الأحد 2022/12/18

آخر تحديث: 09:28 (بيروت)

"مثلث حزن" لروبن أوستلند..الوضوح القاتل ضد الرأسمالية وحياة الأوليغارشيين

الأحد 2022/12/18
increase حجم الخط decrease

 

"لا يمكن تحقيق المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة إلا في إطار عملية التحوّل الاشتراكي للمجتمع بأسره." - ماو تسي تونغ

 

في دورة مهرجان كانّ السينمائي لهذا العام، حصد السينمائي السويدي روبن أوستلند (1974) بفيلمه الأخير "مثلث حزن"(*) جائزة السعفة الذهبية للمرة الثانية في مسيرته، في مفاجأة لم يتوقّعها أحد مسبقاً. لكن حين النظر للأمر بقليل من التمعّن، يتناسب تتويج الفيلم (الهجائي والواضح جداً في هذا الصدد) مع مسارٍ احتفائي رافق أبرز الإنتاجات الإسكندنافية في عروضها المهرجانية كما في شباك التذاكر، في السنوات الأخيرة.

لنفكّر، على سبيل المثال، لا الحصر، في "المربّع" لأوستلند نفسه، أو "جولة أخرى" للدنماركي توماس فنتربيرغ ، أو "أسوأ شخص في العالم" للنرويجي يواكيم ترير؛ ومن ثمّ، بالطبع، لنفكّر في عالمنا الراهن المطبوع بشيوع النقد المتشابه في خلاصاته (وإن بدأ من منطلقات مختلفة ومتنافرة أحياناً)، لذلك فهذا النوع من النقد الأساسي/السطحي موضع ترحيب دائماً لأنه، ببساطة، يشعرنا بقليل من التحسّن والرضا عن أنفسنا.

وهذا هو المكان الذي يحرز فيه فيلم روبن أوستلند الجديد أعلى النتائج، بتقديمه نقداً أساسياً لظروفنا الحالية، واحتدامه ضد الرأسمالية ككلّ، واستهدافه على وجه الخصوص السطح الخرساني لعالم الموضة والأزياء، وحياة اليخوت المليئة بأوليغارشيين وأثرياء آخرين معدومي الشعور والإحساس، وموضعة أحداثه في سيناريو تقليدي حول مجموعة منتقاة من البشر في جزيرة نائية مقطوعة لإظهار ما أشار إليه سيغموند فرويد قبل وقت طويل في دراسة تعود للعام 1915، وويليام غولدينغ في روايته "إله الذباب"، وما فعله بونغ جون-هو تقريباً في فيلمه "طفيلي" قبل ثلاث سنوات: "تيتانيك" تغرق بالفعل، وزخرف الحضارة رقيق وناحل، والسلطة/القوة فاسدة، والفقراء، بالطبع، ليسوا أفضل من يتولّى زمام الأمور.

لكن أوستلند يجمع هذه الأفكار والخواطر والسيناريوهات في صورة مرحة وصاخبة، ويجهّزها بشكل أنيق ولامع بحيث يبدو كل شيء في هذه الكوميديا-التراجيدية الساخرة جديداً ومعاصراً، كما يلحّ مراراً وتكراراً على تقديم "نزوات راديكالية" لتوضيح ما هو واضح بالفعل، كما، على سبيل المثال، في مشهد القرد في فيلم "المربع". نزوة "مثلث حزن" الراديكالية هي مشهد القيء والبراز المطوّل بشكل جذري، في الفصل الثاني من الفيلم، حيث تلعب الممثلة سوني ميليس ببراعة ما يحاول أوستلند إخبارنا به هنا. والشخصية التي تؤدّيها الممثلة السويسرية كانت ستكفي في حدّ ذاتها لبيان وجهة نظر المخرج، وربما تتباين بشأنها آراء المتفرجين، كإيماءة مرحة أو كتهريج مثير للاشمئزاز، اعتماداً على ذوق المتفرج وتاريخه النفسي والاجتماعي.


إلا أن أوستلند لا يرضى بديلاً عن إفاضة الشاشة بمزيج البطون المستفرغة، مزخرفاً هذه "الفورة" البرازية بشلالات لفظية مماثلة عن الرأسمالية يلقيها قبطان اليخت الأميركي الماركسي توماس سميث (وودي هارلسون) ورفيق شُربه الأوليغارشي الروسي المناهض للشيوعية ديميتري (زلاتكو بوريتش)، وهي مشاهد ممتعة بالفعل بسبب تمكّن هارلسون وبوريتش من تجسيد التسامي الفاحش المتغطرس والقوة الغاشمة اللطيفة، على الترتيب، لكن بعد ذلك تخفت الموجة تماماً مسيَّجة بإطار المعروف والمعلوم بالضرورة، ليصير الوقت المتبقي من الفيلم (الممتد لساعتين وثلث الساعة) ممطوطاً ومتوقعاً.

لا يختلف الأمر كثيراً عن نقد أوستلند للعلاقات القائمة بين الجنسين، حيث تُعرض أيضاً في مشاهد مطوّلة يفسد تأثيرها بإهدار الوقت في تظهير ديناميكياتها.

هناك، على سبيل المثال، ذلك المشهد الافتتاحي في المطعم، على طاولة الثنائي النموذجي كارل (هاريس ديكنسون) ويايا (شارلبي دين كريك)، عارضي الأزياء اللذين يستكشفان حدود علاقتهما؛ والمستند إلى تجربة شخصية لأوستلند، كما قال في مقابلة صحافية: "لم أكن مع سينا [شريكته] لفترة طويلة وقتذاك، وكنّا في مدينة كانّ، وأردت إبهارها، وخرجنا لتناول عشاء فاخر، ودفعت الحساب، بالطبع. كان الأمر كذلك في الليلة الأولى، والثانية، وحتى الثالثة. ثم فكّرت: انتظر لحظة، ثمة خطأ ما هنا. أحبُّ طريقتها كثيراً في إيقاعنا في تلك الأدوار النمطية." وبقدر عادية ما يقوله أوستلند في المقابلة، تخيَّلَ المشهد أيضاً، إلا إنه يمثّله على الشاشة بحسٍّ نسبوي-ما بعد حداثي للحقيقة، مختصراً أمسياته الثلاث إلى أمسية واحدة بين بطلي فيلمه، ما يعطي هذا المشهد طابعاً متكرراً دون داعٍ وبلا أي قيمة مضافة درامية. يتشابه الوضع في مشاهد الجزيرة (الفصل الثالث من الفيلم) بعد أن ينعكس ميزان القوى بين الناجين: هنا أيضاً، لا يثق أوستلند في روايته الأوليّة للبنى الأساسية؛ هنا، أيضاً، يجب أن تحدث الأمور أكثر من مرة، وأن تُعاد التلميحات والإيماءات والرمزيات.

يؤدي هذا في النهاية إلى نفي التعقيد والالتباس عمّا يُفترض غامضاً وقابلاً للتأويل، الأمر الذي لا يفيد "مثلث حزن" بأي شكل، فالفيلم يظلّ ينبح حتى نهايته، من دون أن يعضّ قطّ (على عكس، مثلاً، "طفيلي"، الفائز مثله بالسعفة الذهبية، الذي فعلها أكثر من مرة بطريقة لاذعة ومؤثرة).

هناك سبب آخر لذلك التواضع الذي ينتهي إليه الفيلم المتوّج مؤخراً بـ6 جوائز من جوائز الفيلم الأوروبي لهذا العام. فعلى عكس فيلميه الأخيرين، "قوة قاهرة" و"المربّع"، حيث استطاع أوستلند إخفاء الإطار النظري لنقده وراء سردية مكثّفة عن أشخاص يعانون في خضم تحوّلهم/انسلاخهم، وهي عملية، في حالة أوستلند، دائماً ما يسبقها تغيُّر جوهري ضمن إطار مجموعة بشرية تعيش أزمة، وبالتالي تؤثّر فينا (كمشاهدين) بالفعل؛ أما هنا فلم نعد نتعامل مع بشر حقيقيين/ شخصيات حقيقية ومآسيهم الوجودية، بل مع عناصر نائبة للعديد من التركيبات النظرية في وقتٍ واحد، ووفقاً لهذا الترتيب تلعب ضد بعضها البعض. تستحيل الشخصيات حوامل أفكار، فيتحوّل السيناريو وأحداثه لعبة رمزية سخيفة عن النفاق البشري والصراع الطبقي والعلاقات الإنسانية والمعايير المقلوبة.

هذا النهج الدوغمائي المتأصّل كافٍ على الأقل للإضحاك والإدهاش وإشعار المتفرّج (الغربي غالباً) بقدرته على إدراك البنية الأساسية للبؤس الغربي وأيضاً لفهم نفسه بشكل أفضل قليلاً، بلا أن يوجّه دعوة عاجلة للعمل فوراً، كما كان معتاداً في زمن ماو صاحب الاقتباس الافتتاحي لهذا المقال. وهذا مهمٌّ، على الرغم من أن أوستلند لا يخبرنا حقاً بأي شيء جديد هنا، لأن انحرافات حضارتنا (أو الحضارة الغربية تحديداً) لا تُقدَّم بشكل وافٍ أو مبتكر. وبالنسبة لفيلم متوّج بجوائز كثيرة ومرموقة، هذا سقف منخفض جداً.


(*) عُرض الفيلم مؤخراً في بيروت ضمن فعاليات الدورة السادسة منمهرجان مسكون" لسينما الرعب والفانتازيا والخيال العلمي.

يُعرض حالياً في سينما "زاوية" في القاهرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها