعلن بداية لعبة. وفوق هذه وتلك، وهنا بيت القصيد، بيليه يتموضع في المدرّجات، في الكثير من الهتافات والتشجيع، هناك حيث تركن روح كرة القدم في الناس، في العامة. وفي أيامه، كما يتبادر إلى ذهني ولا أهتم إن كنتُ مخطئًا، في حلم الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية...

وللتوضيح أكثر، لا أكتب هذه السطور ولا أنظر في اللعبة واللاعب من وجهة نظر شخص محترف، ولا أفكّر فيها كهاوٍ، ولا أكتب بنفس المؤرّخ للعبة استرعت انتباهي فترة زمنية محدّدة. لكن وطأة رحيل البعض تتخطى كل لعبة وأي احتراف. تفرض نفسها على الجميع. إنها ليست مجرد حادثة تلاشي مَعلَمٍ ما، وهو ليس نصب أو تمثال يركن فيتحدى شروط الزمان والمكان وعوامل التعرية. بيليه، فوق هذه وتلك، عملاق وقف على أكتافه الكثير من اللاعبين العظام الذي أتوا بعده. وقفوا وإن لم يقفوا. تمامًا كما وقف علماء الفيزياء والكونيات العظام على أكتاف من سبقوهم، لمجرد أن سبقوهم، بمعزل عن نجاح اختباراتهم بالمباشر. فهم نجحوا بشكل غير مباشر، نجحوا عندما وضعوا اللاحقين على سكة تفادي خطأ وهزيمة ما.

بيليه ليس مجرد لاعب، إنه من الأوائل والبدايات، من الجذور والأصول. والأصل بحوزته أسبقية في الزمان، تصوّر مسبق لكل ما سيليه قبل أن يتصادم مع شروط الواقع وأقدام اللاعبين الأخصام. هو بداية، بداية البدايات التي نشعر بالحنين الدائم نحوها في مطلق علاقة، خصوصًا البداية في علاقة حب أولى نحاول البحث عنها في كل العلاقات.

بعد أن سمعت خبر موته، خطرت في بالي أغنية كفيلة بأن توضّح كل الصورة التي تسللت إلى مخيلتي.

تذكرت أغنية "What a Wonderful World" رائعة لويس ارمسترونغ التي اختصرت القرن المنصرم بأكمله، والتي تترافق في ذاكرتي، ودون أي سبب واضح، مع نيل ارمسترونغ في أول رحلة إلى سطح القمر. أغنية كتبت معها وفيها: "إهداء إلى بيليه: ما بعرف تداعي الأفكار الي خلاها كغنية تخطر ببالي، يمكن لون البشرة، يمكن الشبه بالوجوه، يمكن الوجود بنفس الزمن، ويمكن الفرح الكوني الي بيتسلل أحيانًا من دون ما نشعر وبيتظهّر بطابة بتدخل شباك. بيليه، ومارادونا، وكتار غيرهم ماتوا أو بعدهم عايشين: العالم يستحق أن نعيشه".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها