الثلاثاء 2022/11/29

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

الفنانون وكرة القدم... ماغريت، دينيكا، روسّو، بوتشيوني ودي ستيل

الثلاثاء 2022/11/29
increase حجم الخط decrease
هل تكون كرة القدم أفيون الشعوب؟ تصلح العبارة موضوعاً لبحث دراسي أو إجتماعي. منتقدة، محبوبة، تثير الإعجاب، مكروهة، مدعومة، محتقرة... على أية حال، بإمكان هذه الكرة أن تحرّك ملايين البشر وتجمعهم، أو تفرّقهم. قال لي أحد الأصدقاء: "أنا لا أحب هذه الرياضة التي لا تجعلني أهتز على الإطلاق، أعتقد أنني إذا قابلت ليونيل ميسي، أو رونالدو، في الشارع، فلن أتعرف عليهما... أتساءل من أين أعرف هذا الأسماء". الناس أذواق، كما يُقال، إلا أن الملايين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر الصفارة الأولى في الملعب الخلاّب بمدينة الدوحة، عند افتتاح البطولة الحالية.

لست، شخصياً، من المولعين بشدّة بهذه اللعبة، لكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن مشاهدة بعض الماتشات، حين تشارك فيها فرق عظيمة الشأن، على أن الأعمال الفنية ذات العلاقة بكرة القدم وبلاعبيها تثير إعجابي أكثر من اللعبة نفسها، كما أثارت إعجاب فنانين تشكيليين على مر الزمن.



ألغاز هنري روسّو
الفنان الفرنسي هنري روسّو، المسمّى Le Douanier (1844- 1910)، أي ما معناه ضابط الجمارك، إذ كان موظفاً بمصلحة الجمارك، تعلّم الرسم بنفسه من دون معلّم، ليصبح بعدها الممثل الأشهر للفن الساذج Naif. الفنّان الذي تعرّض للسخرية، بالنظر إلى أسلوبه الفطري، وعانى الإزدراء، كان أول من رسم طائرة، وأول من استحضر برج إيفل في رسومه، كما كان أول من رسم "لاعبي كرة القدم" (1908)، اللوحة التي صارت من أشهر نتاج الفن الكلاسيكي المكرّس لهذه اللعبة. لاعبو كرة القدم، العام 1908، قد تفاجىء رؤيتهم لاعبي اليوم، ولو أرادوا تقليدهم لعمدوا إلى قصّات شعر غريبة، وشوارب شمعيّة، وشعر لامع، وقمصان مخططة أيضاً.

يستحضر عمل روسّو منظراً طبيعياً يتضمّن أشجاراً غنية بألوانها، ويشكّل هذا المنظر الخلفية والمحيط، والدرب المحاط بالشجر للشخصيات الأربع. رجال أربعة بأثواب مخططة جميعهم من أصحارب الشوارب يلعبون الكرة. اعتبرت اللوحة العمل الوحيد التي حاول فيه روسّو تمثيل الأجسام المتحرّكة، وهو الذي عُرف بشخصياته الجامدة، ما يُعتبر استثناء في العالم الخيالي لضابط الجمارك. أربعة رجال "يتصارعون" من أجل الإستحواذ على الكرة، في وقت يُخيّل للرائي أنهم في صدد مزاولة الرقص. لكن، إذا كان هؤلاء السادة من لاعبي كرة القدم، فلماذا يلعبون الكرة بأيديهم، كما تفيدنا رؤية اللوحة؟ يبدو أن هذا الأمر هو أحد الألغاز المحيطة بهذا العمل، مما يثير، أيضاً، العديد من الأسئلة الأخرى: ما الذي تفعله الشخصيّة التي إلى اليسار، التي تبدو وكأنها في صدد توجيه لكمة للقامة المركزية؟ لماذا ليس هناك سوى لاعبين في كل فريق بدلاً من أحد عشر؟ وأخيراً، أين يقع المرمى؟

هذه اللوحة، التي يبلغ إرتفاعها متراً واحداً، وعرضها 80 سنتمتراً، موجودة اليوم في متحف غوغنهايم بمدينة نيويورك. وفي العام 1982، استخدمت جزئياً من قبل التشيكي جيري كولاش، من أجل تصميم الملصق المكرّس لكأس العالم في العام المذكور، الذي حدثت مجرياته في إسبانيا في ذلك الحين.



دينامية بوتشيوني
بعد خمس سنوات على لوحة روسّو، وفي العام 1913، رسم أومبرتو بوتشيوني، وبأسلوب مختلف تمامًا، Dinamismo di un Footballer (دينامية لاعب كرة). كان المستقبليون الإيطاليون Futuristes، الذي ينتمي بوتشيوني إلى صفوفهم، من المدافعين الشرسين عن الحداثة، فقد كرهوا الكلاسيكية، و"تقيأوا" الموناليزا بشكل خاص، كما بحثوا عن موضوعات جديدة. ويبدو أن الرياضة كانت وفرت لهم ما يسعون إليه، لكنهم لم يعمدوا حينها إلى إظهار اللاعب، بل ديناميكية حركته، وإيماءاته، ما يشبه، إلى حد ما، ما أنتجته صناعة الصور المتحرّكة، التي يشار فيها إلى حركة الشخصيات من طريق مضاعفة خط الساق الواحدة، بحسب أوضاع مختلفة في الفضاء. وإذ تحدد الصورة، لدى الفنان، ربلة اللاعب وركبته في وسط اللوحة، لكن الخطوط والأشكال المجرّدة المنتشرة حوله تجعل من الصعب تحديد هويته. هكذا، يجرّد بوتشيوني اللاعب من خصائصه المادية، ويقول في هذا المجال: "رسم كائن بشري لا يعني أن تمثله، بل أن تستحضر محيطه، فالحركة والدينامية يدمران مادية الجسم". وللمناسبة ينبغي القول إن حركة المدن وضجيجها كانت من العوامل التي فتنت المستقبليين، ففي عمل بوتشيوني تختلط الأشكال السميكة بالشفافة، وتتداخل مع بعضها البعض، ما يخلق إنطباعاً بأن إشعاعات الشمس تضيء الموضوع. لقد كان الفنان يتحدّى الهدوء، ويمجّد الحركة، كما فعل المستقبليون على طول الخط، في تحدٍ واضح لبعض أساليب التصوير التقليدية.



الجسد الإشتراكي - دينيكا
يُعتبر ألكسندر دينيكا (1899- 1969) واحداً من كبار الفنانين السوفيات، ومن أكثرهم شهرة في تاريخ "الواقعية الإشتراكية". كان الفنان ناشطاً ثورياً، وعُرف، على الصعيد الفني، بفسيفسائه التي تزيّن محطة مترو ماياكوفسكايا في موسكو (1938). تجنّد في الجيش الأحمر، ومارس نشاطاً دعائياً من خلال تمجيد الجسد في سياق إشتراكي، كما زيّن قطارات الدعاية السوفياتية، وشارك في الدفاع عن مدينة كورسك ضد الجيش الأبيض.

وإذا كان العديد من نتاج "الشمولية السوفياتية" قد دخل طي النسيان، نظراً للجدال الحاصل حول موقعه الفني، فإن دينيكا أُخرج من الخزائن بعدما اتّفق الجميع على موهبته، وعلى قيمة أعماله الفنية، وهو الرسام الفذ الذي إستطاع عكس أفضل تقاليد المدرسة الروسية. وبما أن الرياضة كانت تتمتع بمكانة بارزة من ضمن أساليب الدعاية السوفياتية، فقد سعى دينيكا، وفنانون آخرون أيضاً، إلى رسم الرياضيين في أجواء تنافسية تطغى عليها القوة والرجولة، وتبان فيها أجساد اللاعبين المثالية من ذوي العضلات البارزة. وبطبيعة الحال، كان لكرة القدم نصيبها الوافر في هذا المجال، ففي لوحة له تعود إلى العام 1924، سنرى هؤلاء الشباب، الذين ذكرنا صفاتهم، وهم يتنافسون على الكرة في جو رجولي وأخوي في الوقت نفسه، وكأن الفنان شاء أن يمثل السعادة المثالية على هذه الأرض.

وهو، في أعماله تلك، "يستورد" المفهوم الغرافيكي للشكل، ويعتمد التعبير الديناميكي الذي اقترنت به عشرينيات القرن الماضي، وذلك على حساب الإيقاع الخطي للتركيبات، وهو إيقاع يتصل بأكثر الأعمال نجاحًا، من خلال اللجوء إلى الحد الأدنى من الخيارات اللونية، وهو الأسلوب الذي كان متّبعاً في الملصقات، جنبًا إلى جنب مع الأنصاب التذكارية المذهلة. تلك هي حال اللوحة المفضلة للفنان، كما رأيناها، أيضاً، في الأعمال المكرّسة للدفاع عن بتروغراد (سان بطرسبورغ حالياً). في اللوحة الشهيرة، الخاصة بلاعبي كرة القدم، يتم تفسير الحركة بسهولة شبه سينمائية: أربعة لاعبين تشير حركاتهم إلى تنقّل دائم في الفضاء التشكيلي، ضمن تأليف متين واستحضار محترف للجسد الرياضي، لا غبار عليه، في حين تحتل الكرة مكاناً في الجهة اليمنى من العمل، وليس في مركزه، نظراً لضرورات التأليف التي تتجنّب التناظر، والمهم هنا ليست الكرة نفسها، بل هؤلاء الرجال الذين يرسمون بأجسادهم دينامية تليق بـ"الوطن العظيم".



دي ستيل و"حديقة الأمراء"
لقد كان الأمر عبارة عن فضيحة، أفاد بعض نقاد الفن، لدى رؤيتهم عمل نيقولا دي ستيل. وقد تكون عبارة "فضيحة"، هنا، إستفزازية ومختلفة عن المعنى المتداول، الذي يلتصق، في هذه الأيام، بـ"فنانين" من طرز شتى، أكثرها من النوع الهابط. الفضيحة في الفن التشكيلي، وخصوصاً لدى الأسماء الكبيرة في هذا الحيز، تشير إلى إنحراف عن مبدأ، أو أسلوب، أو إتجاه قامت على أساسه شهرة الفنان.

كان الفنان الفرنسي أندريه لوت (1885- 1962) هو نفسه الذي حلل، بعد سنوات، "الفضيحة" التي أحدثها نيكولا دي ستيل (1914- 1955)، العام 1952، حين عرض سلسلته المسمّاة Le Parc des Princes  (ستاد شهير في العاصمة الفرنسية). كان ستيل حينذاك أحد أبرز ممثلي التيار التجريدي، ولم يكن من محبي رياضة كرة القدم، لكن، وبعدما حضر، مع زوجته، المباراة التي لعب فيها المنتخب الفرنسي مع المنتخب السويدي، تبدّل شيء في نفسه. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المباراة كانت الأولى التي تُلعب ليلاً، تحت الأضواء الكاشفة الحديثة، التي لم تُستعمل من قبل. كان الفنان، حينها، خارجاً، مكتئباً تماماً، من افتتاح غير موفق لأحد معارضه في لندن، ليصبح متحمسًا تمامًا، وذلك بعدما بهرته الألوان والحركة، من بداية المباراة وحتى صافرة النهاية. إندفع دي ستيل إثر ذلك إلى الاستوديو الخاص به، ورسم ما رآه، وإستتبع، لاحقاً، الرسم الأول بسلسلة من عشرة أعمال مخصصة لهذه الرياضة بعنوان "لاعبو كرة القدم العظماء"، ثم أخرى بعنوان "حديقة الأمراء" (الترجمة العربية الحرفية لإسم الستاد). ولّدت الصدمة العاطفية لديه وحياً خاصاً لدرجة أنه ترك نهجه التجريدي ليدخل فترة من الرسم التصويري، ولو بأسلوب خاص لا يمكن وصفه بالتمثيلي الخالص. وكما يبدو، فإن هذا الأمر عرّضه، في النتيجة، للكثير من الانتقادات، ولتهمة الخيانة الواردة أعلاه.

في رسالة إلى الشاعر الفرنسي رينيه شار، اقتبست في السيرة الذاتية التي أهداها له الكاتب لوران غريسالمر (Le Prince foudroyé، Éd. Fayard)، لم يدخر الفنان حماسه: "بين السماء والأرض، على العشب الأحمر أو الأزرق، هناك طن من العضلات والحركات الأكروباتية التي تنسيك نفسك.. يا لها من فرحة، رينيه، يا لها من فرحة"، كتب إلى صديقه.

تألفت مجموعة دي ستيل الكاملة من حوالي عشرين لوحة قماشية، ومن بينها لوحة "بارك دي برانس" كبيرة الحجم. بقيت اللوحة لدى عائلة الرسام لفترة طويلة، ومن ثم انتقلت إلى متحف بيكاسو على سبيل الإعارة، إثر وفاة الفنان. فقد سافر دي ستيل، العام 1954، إلى جزر الأنتيب، حيث عاش وحيداً في مرسم قرب البحر، مما أوقعة في حالة من الإنهيار العصبي، فرمى بنفسه من سطح المحترف، ليموت منتحراً عن عمر 41 عاماً.

هذه ليست لعبة كرة قدم
تصور لوحة "التمثيل" Representations (1962) التي رسمها رينيه ماغريت لعبة كرة قدم أرستقراطية للغاية أمام قلعة، أو بناء أثري. المشهد يقع خلف حاجز. على عشب كبير أمام منزل فخم، يلعب الرجال كرة القدم، وعلى يسار اللوحة، في إطار الدرابزون، يمكننا أن نرى مشهد المباراة مستنسخة بشكل متماثل.

غالبًا ما تلعب لوحات ماغريت، الفنان السوريالي، صاحب لوحة "هذا ليس غليوناً"، على التناقض بين الشيء والموقف وتمثيله. وهكذا فإن هذه اللوحة تحمل عنوان "التمثيل"، حيث يُنظر إلى لاعبي كرة القدم بشكل مختلف إنطلاقاً من النظر إليهم من خلال الإطار أم لا. ربما كان الرسام الفلمنكي يشير، من خلال مقاربته تلك، إلى التلفاز، الذي كان يبث بالفعل مباريات كرة القدم في أوائل الستينيات.

هذه اللوحة، التي وقّعها رينيه ماغريت العام 1962، هي عبارة عن التعبير الكامل والمكتمل عما سبق ذكره. مشهد من الحياة اليومية: لعبة كرة قدم في سياق عادي إلى حد ما: قلعة، ربما في بلجيكا أو فرنسا، منظر طبيعي تقليدي نسبيًا: جبال تعلوها سماء. لكن الأمر برمته تم ترتيبه بطريقة مدهشة وغريبة لدرجة أنه لم يعد طبيعيًا. المشهد يزعج العينين، إذ لم نعد نعرف إلى أين ننظر، وقد يكون من غير الممكن أدراك ما الذي يحدث. فالرموز مكسورة، ويتم تقسيم الكتلة إلى أجزاء، لدرجة تجعلنا نعتقد أن ثمة فواصل في الوقت بين أجزاء اللوحة، في حين أن أوضاع اللاعبين متشابهة، لكن الجزء الأيسر يبدو وكأنه إنعكاس في مرآة الرؤية الخلفية، أو بالأحرى الجانبية، في سيارة. لقد تغير كل شيء هنا، إذ أصبح الوقت خفيفًا، وأصبح الضوء مسافة، وأصبحت المسافة وقتًا.

مشهد كرة القدم هذا كاذب. ومع ذلك، إذا ما أخذ كل عنصر على حدة فلن نشعر بالإزعاج. أبطال المشهد مختلفون، وتم رسمهم كما النباتات والمعادن بشكل جيد. لا شيء يمثل مشكلة في حد ذاته، لكن الكل يدعو إلى الذهول. أراد رينيه ماغريت أن يضعنا في متاهة: المشهد إلى اليمين يعتمد سلّم قياس معين، بينما إلى اليسار يشبه المنمنمة على اليسار. أو هل يكون العكس هو المقصود؟ آه رينيه ماغريت، أين أنت؟ هذا هو السؤال الذي نسأله لأنفسنا. لماذا ذهبت إلى هذه المدخل المريب؟ لماذا تريد أن تزعج حواسنا؟ قد تكون الإجابة تافهة. إذا شاء ماغريت أن يضيّعنا، فلكي يدفعنا إلى أن نجد الإجابة بأنفسنا، وربما من أجل أن نفهم ماهية كرة القدم بشكل أفضل قليلاً. تلك هي الحياة ايضا، إذا قد لا تكون هي نفسها، إذ مع مرور الوقت لا يمكن لأحد أن يكون متأكدًا فعلاً من أي شيء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها