الأربعاء 2022/11/02

آخر تحديث: 15:56 (بيروت)

نجاح العطار الموسومة بـ"أميّة"..نفهَمُها فنفهَم "السيطرة الغامضة"

الأربعاء 2022/11/02
نجاح العطار الموسومة بـ"أميّة"..نفهَمُها فنفهَم "السيطرة الغامضة"
العطار عن الأسد: "ظلت كلماتك البليغة جذوة متقدة، تلهم وتلهب وتنير"
increase حجم الخط decrease
بين مجموعة الأوسمة السورية، يحتل وسام "أميّة" الوطني ذو الرصيعة، مكانة مهمّة، فقد استُحدث في العام 1934، بحسب تعريف وزارة الدفاع كوسام وطني باسم أميّة يُمنح لتقدير الأعمال المدنية والعسكرية العظمى. وهو مؤلف من ثلاث درجات: ذو العقد، وذو الرصيعة، وذو الوشاح، ولعل فرادته تتأتى من أن رئيس الجمهورية هو الرئيس الأعلى لجوقة هذا الوسام، وأن حامله يعتبر عضواً في الجوقة ما دام على قيد الحياة.

الدكتورة نجاح العطار، وزيرة الثقافة لزمن طويل في تاريخ سوريا، ونائبة الأسد الابن للشؤون الثقافية، وهو الذي منحها قبل يومين هذا الوسام. لم تكن قائداً عسكرياً أراق الدماء في سبيل الدفاع عن البلاد، بل كانت باحثة وكاتبة، استوزرها حافظ الأسد في لحظة حرجة خلال فترة الصراع المسلح مع جماعة الإخوان المسلمين.

ومن أجل خدمته والدفاع عن حُكمه، أراقت حبراً كثيراً في الحديث عن "مناقبه"، وعن "سجايا" أفراد عائلته، فكتبت مطولات في شخصيته، كانت تنشرها في مجلات الوزارة، وبالغت بسعادة في حديثها عن ابنه باسل الذي قضى في حادث في طريق المطار. وحين غابت عن الواجهة لفترة وجيزة، وصار البعض يبكي أيامها بعدما صدمتهم رثاثة خليفتها مها قنوت ومن جاء بعدها، استحدث بشار الأسد لها منصباً أعاد لها بعض الفاعلية من خلال واجهة جانبية هي منصب نائب الرئيس. فقضت سنوات طويلة وهي تجترح المؤلفات عن العهد الأسدي، وتكتب تاريخاً مزوراً عن المرحلة السابقة، وكان آخر كتُبها "الرئيس الأسد… مسيرة من البطولة والتضحيات"، الذي اطلع الجمهور على بعض ما كتبته في مقدمته من مديح لولي نعمتها(*). فضحك كثر من لغتها الرديئة، ومعانيها التصاغرية أمام الممدوح، وبكى آخرون على حال سوريا التي تتذلل فيها شخصيات إلى درجة الانسحاق الكامل، أمام القتلة والسفاحين، بينما نظر البعض إلى المسألة من زاوية نقدية، لا تتعلق بالنص وبلغته، بل بطبيعة كاتبته وموقعها ودورها في السياق العام.

العطار، كانت قيّمة على الثقافة السورية لربع قرن من العام 1976 وحتى العام 2000، وبقلمها كانت توقّع على كل القرارات الخاصة بالأنشطة والفعاليات الثقافية، من موازنات مسرحيات المديرية العامة للمسارح والموسيقى، إلى الموافقات على تعيين الكتّاب والباحثين والمترجمين في مديريات الوزارة، وحتى مشاريع السلاسل من الكتب. فيذكرها الكاتب محمد كامل الخطيب بودّ في كتابه الأخير"بورتريهات"، الذي أُعتبر شهادة عن تلك المرحلة بقلم شخصية لا يُشك في تعقّلها ورصانتها.

وحتى على المستوى الشخصي، لا أستطيع تجاهل أن شهادتي العلمية، أي وثيقة تخرجي من المعهد العالي للفنون المسرحية، ذيّلتها بتوقيعها. وبالإضافة إلى ما سبق، لا ينكر أحد أن العطار كانت ذات مواقف قوية في مواجهة بعض محاولات تسلّط رجال الأمن على المثقفين، وأنها حمت كثيرين من المساءلة عما كتبوه أو قاموا به من أفعال وأعمال، وكملحق لهذه السيرة يضيف البعض أنها كانت بشوشة ودمثة، مرحبة، ولا تردّ أحداً!

لكن، مَن قال إن عجلات النظام وميكانيزماته كانت تقوم على القبيحين والمقرفين والتافهين فقط؟ إذ كان ثمة مَن يعتقد أن الحال في عهد الأسدَين كان يقوم على هؤلاء فقط، فإن على مدوني التاريخ المختلفين، الخارجين من تجاربهم الطويلة من العمل في بعض مفاصل الدولة، تصحيح الأمر، والإشارة إلى وجود آخرين كانت طرائق إدارتهم للأمور لا تتشابه مع السياق العام، فكانوا يجذبون المثقفين أو التكنوقراط للعمل في المؤسسات التي يديرونها. لكن هذا التصحيح يجب ألا ينسينا، ونحن نقف عند العتبة النقدية، أن أفعال هؤلاء لا تمنحهم صكوك البراءة عن النتائج العامة لمجمل تاريخهم، خصوصاً حينما يكون الفضاء الذي يعملون فيه حاراً وقابلاً للاستعادة دائماً، كما هو الحال في الشؤون الثقافية.

يمكن اعتبار الحالة السورية، أنموذجاً قابلاً للدراسة، لجهة تأثيرات التسلّط على شرائح الفاعلين في مجالاتهم الثقافية، وآليات تدمير العقل، على عكس ما يظنه البعض حينما كانوا يشعرون بالحنين لعهد نجاح العطار!

وقد أظهرت شهادات مثقفين سوريين عاشوا مرحلة سيطرة الأسد على مقدرات الحياة السورية، كيف أن الإبادة المنظمة للتفكير الحر، والممارسات الثقافية المنسجمة مع روح التفكير المغاير، قد بدأت منذ تاريخ "الحركة التصحيحية" التي حملت وزيراً صاحب سمعة سيئة إلى وزارة الثقافة، هو فوزي كيالي، الذي طبق حرفياً سياسة الأسد الأب، فكان عهده المقسوم على مرحلتين بداية سياسة تطفيش المثقفين من البلاد، مع السماح بالتدخلات الأمنية ووضع المعايير غير المهنية للتعاطي مع المنتج الثقافي، وعلى وجه الخصوص نفاذ آراء رجال الدين في تقييم الأعمال المسرحية والسينمائية. ويمكن، للتوسع في قراءة التفاصيل، العودة إلى ما كتبه الباحث الدكتور بدر الدين عرودكي عن تلك المرحلة، في كتابه "الثقافة في سورية من الدمار إلى البناء"!

وعلى أرضية الرداءة العامة، ورقعتها المحددة في الحالة الثقافية، سيكون حضور نجاح العطار أفضل من سلفها، غير أن درجة الأفضلية، تتشكّل من حصى ورمال الأرضية ذاتها، لا سيما أن التلاعب بالأدوار من خلال الخيارات السياسية لرأس النظام ذاته، يطرح أسئلة مختلفة.

كان حافظ الأسد قد اختار نكرة ليكون وزيراً للثقافة طيلة 6 سنوات، قبل أن تأتي نجاح العطار إلى المنصب، في سبيل أن يكسر شوكة تيار المثقفين الذي عارضه على المستوى الحزبي وعلى المستوى السياسي العام. كما أن جلبه لشقيقة عصام العطار، المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين، إلى هذا الموقع، لم يكن خارج طرائقه في التحكم والسيطرة. كما أن الصلاحيات التي يظنّ البعض أنها كانت تملكها، لم تكن تقنية محضة، بل كانت معنوية أيضاً، وقوامها الإطناب في مديح المرحلة وتبجيل صنائع الديكتاتور، وهذا أمر اتسم به تاريخ سوريا طيلة نصف قرن، وينبغي ألا يتم التقليل من أهميته في تكوين النظام الأسدي بمرحلتيه. فصناعة صورة الزعيم، تلعب دوراً رئيساً في تثبيت النظام أو زواله. وهذا ما عمل عليه باحثون كثر، في قراءة وتحليل بُنية الحالة السورية، مثل ليزا وادين صاحبة البحث المهم بعنوان "السيطرة الغامضة".

وهنا، لا بد من الإشارة إلى دور وزير الإعلام الأسبق، أحمد أسكندر أحمد، الذي استوزر من 1974 وحتى 1984، فصنع عبر موقعه صفات التأليه للأسد الأب، والتي حللها ببراعة قل نظيرها الروائي السوري فواز حداد في روايته "السوريون الأعداء"!

شخصيات من هذه الطبقة، وعلى وجه التحديد أولئك الذين نذروا حيواتهم من أجل ترسيخ حضور القائد في موقعه فوق البشر، لا يمكن أن يكونوا مجرد مسؤولين عابرين في التاريخ، بل لهم حظوة وفرادة في حياة النظام. لهذا، لن يكون غريباً أن تلعب العطار دورها حتى النهاية، بين عهدَي الأسدَين، وأن تكون الأعطيات الممنوحة لها من طبيعة الفعل ذاتها، أي موقع/منصب تقني وسياسي وإشادات وصور مع الرئيس في الصحافة، وأخيراً أهم الأوسمة، والحفلات التكريمية. هذا هو الثمن الذي تطلبه، في معادلة بيع الذات للشيطان بحسب أسطورة فاوست.

لكن السؤال الذي يستعيده السوريون إزاء كل حدث مشابه هو: هل كان هذا هو السبيل الوحيد لتطور سوريا؟ ولو أن شكلاً آخر للحكم قد ساد في البلاد المنكوبة بالاستبداد، هل كان تاريخ الثقافة الرسمية المصنوعة في الأروقة والمكاتب الحكومية، قابلاً للاختصار في النكتة التي سادت عن وزارة تحكمها "أخوانجية"، وينشط فيها اليساريون، بينما يكتب البعثيون فيهم تقارير أمنية؟!

(*) قالت العطار في بشار الأسد مُعلَّقة، جاء فيها:
"التاريخ يغدو شعلة في يدك، تشير إلى أن الدرب الجديد، درب الفداء الذي اخترت، هو الذي يقود إلى مشارف النور، حيث السحب الحمر تتوهج، وتوشح الدنيا بأرجوانية تنتمي إلى نجيع الشهادة…ولقد أعطيت من إشعاعك الفكري أبلغ ما يزهو به الوطن ويستنير، حين يقترن النصل باليراعة، في عناق الإباء والنخوة، والمعرفة المحصّنة بوعيك الكبير، وإخلاصك اللامتناهي المبني على التضحية والاستبسال، وإعلاء القيم الممهورة بجلوة باصرتك وبصيرتك، والتي في كفيك أثمرت وأزهرت وأضاءت… وكنت قادراً على معالجة القضايا كلها، وفي أحلك الظروف، من موقف الفهم العميق، والحكمة والنفاذ، وصولاً إلى حلول صحيحة وسديدة، تكفل النصر وتدرأ الكارثة، وتعمق المشاعر الوطنية، وتذكي الشجاعة، وتدفع إلى التضحية، وبها تستعلي البطولات… وظلت كلماتك البليغة جذوة متقدة، تلهم وتلهب وتنير، وتبقى في أيدينا وثائق كفاح، ورسائل تنوير، ومشعل ريادة، ومنبر حق، ومنارة للسائرين بعنفوان العزيمة، وشجاعة الإرادة، إلى حيث يدعو الواجب تلبية لنداء الوطن…كما أزحت رماد المحنة، وفتحت صفحات التاريخ، ليتعانق اللهب والمجد، والبسالة والشهادة، ولتستعيد الشآم سيرتها الأولى، وكان لك الدور البهي القيادي الذي رسمت به أجمل أمثولة…".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها