الخميس 2022/11/24

آخر تحديث: 11:36 (بيروت)

عن حرب شُنت بعد مباراة كرة قدم

الخميس 2022/11/24
عن حرب شُنت بعد مباراة كرة قدم
increase حجم الخط decrease
بعدما وضع لويس سواريز الصحيفة جانباً، قال للرجل الجالس بجانبه "ريشرد". "ماذا؟". "ستندلع حرب". هذا ما دوّنه الكاتب والصحافي البولوني ريشرد كابوشتينسكي (1932-2007) في كتابه "حرب كرة القدم"، والذي تضمن واحداً وعشرين مقالاً في السياسة والانقلابات والاغتيالات، من بوليفيا إلى تشيلي والجزائر والكونغو وغيرها. كلفته وكالة الصحافة البولندية، تغطية أحداث حول العالم، ليجد نفسه صديقاً لتشي غيفارا، وسلفادور الليندي وباتريس لومامبا. لكنه الآن في المكسيك، وقد استطاع التعرف على سواريز، والذي يتمتع بقدرة على التقاط دخان الأزمات في أميركا اللاتينية. الرجلان جالسان في ردهة أحد فنادق العاصمة مكسيكو سيتي، وقد انتهى سواريز للتو من قراءة تقرير رياضي في إحدى الصحف حول ما حدث بين منتخبي هندوراس والسلفادور لكرة القدم. وبعد أن يعلن بثقة أن حرباً تلوح في الأفق، يسأله كابوشتينسكي، "هل تعتقد أن الأمر يستحق عناء السفر إلى إحدى هاتين الدولتين؟". "فوراً، لو كنت مكانك!"، أجاب سواريز.

نحن في العام 1969، وقد كان على منتخبي هندوراس والسلفادور لكرة القدم خوض مبارتين، لتحديد الفريق المتأهل إلى نهائيات كأس العالم في المكسيك 1970.

مباراة الذهاب
أقيمت مباراة الذهاب يوم الأحد 8 حزيران 1969 في العاصمة الهندوراسية، تيغوسيغالبا. أولى مبارتين، لم يكن يفترض أن تسترعيا اهتمام أحد من محبي فرق ميركا اللاتينية حول العالم.

وصل فريق السلفادور إلى العاصمة الهندوراسية يوم السبت 7 حزيران 1969. وأمضى واحدة من أبشع الليالي في الفندق. فقد طوق حشد من المواطنين الهندوراسيين الفندق، لشن حرب نفسية على لاعبي السلفادور المسترخين في غرفهم. التقط شخص حجراً عن الأرض وألقاه على إحدى النوافذ. تبعه شخص آخر، ثم جمع من الحشد، فيما قام آخرون بطرق صفيح علب القمامة وأغطيتها بالعصي. قبل أن يشتعل الهواء بالمفرقعات يميناً ويساراً. أطلقت الصفير الاستهجان. وصيحات الغضب. وأمطروا لاعبي منتخب السلفادور بأقذع الشتائم وعبارات العداء والعنصرية. استمر الأمر حتى ساعة متأخرة من الليل، من دون أن يفعل أحد شيئاً لتهدئة الحشود وصرفهم.



خسر منتخب السلفادور المباراة في اليوم التالي بنتيجة 0-1. ولم يكتف الهندوارس بذلك، بل كمنوا للفريق الخصم في المطار، ساخرين منهم. كالوا الشتائم. وأمطروهم بالبصاق كذلك.

في السلفادور، كانت الصبية أميليا بولانيوس تشاهد المباراة في التلفاز. وحين حقق المهاجم الهندوراسي روبرتو كاردونا، هدف الفوز في الدقيقة الأخيرة، نهضت عن كنبة الجلوس، لتتجه إلى مكتب أبيها حيث يحتفظ بمسدسه في أحد الجوارير. قطعة للاستعمال الشخصي. وإذا ما اقتضت الحاجة فمن المفيد أن يعرف أفراد العائلة أين مكانها. تناولت أميليا المسدس وصوبته إلى صدرها. ثم ضغطت على الزناد لتنطلق رصاصة وحيدة إلى القلب مباشرة. فتفارق الشابة الحياة في الحال. كان عمرها ثمانية عشر عاماً.

"إن الشابة البطلة لم تستطع تحمّل رؤية وطنها مذلولاً"، عنونت صحيفة إل ناثيونال السلفادورية في اليوم التالي.

سارت العاصمة كلها في جنازة أميليا وبُثت المشاهد مباشرةً على التلفاز. كما تقدمت فرقة من حرس الشرف في الجيش النعش، رافعة علم السلفادور في مقدمة الجنازة المهيبة. فيما مشى رئيس البلاد ووزراؤه خلف النعش الذي لف بالعلم الوطني. خلفهم، لاعبو الفريق السلفادوري الذين كانوا قد عادوا في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم على متن طائرة خاصة.

مباراة الإياب
بعد أسبوع، أقيمت مباراة الإياب في ستاد الزهرة البيضاء (فلور بلانكا) في العاصمة سان سلفادور. سيكون دور المنتخب الهندوراسي هذه المرة في تجرع مرارة ليلة من الرعب في الفندق. فقد قام مشجعو السلفادور، وعلى وقع الصيحات الصاخبة تعبيراً عن شعورهم بالمرارة والألم والغضب، بتحطيم جميع نوافذ الفندق بالحجارة. هم يتحرقون الآن لرد الضيافة بأحسن (أسوأ) منها، وما هذه إلا البداية. أمطروا الغرف بعد ذلك بالبيض الفاسد (فترة الأسبوع الفاصل وحرارة الهواء أكثر من كافيين لتحضير ذخيرة دسمة كهذه)، والجرذان النافقة، والخرق التي فحت منها رائحة شديدة النتانة، على وقع صيحاتٍ تُهدّد وتثأر. فيما انتظرت مجموعات أخرى على جانبي الطريق من الفندق إلى الملعب، متعطشة لإراقة الدماء انتصاراً لبطلتهم أميليا التي رفعوا صورها. لم تجد السلطات السلفادورية طريقة للحيلولة دون وقوع مجزرة بحق لاعبي الهندوراس إلا بنقل الفريق المذعور في مصفحات عسكرية.

أحاط الجيش المدرجات، فيما تولى الحرس الوطني الانتشار حول أرض اللعب، مسلحين بالرشاشات. وحين عزف النشيد الوطني لدولة هندوراس، صدحت المدرجات بصيحات الاستهجان والصفير. وبدلاً من علم هندوراس والذي أحرق امام عيون لاعبي الفريق، رفع المضيفون قطعة قماش قذرة وممزقة فوق سارية العلم المخصصة للضيوف. على وقع هذا المشهد، انصب تفكير لاعبي هندوراس، كما جمهورهم، على تساؤل وحيد وهو إن كانوا سيخرجون من هذا الملعب أحياء.

فازت السلفادور بنتيجة ثلاثة صفر. 

نقل لاعبو هندوراس في المصفحات العسكرية نفسها، مباشرة إلى المطار، فيما ترك مشجعو الفريق المغلوب لمصيرهم، فطوردوا وضُربوا ليهرعوا بسياراتهم إلى الحدود (الفاصلة بين البلدين). مات شخصان وأدخل المئات المستشفيات فيما أضرمت النار في مئة وخمسين سيارة. بعد ساعات قليلة، أغلقت الحدود بين البلدين وتصاعد التوتر. وفي ساعات الفجر الأولى لليوم التالي، حلقت طائرة حربية فوق تيغوسيغالبا (عاصمة هندوراس) وألقت قذيفة، لتبدأ الحرب بين البلدين.

كانت تلك حرباً حقيقة. استعملت فيها القذائف والطيران والفرق العسكرية على الأرض. واستمرت مئة ساعة. قتل خلالها ستة آلاف شخص، وجرح إثنا عشر ألفاً. كما فقد خمسون ألف شخص منازلهم وحقولهم، وشردوا، وأبيدت قرى بأكملها. غير أن كرة القدم لا تلام كلياً. فالأزمة بين البلدين كانت قائمة بسبب نزاع على أراض حدودية. تدخلت فيها الصحافة وتبادل البلدان بأجهزتهما الرسمية والاعلامية، أقذع العبارات. لكن أحداً لم يتخيل أن الأمر قد يتطور إلى اشتباك عسكري.

أما كرة القدم، فكان لها رأي آخر. كانت أشبه بعقاب للبلدين المتجاورين على سوء التصرف. انتهت الحرب بلا غالب ولا مغلوب. بعد تدخل دول مؤثرة في أميركا اللاتينية لوقف اطلاق النار. فأقيمت مباراة ثالثة، بين الفريقين، فاصلة، يتحدد بنتيجتها المتأهل إلى كأس العالم. هذه المرة على أرض محايدة. المكسيك. فازت السلفادور بثلاثة أهداف لهدفين. واحتاجت الدولة المضيفة نشر خمسة آلاف جندي مكسيكي، مسلحين بالدروع والهراوات والأوامر الصارمة بفعل كل ما يلزم للفصل بين مشجعي الفريقين. وربما لعبت سمعة المكسيكي، كشخص لا يتردد في إطلاق النار عند أقل مسّ بكرامته (يقدم لويس بونويل في مذكراته أمثلة على ذلك)، دوراً حاسماً في سير المباراة بسلام وكأن حرباً لم تكن.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها