الإثنين 2013/07/15

آخر تحديث: 02:44 (بيروت)

شِعر ومحرقة وتغريبة

الإثنين 2013/07/15
شِعر ومحرقة وتغريبة
أحد مواقع تصوير "لائحة شيندلر" في كراكوف
increase حجم الخط decrease
 قراءتنا الشعرية الوحيدة كانت في مقهى "الخيمياء" وسط الحي القديم في كراكوف. مرّ النازيون من هنا ذات ظهيرة. وبعد نصف قرن تقريباً لحق بهم ستيفن سبيلبرغ، أو لاحقهم لتصوير فيلم "لائحة شيندلر".
 
في محيط "الخيمياء" جرت أحداث الفيلم، ووقف المواطنون البولنديون يتفرجون على اليهود منهم وهم يُقتادون إلى معسكرات الاعتقال. الساحة التي صبغها الرايخ بالقلق والصمت والرعب وأفرغ مواطنوها من الثقة بعضهم ببعض، تحوّلت الآن إلى متنفس سياحي. إنها هادئة تماماً. أو ذاهلة. مثقلة بما تركه البشر. "بشر؟" تحتجُّ ياسمينة، الصديقة السلوفينية. "أجل يا ياسمينة. النازيون كانوا بشراً، جميع ما يرتكب من مجازر، يقوم به بشر". الساحة تلفظ أنفاسها الأخيرة. "لا تكن سوداوياً"، تقول ياسمينة. "لست سوداوياً بالمرة. ما يُترك في الساحات والأمكنة بعد الحروب ما هو سوى أنفاس أخيرة، تلزم هذه الأمكنة بلفظها حتى تُفنَى تماماً" (هل قلتُ فعلاً هذا الكلام؟). ما علينا. لم تقاوم كراكوف النازيين. أو قاومتهم بنسبة أقل. الشوارع، المتاجر، الساحات، كما الأشجار. 

كراكوف مدينة تتدخّل فيها الغابة من كل الجهات. حتى أنك لن تعرف من الذي يزحف باتجاه الآخر. المدينة أم الغابة؟ مهما يكن، فإنها مدينة مرتاحة اليوم، قياساً بالفترة التي جثم فيها النظام السوفياتي على بطنها. طوال تلك الفترة، لم تكن كراكوف تنجب، أو تشتكي. ليس تماماً، فالكراكوفيون وظفوا واقعهم في سياق ثقافي وأدبي. وإضافة إلى التخريب الإنساني الذي خلّفه رجال هتلر، تولّى النظام الاشتراكي من بعد إدارة المدينة سياسياً ومدنياً محوِّلاً الشوارع إلى ممرات لروائح كريهة، والأحياءَ كانتوناتٍ يتوزّع فيها العَوز والأشجار التعسة. "كانت كراكوف سوداء. سوداء ببساطة. كان السواد يتسلق الأبنية ولم يسقط إلا مع سقوط الإتحاد السوفياتي". هذا ما يُروى. "وكان عليك أن تأتي لترى بأم عينك السخام الذي دَهَنَه السوفيات على الحيطان وبياض العيون". 
 
كنا مجموعة شعراء: منال الشيخ (العراق)، باسم النبريص (فلسطين)، إيستيرين إيرالو (نايغالاند)، شينجيراي هوفي (زمبابواي)، منصور راجح (اليمن)، نوفل بوزيبودجا (الجزائر)، وأنا. دعينا للمشاركة على هامش مهرجان ميلوش الدولي. إضافة إلى القراءة، فقد أنيطت بي وبالكاتب الآيسلندي شون، مهمة تقديم الشعراء في الأمسية المذكورة، وبمشاركة فرقة جاز شبابية لعبت جملاً موسيقية تجريبية على طول السهرة. كنت قلقاً من ردة فعل الشعراء، إذ يفترض بي أن أدير السهرة وأنا لا أريد مشاكل بسبب تضارب في الذوق والتجربة، وإن كنت ميالاً لمناصرة الموسيقيين على معظم الشعراء الموجودين. لأسباب تتعلق بالجماليات والفرق في ميزان القوى كذلك. بصراحة، لا فرصة أمام الشعراء للتغلب على هؤلاء الشباب المليئين حيوية إذا ما حدث عراك. "هذا باب خلفي، أليس كذلك؟"، أسأل أحد الحاضرين الجالسين قربي، ويهز برأسه إيجاباً. 
 
بدت الفرقة متجاوزة لجهود معظم الشعراء في الشعر. ثمة قصائد تسقط أمام الجهد الموسيقي الذي يبذله هؤلاء، أقصد القصيدة المترهلة والمختنقة بتجاعيد الستينات أو التفاعيل أو الصور الشعرية المنسوخة. من بين آلات موسيقية كثيرة وميكروفونات، أعلنتُ: "مسؤولية كبيرة، وشرف لنا أن نقرأ اليوم في مدينة شيمبورسكا. شيمبورسكا يا جميلتي، أتمنى ألا تلعنينا من قبرك بعد هذه الأمسية". ضحك الجمهور قليلاً وصفقوا أقل. بعض الشعراء لم يفهم "النكتة" فسألني بعد القراءة "من هي شيمبورسكا؟". فأجبت بنبرة استخفافية "شاعرة"، مقلّداً إيليا سليمان حينما قدمني لصديقته أمام مسرح المدينة في بيروت بكلمتين: مازن - شاعر. أوف. لا بد أن شيمبورسكا تلعنني الآن. 
 
وماذا عن شيمبورسكا؟ "لا يزال ميلوش متسيّداً"، تقول غوشا، الصحافية الشابة. أجل. أتخيّله أكثر غضباً من الشاعرة الهادئة، وله تاريخ أطول وأكثر تجذراً في الذاكرة الشعرية البولدنية، تربوياً وجمالياً. كان لا بد من إنزال صورة شيمبورسكا عن عليّة الخرافة وزج بعض العاديات واليوميات البسيطة فيها. "الشاعر يقتات من عاداته. فلا خوارق للشعراء"، علّقتُ. معظم الذين التقيت بهم بدوا أقل تحمساً لشعرها من الفلسطيني الذي أتى ليقرأ في أمسية يتيمة في مدينتها: (أووه شميبورسكا) vs (أووه فلسطيني). لكني جمعت قصصاً عنها، أكتفي بها لنفسي وأبوح منها بالأقل أهمية: "أكثر ما تحبه الزهور/ لم تخذل أحداً من الجيران في مساعدة أولادهم في الواجبات المدرسية/ تدخن كثيراً وتفتح الباب فيملأ الدخان البناية.." ومن عندي، ودون مسوِّغ علمي أضيفُ إلى هذه القصص وأنا أسوي ياقة قميصي وأرفع صدري بفخر: "كانت تقيم في الظل وتكتب في الظل". ثم أهبط بالصدفة بجانب صديقتها الأقرب الشاعرة الكبيرة جوليا هارتفيغ (1921) التي تقول "شيمبورسكا! لن تُصدّق كم كانت متواضعة".
 
هي وشيمبورسكا (1923- 2012) صديقتان قديمتان. أتبادل حديثاً قصيراً معها. هارتفيغ من أجمل مفاجآت كراكوف شعرياً وإنسانياً. أسألها "هل يمكنني أن أقبِّلك على خدِّك يا سيدتي؟". تبتسم قائلة: "تفضّلْ". أقبّلها على الخد الذي قبَّلتْه شيبمورسكا. ثم أهرع للتحدث مع الشاعر الصيني المرموق "دُوَ دُوَ" (بالإنكليزية: Duo Duo). إسمي مازن معروف وأنا متطفل وسررت بالاستماع إلى قصائدك. "شكراً"، يقول دون أن ينظر نحوي. ثم يضيف بعينيه الحادتين "أنت فعلاً متطفل"، فأغادر. هارتفيغ ودو دو والشاعر الأميركي الكبير غاري سنايدر (1930) أحد أعضاء جيل البيت توزعوا في قراءة شعرية واحدة ضمن مهرجان ميلوش الأدبي. امتلأ المسرح الكبير بالناس. إنها واحدة من المرات القليلة التي أشعر فيها بأن للشعر احتراماً ما. "لا تقل لي إن عينيك ستدمعان الآن". لا، رددتُ على ياسمينة متجهماً. وعلّقتُ: اللكنة الأميركية لا تليق بالشعر. ولا فرق بين تونات قصيدة سنايدر وتونات أي جملة عملية من قبيل "أريد علبة سجائر". راقني هذا التعليق الذي اعتبرتُه ذكياً، فرددته على مسامع شاعر سويدي وشاعر فرنسي وكاتب من هامبورغ، مذيلاً إياه بـ"الشعر الأميركي يجب أن يُقرَأ بلكنة غير أميركية". وضحكت ثلاث مرات. وفي كل مرة كنت أضحكُ أكثر من الشخص الآخر.   
 
قريباً من "الخيمياء"، نصب تذكاري لبعض ضحايا الهولوكوست. على جانبيه تنتصب مجموعة من المقاهي والمطاعم على شكل قوسين متقابلين. كل مقهى بصق كراسيه الأنيقة إلى الخارج. ندل ونادلات يُشِعّون وهم يحملون لوائح الطعام والشراب في أيديهم "تفضل سيدي، أهلاً وسهلاً". مخيف أن يلبس مكان المأساة لبوس السياحة والترفيه. باسم النبريص يعلِّق "سأزور معسكر أوشفيتز وهناك وعلى الملأ سأعلن: الفلسطينيون هم من دفع ثمن الهولوكوست وليس اليهود. الفلسطينيون الموتى يا صديقي، لا اليهود الأحياء. أفكر بكراكوف الجميلة، بمحفوظتها العمرانية الباهتة التي تؤشّر في الوقت نفسه على تاريخ مُصْفَرّ. ماذا لو لم يقاوم الفلسطينيون الهجرة اليهودية؟ ماذا لو ترك كل شيء يُحتَلُّ بسلاسة؟ أي مظهر كان التاريخ ليتخذ عندئذ، وأي بنية اجتماعية كانت لتؤلَّف؟ كم مدينة كانت لتحفظ، وروحاً كذلك، وتاريخا؟ هل تجوز أساساً هذه الأسئلة؟ أبتاع من المطار كعكة بولندية وألاحظ أنني أمضغها ببطء. إما أن عجينتها قاسية أو أنني متعب.  

schindlers-list-(1).jpg
من فيلم "لائحة شيندلر"
 
increase حجم الخط decrease