الأربعاء 2022/11/02

آخر تحديث: 16:00 (بيروت)

عز الدين نجيب.. الفن الحقيقي والمتحف الافتراضي

الأربعاء 2022/11/02
increase حجم الخط decrease
لعل من إيجابيات مرحلة جائحة كورونا، وما بعدها، تطوير الأفكار والممارسات المتعلقة بتلقي الفنون والإبداعات المتنوعة، ومطالعة حركة النقد أيضًا، من بُعد "أونلاين"، ومن دون أن يستلزم الأمر مغادرة البيت. وقد كانت مبادرات ثقافية، محلية وعربية وعالمية، تحت شعار "ابْقَ بالمنزل"، هي البديل الوحيد المتاح في أوقات العزلة الاجتماعية الإجبارية، والانغلاق الكامل. ومع عودة الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى خلال الأشهر القليلة الماضية، صارت الفعاليات الافتراضية، الإبداعية والنقدية، من معارض تشكيلية وعروض موسيقية وحركية وأمسيات شعرية وقصصية وندوات ومحاضرات وملتقيات ومهرجانات وغيرها، خيارًا له حضوره ووجاهته، ويتصاعد الاهتمام به يومًا بعد يوم، وذلك إلى جانب المناسبات الطبيعية بالتأكيد، التي يحضرها الجمهور بشكل مباشر، باعتبارها الأصل.

وإذا كانت الفعاليات الثقافية الافتراضية تفتقد أمورًا كثيرة جوهرية تدخل في نسيج العملية الإبداعية نفسها، منها مثلًا التفاعل الثنائي الخلاق وردود أفعال الجمهور في المسرحيات، واستشعار المتلقي روح الخامة وملمسها وأبعادها الثلاثية وعلاقة الكتلة بالفراغ المحيط في قاعات العرض التشكيلية، وما إلى ذلك، فإن هذه الفعاليات نفسها تكتسب، على النحو الآخر، مزايا أخرى بسبب كونها افتراضية. منها مثلًا الإتاحة المجانية في أغلب الأحوال، وفي كل الأوقات، ومن دون بذل أي جهد في الانتقال، واختراق حاجز المكان لاجتذاب جمهور عريض من سائر أنحاء العالم، وإمكانية التحميل والعرض المتكرر أكثر من مرة، وسهولة تنظيم مناسبات عربية ودولية كثيرة في وقت قياسي (كسلسلة ملتقيات الكاريكاتير الجماعية التي تجمع فناني العالم)، إلى آخر هذه الإمكانات المتفوقة، التي يزداد تفوقها كل لحظة مع التقدم التقني المذهل.

وفي الفن التشكيلي، على وجه الخصوص، يصير من أهم مكاسب المعارض الافتراضية إتاحة "متحف دائم" للمبدعين البارزين، وهو أمر لا يمكن تدبيره من خلال المعارض الطبيعية إلا للأقلية أو الندرة النادرة الذين تُعرض أعمالهم في متاحف دائمة، ويكون المعروض نسبة ضئيلة للغاية من تراث هؤلاء الفنانين بالتأكيد. أما المتحف الافتراضي، فيمكن أن يحتوي أغلب أعمال الفنان، أو كلها، وإسهاماته المتعددة في المجالات المختلفة، موثقة ومؤرخة ومعروضة لجميع المهتمين بالحركة الفنية، من داخل الحدود وخارجها.



هكذا، يمكن اعتبار إطلاق متحف التشكيلي والناقد المصري المخضرم عز الدين نجيب (82 عامًا) على الإنترنت حدثًا لافتًا، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول جماليات "الفُرجة الإلكترونية" لمعارض الفن التشكيلي بصفة عامة، وما لها وما عليها. فإن أهمية الحدث هنا تنبع في المقام الأول من خلق هذه المساحة الواسعة المدهشة، التي تسمح لكل من يرغب، أيًّا كان موقعه وفي كل وقت، بالاطلاع على النتاج الثري للفنان. وتتضمن أقسام الموقع المتحفي الكبير مئات اللوحات بالزيت وبخامات أخرى أنجزها نجيب على مدار ستين عامًا، إلى جانب السيرة الذاتية والفنية، والكثير من المقالات والصور واللقاءات التلفزيونية، والمؤلفات الأدبية، والكتب النقدية البارزة للفنان. وهناك أيضًا قسم في الموقع المتحفي، يشتمل على قراءات النقاد والباحثين في لوحات نجيب ومعارضه ومراحله الفنية المتتالية، حتى لحظتنا الراهنة. 

إن تخصيص مثل هذا الفضاء الافتراضي لتجربة نجيب الزاخمة هو أقل ما يمكن تقديمه للفنان الطليعي المتفرغ لفنه منذ سنوات طويلة، والناقد الدارس المثقف، والمشرف العام الأسبق على مراكز الفنون التشكيلية بمصر، وصاحب الدور الملموس في تطوير الحرف التقليدية في القاهرة التاريخية من خلال عمله في جمعية "أصالة". وتعكس سيرة نجيب إيمانه بالدور الاجتماعي للفن، والمواقف الحياتية للفنان، على اعتبار أن الإبداع لا يدور في فراغ.

وقد تفجر لديه هذا الوعي في وقت مبكر، كما يتجسد على سبيل المثال في مجموعات لوحاته بعنوان "رسوم الزنزانة" من داخل ليمان طره، في منتصف سبعينيات القرن الماضي. ولم يغب هذا الإحساس بالضمير الجمعي، المحلي والعربي، عن أعمال الفنان، حتى أحدث إبداعاته، كما في لوحته "عرس الشهيد"، وغيرها. ويتجلى هذا الحس أيضًا في عناوين الكثير من كتبه النقدية والأكاديمية، ومنها: "التوجه الاجتماعي للفنان المصري المعاصر"، "الإبداع والثورة،" "فنانون وشهداء.. الفن التشكيلي وحقوق الإنسان"، "فجر التصوير المصري الحديث"، "النار والرماد في الحركة التشكيلية المصرية"، وغيرها.



إن التجريب في مدرسة عز الدين نجيب يعني الابتكار التعبيري والتصويري، وعدم التقيد بإطار محدد أو الخضوع لتيار بعينه، وفي الوقت نفسه فإن خلخلة الثوابت والقياسات الجاهزة لا تعني الانسلاخ من الموروث وقطع الصلة مع الجذور، فالبيئة المحلية هي الأم عادة في أعماله النابعة من الهوية الراسخة والخصوصية الشعبية. فهو الفنان الذي يتقصى حبّات العرق وملامح الألم والأمل في وجوه عمّال المحجر، ورائحة الخبز الشهية فوق عربات الفول (مائدة البسطاء)، وهمس الحيطان، وغناء البيوت في الفرح والنصر ونحيبها عند الأسى والهزيمة. وهو دائمًا يراقص طيور الحرية في عبورها من الظلام إلى النور، ومن الضيق إلى الانفراج، فبالإرادة والعزيمة يمكن للضرير نفسه أن يكون صانع مفاتيح، وملهمًا للمتطلعين إلى التحرر والانفلات والتمرد.

وفي استلهامه عناصر الطبيعة المحيطة، تتحقق رؤية عز الدين نجيب الفنية الذاتية بتجاوزه سطح محاكاة مظاهر الطبيعة إلى النفاذ في أعماق جوهرها، فالقيمة الجمالية والتعبيرية التي يسعى إلى بنائها فكريًّا وجماليًّا تتوازى مع ما تحمله هذه الطبيعة نفسها من مفردات وتراكيب وروعة وحكمة. ولأنه يصغي إلى صوت الهامش، فإن جولاته في الطبيعة لا تقتصر على العاصمة المصرية والمدن، وإنما تمتد رحلاته إلى فئات العاديين والشعبيين والمعزولين في القرى والسواحل والأطراف والصحراء والواحات والمناطق النائية. وتكتسي لوحات نجيب عادة بإحالات خيالية وأسطورية ورمزية، تكسر حدتها الواقعية، فالحاضر مفتوح على التاريخ والخلفيات الحضارية، كما أن المشهد حافل عادة بالحركة والنقلات الدرامية، فهو يحكي بمقدار ما يرسم.

لقد أفصح عز الدين نجيب بشكل صريح عن رغبته في أن تكون لوحاته "موقفًا فكريًّا نحو المجتمع والعصر"، فلا تقف عند حدود القيم البصرية أو النفسية للعمل الفني، ولذلك فإن ما قدّمه من غرسٍ يبدو متجذرًا وأصيلًا ومتشابكًا ومتناميًا. ومن ثم، فإن متحفه الافتراضي الجديد يأتي بمثابة بوابة إلكترونية للفن الحقيقي، الممتد من الأرض إلى السماء.

(*) متحف عز الدين نجيب: http://ezzeldin-naguib-art.com

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها