الأحد 2022/02/13

آخر تحديث: 09:10 (بيروت)

"زقاق الكوابيس" لغييرمو ديل تورو..تمرين رائع في الأسلوب

الأحد 2022/02/13
increase حجم الخط decrease
منذ الإعلان عن مشروعه لإعادة تقديم فيلم "زقاق الكوابيس" (*)، حرص المخرج غييرمو ديل تورو على التكرار في العديد من المقابلات أن فيلمه لن يكون نسخة طبق الأصل من فيلم إدموند غولدينغ الكلاسيكي، من العام 1947، وإنما أفلمة جديدة لرواية "زقاق الكوابيس" لويليام ليندسي غريشام. في حكايتها حول عالم السيرك والتنجيم الدائرة أحداثها في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وجد المخرج المكسيكي ضالته السينيفيللية، هو المُغرَى دوماً بالتحايا والمعارضات والاستنساخات السينمائية، مثلما كان الحال في فيلمه الأوسكاري الأخير "شكل الماء" (2017).

ما كان فانتازياً وتحت الماء في فيلم الأوسكار، يصعد هنا إلى الأرض تحت الأضواء الخلفية لأفلام النوار القديمة وأساطير صعود وسقوط الأنبياء الزائفين ودجّالي الكرنفالات. يحدّث ديل تورو هذه الحكاية الأخلاقية، بلا أن يغادر زمن أحداثها الأصلي، كاشفاً عن عالم خيالي مُعاد إنشاؤه بتفاصيل مثل تلك التي فتنته في شبابه وطبعت خياله السينمائي. نسخة ديل تورو من"زقاق الكوابيس" ليست أقل من مصاغ ذهبي تنزلق فيها الروح عبر لفائف مزخرفة ومبهرجة.

القصة أكثر إخلاصاً للرواية من نسخة غولدينغ، التي قطعت ماضي الشاب ستانتون كارلايل لتبدأ حكايتها بحضوره إلى السيرك كمدير حلبة في عرض/فقرة لقراءة الطالع. يستعيد ديل تورو - وشريكه السيناريست كيم مورغان - ذكريات الرجل المشؤومة، المطبوعة بذنبٍ ونارٍ وماضٍ مضطربٍ، ليقدّما ستان (برادلي كوبر) حال وصوله إلى بلدة صغيرة، تغريه أضواء السيرك، ويناله فزع من فقرة الرجل الوحشي الذي يلتهم دجاجة حيّة. قراره بالبقاء هناك ليس فقط هروباً من أشباحه، بل فرصة لاكتشاف موهبته، وهو شيء يعتقد أنه يمتلكه ويملكه. لكن لقاءه مع زينة (توني كوليت) وبول (ديفيد ستراتاهيرن) - وهما ممثلا فودفيل قديمان تحولت رابطتهما إلى زواج متصدّع بسبب الكحول والخيانة - سيؤدي إلى اكتشاف يغيّر حياته: شفرة سرّية لتقديم عرض ترفيهي جاذب قوامه الاستبصار والمخادعة والتعاون الفائق مع شريك مثالي، وهو ما سيجده بالفعل في زميلته الشابة مولي (روني مارا)، ليحوز بذلك الحبّ والشهرة والمال.

كما الحال في فيلمه السابق "شكل الماء"، ينشر ديل تورو نزعة إعجابه النهمة في كل مشهد تقريباً، وبالتالي يخالط كل شيء في الفيلم جشع جامع تحف أو باحث عن الآثار: الوحوش المأساوية الموروثة من الفيلم القديم؛ ال"فام فاتال" femme fatale الغادرة التي لعبت دورها كيت بلانشيت كصَدَى لجميع ممثلات النوار (فيرونيكا ليك، خصوصاً، في البال)؛ شخصية الملياردير التي لعبها ريتشارد جينكينز، وريث طموح جون هيوستن، والذي سيلعبه هيوستن نفسه لاحقاً في فيلم "الحي الصيني" (1974، رومان بولانسكي)؛ ملابس توني كوليت المستعارة من مارلين ديتريش في فيلم "لمسة من الشرّ" (1958، أورسون ويلز).


يتشكّل كل شيء في تكوين سينمائي تصويري يضع الميزانسين في خدمة تخصيصات وأغراض متزامنة، والتي تشتمل، أحياناً، براعم دراما تخصّها وحدها، في استمرار لنهج المُعجب السينيفيلي الحريص على إبهار معلّميه. القسوة الإنسانية، سواء في بؤس وتراجيديا عروض السيرك أو الحاضرة في بكاءٍ داخل صالونات المدينة الفخمة، تظهر كعلامة حشوية في أفعال كل من الضحايا والجناة (الأم المكلومة التي لعبت دور ماري ستينبرغن، و صاحب السيرك السادي عديم الرحمة ويليم دافو).

"زقاق الكوابيس" الجديد أبعد ما يكون عن التناغم الذي ميّز نسخة غولدينغ القديمة، التي جرّت نجماً مثل تايرون باور إلى تقديم أداء وحشي ومكرَّس، إلى فيلم درجة ثانية منخفض الموازنة، إلى أهواء رجل محتال لا يملك صدمة قديمة لتبرير طموحه الجشع. على العكس من ذلك، يصنع ديل تورو فيلماً فخماً وأنيقاً وسخياً، محتشد بنجوم وألوان باهتة مصطنعة وأثاث "آرت ديكو" وسجّاد لا تشوبه شائبة، والكثير من الشرح والتفسير. كان جوهر فيلم النوار دائماً هو فضح قسوة عالم ما بعد الحرب، بجماليات قاتمة ومؤلمة، لتشريب مفترقات الطرق تلك، من الطموح والفشل والحسابات الوحشية للطبيعة البشرية، بهواء غير قابل للتنفس وأخلاق مهترئة. لا يحتوي "زقاق الكوابيس" الكثير من تلك الخلفية، لأن السطح المثالي هو حَدّه المختار.

يستحيل الأبيض والأسود من النسخة القديمة لوحةً من الألوان القوية (هناك نسخة خاصة بالأبيض والأسود لكنها لن تصل إلى منطقتنا غالباً)، وهذه أولى الصعوبات التي يُبدأ منها إعادة تقديم عالم فيلم النوار، والذي من المستحيل إعادة إنتاجه في الوقت الحاضر إن لم يكن من خلال الحيلة والخداع البصري. بالنسبة إلى ديل تورو، فلا شيء صعباً عليه، هو صاحب الخيال المرئي، المرتبط بأنواع شعبية مثل الخيال العلمي والرعب والفنتازيا، والمعتمد دوماً على تصميمات الإنتاج المحكمة ومواقع التصوير المصنوعة بالكامل (إشادة واجبة بمصممة الإنتاج تمارا ديفيريل، التي يعد هذا أول فيلم روائي طويل رئيسي بالنسبة لها، ومصمم الأزياء لويس سيكويرا). فيلمه الجديد ليس استثناءً، رغم مغادرته عالم الفنتازيا، وتلك الدقة في إخراج السيناريو هي أعظم فضائله وعدوه الرئيسي في آن: في أكثر من مناسبة، تبدو القصة واعية بذاتها أكثر من اللازم، مفرطة في حساباتها، لا سيما أثناء المشاهد بين كارلايل والطبيبة/عالمة النفس ليليت ريتر. لكن القصة في الغالب جذّابة، وسيستمتع المشاهدون الذين لا يعرفون الكتاب أو الفيلم الأصلي بالرحلة أكثر.

القصة، المقسمة إلى جزأين مختلفين في النبرة والخلفية، تلتقط ستان خارج الأحياء الفقيرة، ثم في مركز الحياة الليلية في المدن الكبرى، محتفى به باعتباره قارئ أفكار عظيم، وترافقه دائماً مولي التي طالت معاناتها، أخلاقياً ونفسياً. بدخول المعالجة النفسية، يكتمل أضلاع الثالوث الدرامي الكلاسيكي، ومع تقدُّم الأحداث تكتمل صورة البطل كبطل مضاد، مع ازدياد طموحه كماً ونوعاً: إرضاء الإيغو وتحصيل الدولار وإخماد الهواجس. يتجاوز ستان حدوده، مدفوعاً بطموحه وإيمانه بقدرته على مخادعة وقراءة مشاعر أولئك الطالبين مساعدته في استحضار ما لا يعود أبداً. وُلد هذا السؤال في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، وفهمه غريشام جيداً، بعد عِقد من الزمن وصل فيه قادة كاريزميون إلى السلطة عبر ترجمتهم الرغبات العميقة للجماهير الغفيرة الباحثة عن مخلّص. لكن تلك القراءة السياسية التي وسّعت نطاق القوة الأدبية لنصّ غريشام، والتي دفعته إلى فضح العديد من الدجّالين خارج السيرك، تغدو خفيفة في عمل ديل تورو، التمرين الأسلوبي البارع والمبهر الذي يرنو جمع كل إعجابٍ محتمل. لذلك ليس من المستغرب، ترشُّح الفيلم لأربعة جوائز أوسكار (أفضل فيلم، تصوير، تصميم إنتاج، أزياء).

على عكس "زقاق الكوابيس" الأصلي، والذي كان عليه، بسبب مسائل رقابية، أن يخلق نهاية أخلاقية مفعمة بالأمل، تأتي نسخة ديل تورو كنزهة عبر جحيم العقل والجسد، نزول بطيء وقاس مُبتلى بأكاذيب وخدعٍ تمهّد لسقوط أخير وهائل، توجزه العبارة الكاشفة "ولدت لأكون كذلك"، التي تختم الرواية ونسخة الفيلم الجديدة .

 

(*) يُعرض حالياً في الصالات.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها