الثلاثاء 2022/11/01

آخر تحديث: 14:10 (بيروت)

بازوليني والعرب.. صحراء مُمتدّة من صنعاء إلى ورزازات

الثلاثاء 2022/11/01
increase حجم الخط decrease
مِثل عربيِّ الروائي الفرنسي ألبير كامو في رواية «الغريب»، قُتل الشاعر والمخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني (1975-1922) على ساحل متوسطيّ بيدٍ غادرة. حينها، كان ابن مدينة بولونيا قد انتهى من تصوير فيلم «سالو أو أيّام سدوم المائة والعشرون»، وشرع في التحضير للاستقرار نهائياً بالمغرب. مُستغرِقاً في إكمال رواية «بترول»، التي يُقال إنها السبب وراء اغتياله، سار بازوليني نحو أقاليم ذهنيّة وشِعريّة وسياسيّة فصلته جذريّاً عن العالم الروماني المسيحي، وعن أوروبا التي أضاع أهلُها في نظره معنى القداسة. كذلك اكتملت قطيعته مع الإيديولوجيات المُكرّسة والناشئة (الشيوعية، النسوية، حركة مايو 1968، إلخ)، ومع نموذج المثقف التقدمي، الذي رأى أنه "يقبل المَهمّة الديموقراطية-الاجتماعية التي تفرضها عليه السلطة"، لا لشيء سوى لاستغلال الأناس الطيبين بغاية تأسيس فاشيّات استبداديّة جديدة، يكون مجتمع الاستهلاك والفرجة المجال المثاليّ لتحقّقها.


من هنا، أي خارج اختيار التقدمية اليسارية والتطور اليميني، أراد بازوليني الاتصال بأفق حضاري آخر وجد فيه خلاص العالم الحديث. يكتب عقِب النّكسة: "أحلفُ على القرآن أنني أحب العرب كحبّي لأمي تقريباً. أساوم حالياً لشراء بيت في المغرب، والذهاب للعيش هناك. قد لا يُقدِم أحد من أصدقائي الشيوعيين على فعل مماثل بسبب كراهية قديمة وتقليدية، غير معترف بها، تجاه البروليتاريين المسحوقين والفقراء.‎..". يُمكن فهم الحِلف الذي أقامه بازوليني مع العرب، من خلال قسمه على كتابهم المقدس، كنوع من الحنين إلى طفولة بائسة تحضر فيها صورة الأم/ اللغة بقوة. نقرأ في ديوان نشره باللّهجة الفريولية (لغته الأم) عام 1954 من قصيدة تحمل عنوان العهد القرآني: "(...) كنتُ ولداً في ربيعه السادس عشر/ بقلب خشن ومضطرب/ وعيون مثل ورود حارقة/ وشَعر يُشبه شعر أمي (...)". لماذا استجار الولد الشقيّ بأعداء دانتي وفضّلهم على اليونان؟ كيف جعل من متنه السينمائي إيماءة أركيولوجيّة وحُلميّة بين الفيافي العربية؟ وعمّ كان يُفتشّ عارياً في هذا الحج التراجيدي الذي أخذه إلى حتفه الأخير؟

تائهٌ بين العرب والإغريق
على عكس ما تقترحه بعض دراسات ما بعد الاستعمار، لم يقترب بازوليني من الحكايات والفضاءات العربية فقط لأنها كانت ذلك الموضع البتول، الذي لم تمسسه بعدُ أدوات التحديث واستراتيجيات النيو ليبرالية، بل لأنها شكّلت بالنسبة إليه الآخر المطلق والحصن القيميّ والجماليّ الاستثنائي للمستضعفين في البحر المتوسط. هكذا فرّق بازوليني بين اليونان والإغريق، تماماً كما فعلت العرب قبله، وأبدى انحيازه للأسطورة العربية. يقول في حوار إذاعيّ: "لم أهتم بالميثولوجيا اليونانية، لأنها صارت طبقيّة بشكل ما، ولا أتحدّث هنا عن عصر سوفوكليس (...) أما الميثولوجيا العربيّة فقد بقيت أسطورة شعبية لم تتحوّل إلى ثقافة الطبقة المُهيمنة. على سبيل المثال، لم يكن هنالك جان راسين عربيّ...". يتضمّن هذا التصريح نقداً واضحاً لما اعتبره سطواً على الموروث المشترك؛ فالأساطير العربية بقيت متداولة بشكل شفهيّ بين عامة الناس، على عكس الميثولوجيا اليونانية التي احتكرتها البورجوازية الغربيّة، وسيّجتها داخل الأكاديميات وفي دور الأوبرا والمسارح والروايات.

لقد اشتغل بازوليني على تقليص المسافات بين العالم القديم والحديث من خلال السينما كنوع من "الترجمة بالصور"، ترجمة تحتيّة للأجساد والمشاعر والصراعات، وبها بعثر الأمكنة والأزمنة، عابثاً بخرائط المتوسط شمالاً وجنوباً: تصير القدس في ماتيرا، وأثينا في ورزازات، وثيساليا في حلب، وفلورنسا في صنعاء... بين عاميّ 1963 و1969، داخل ما نُسميّه هنا ثلاثية التراجيديا العربية/ اليونانية، سافر بازوليني بدءً إلى فلسطين والأردن بحثاً عن مواضع لتصوير «الإنجيل بحسب القديس متى» (1964)، لكنه لم يجد مطلبه: كانت المستوطنات الصهيونية قد زحفت على ذكرى المسيح، وشرعت في مسح آثار القداسة والفقر المُدوّنة في العهد الجديد. سنوات بعد ذلك، رحل بازوليني إلى المغرب لإنجاز فيلمه «أوديب ملكاً» (1967). يقول في مقابلة مع ألبرتو أراباسينو: "تصوير أوديب في أعماق المغرب، مع معمار سحيق وفاتن، من دون أعمدة إنارة وبالتالي من دون كل المشقة التي عرفها تصوير «الإنجيل بحسب القديس متى» في إيطاليا. طبعاً، مع ورود وخُضرة رائعة، والأمازيغُ بيضٌ تقريباً، لكن "فضائيون"، قديمون، مثلما هو الحال مع أسطورة أوديب عند اليونان...". إنّ تحيين الأساطير القديمة لم يعُد ممكناً في الديكور الطبيعي الأوربي بالنسبة لبازوليني، وذلك لأن جلالها الغابر لا يتطابق مع الوجه المعاصر للغرب الرأسمالي، لا في لغة شعوبه الغارقة في الموضة، ولا في حواضره الإسمنتيّة الشّاحبة، وحتى علاقته بالسينما نفسها صارت جزءً من مجتمع الفرجة لا مُحرّكاً ثقافياً ثورياً للشعوب. 

في فيلم «ميديا» (1969)، تظهر مُطربة الأوبرا الشهيرة ماريا كالاّس في دور السّاحرة الإغريقية، وتنتقم من زوجها الخائن عبر تصفية ذُريتهما. لم تكن دعوة بازوليني لكالاّس بريئة بالمرّة، فقد جرّدها، هي النجمة اليونانيّة/الأميركية اللامعة في الأوساط البورجوازية، من ثياب الحداثة وألبسها خِرقة الصحراء: أنيقة وصارمة في فساتين مُطرّزة، بسيطةٌ حيناً ورفيعةٌ حيناً، كما لو كانت بلقيسَ سبأ، مُتجوّلة في القسم الهلنستيّ من قلعة حلب. العام 1971، اشتغل بازوليني على كتاب «الديكاميرون» لمؤلِّفه جيوڤاني بوكاشيو، وارتأى مرّة أخرى تصويره بعيداً عن أوروبا، بين اليمن ونابولي. يقول بازوليني: "عندما كنت بصدد تصوير مشاهد من الديكاميرون في اليمن، جاءتني فكرة ألف ليلة وليلة. فكرة مجرّدة تماماً (...) في اليمن يمكنك استشعار فانتازيا عميقة للغاية، نابعة من ذلك المعمار المُدهش (...) ولمّا عُدت من هناك، انبريت لقراءة ألف ليلة وليلة. قرأتها كلّها بحرص شديد. إنّ تشعّب الحكايات وتداخلها الواحدة مع الأخرى، والقدرة اللانهائية على السّرد، الحكي بغرض الحكي، والتوقف كلّ مرّة عند تفصيل مباغت، بلوغ ذروة حب الحكي تلك؛ كلّ ذلك شدّني أكثر من أي شيء آخر، ثم غياب نهاية ما...".

رحلة الشتاء والصيف
على الحدود بين الأبجديّة والصّورة، خلق بازوليني ما يُمكن اعتباره جنساً وثائقياً خاصاً اسمه الملحوظات. يقوم هذا الجنس على جعل السّكريبت نقطة توتر يتصادم عندها نظام الحروف ومنظومة السينما، ويحتدم فيها الصراع بين أسلوبيّة الأدب وبين السكريبت كوثيقة إيتيقيّة وإستيطيقيّة بينيّة، آيلة إلى الإطار الفيلمي. إنّ السكريبت، حسب بازوليني، بِنية تؤول إلى بنية أخرى. ولنا تصنيف مجموعة من أعماله في هذا الباب، من بينها «رحلة إلى فلسطين» (1964)، «ملحوظات لفيلم عن الهند» (1968)، «ملحوظات لقصيدة عن العالم الثالث» (1968)، «كُرّاس ملحوظات لأوريستيا إفريقية» (1970)، و«أسوار صنعاء» (1971)؛ علاوة على «الحنق» (1963) و«مجالس عشق» (1964) اللذين يبقيان أقرب إلى التوثيق الأرشيفيّ والحواريّ، مع أنّ النبرة التي يتبنّاها الأول شبيهة ببيان احتجاجيّ وسجاليّ تتخلّله شِعرّية متراصّة وحادّة.

في فيلمه الوثائقي القصير «أسوار صنعاء»، الذي أُنجزَ خلال يومٍ واحدٍ، أثناء تصوير «الديكاميرون»، عاد بازوليني لتوجيه سهام النقد للحداثة والتمدّن الصناعي، واستطاع ببساطة شفّافة ولاذعة، يعيب عليه البعض عدم تحقيقها في حالة جغرافية فلسطين المُقدّسة، الاحتفاء بحضارة سحيقة خاف عليها من الخراب. يقول في تعليقه الصوتي على مشاهد صنعاء وماكينات الشّركة الصينية تخترق صحراءها إيذاناً بالتحديث المفروض: "إيطاليا أبعد عن الخلاص الآن، ولكن لا يزال إنقاذ اليمن مُمكناً (...) إنّنا نناشد اليونسكو لإنقاذ اليمن من الدمار الذي بدأ فعلا مع تخريب أسوار صنعاء. ندعو اليونسكو إلى مساعدة أهل اليمن على تحصين هويّتهم وكم هي ثمينة (...) ندعو اليونيسكو لإيجاد طريقة تجعل هذه الأمة الجديدة تُدرك أنّ موطنها أحد عجائب الإنسانيّة وإلى حمايته لكي يبقى كذلك. ندعو اليونيسكو، قبل فوات الأوان، لإقناع الطبقات الحاكمة بأنّ كنز اليمن الوحيد هو جماله (...) باسم الناس البسطاء الذين بقوا طاهرين بفضل الفقر، باسم نعمة الأزمنة الغابرة، باسم قوّة الماضي، الثوريّة الهائلة".

من الهند التي زارها رفقة صديقه اللّدود ألبرتو مورافيا، عبَر بازوليني إذن إلى فلسطين واليمن، كما استطلع أغوار أوغندا وتانزانيا حيث جرّب أفرَقة تراجيديات أسخيلوس. في فلسطين، بدى اللاتينيّ حائراً بين فقرين: فقر اليهود الذين هجّرتهم الصهيونية، جاعلة منهم زومبيات حداثة الدولة العسكرية، وفقر الفلسطينيين المهزومين، بملامح بدويّة ذابلة، وآذان صمّاء لا تسمع نداء الثورة. لم يلتزم بازوليني الحياد، كما ظنّ البعض، وإنّما نقل رأيه المعقد والغامض إلى ديوانه «قصائد على شكل وردة». يقول في إحداها، وقد تلبّس بجلد اليهودي المُهاجر: "عُد، آه عُد إلى أورُبّاكَ/تحويلٌ منّي إليك/يجعلني أحسّ حنينكَ الذي لا تستشعره". إنّ بازوليني لم يُحبّ عرب اليوم، ولم ينحز لهم إيديولوجيا على حساب اليهود، بل ربط قربه منهم بحضارتهم السابقة على الثورة الصناعة، ولذلك انتصر لها في جانبها الفيودالي القروسطيّ، حتى أنه صرّح في مرّة، على هامش عمل سينمائي في بواتييه الفرنسية، بأنّه كان يودّ انتصار المسلمين في معركة بلاط الشهداء (732م) على جيوش شارل مارتل، بمعنى آخر تأسّف بازوليني على عدم بسط العرب نفوذهم على كلّ أوروبا، وهو موقف تبنّاه قبله الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه. 


أمّا «ملحوظات لقصيدة عن العالم الثالث» (1968) فقد بقي مشروعاً غير مُنجز. أراد بازوليني لهذا الفيلم الهجين، الواقع بين الوثائقيّ والتخييليّ، أن يكون عملاً عابراً للقارّات: من أديان وجوع الهند إلى صدام المال والأعراق في إفريقيا السوداء، مروراً بالقوميّة والبورجوازية في العالم العربي، ثم حرب العصابات في أميركا الجنوبية، انتهاءً بالإقصاء والعنف داخل غيتوهات السّود بالولايات المتحدة. تبدأ أحداث الفيلم وتنتهي في صحراء سيناء، بعد حرب الستة أيّام. في خلاءٍ مليء بالحديد والنار، بين دبابات وطائرات مُدمّرة، تتكدّس آلاف الجثث الممُزّقة. هي أجساد العرب بعد النّكسة. تقترب عدسة الكاميرا من جُثة هامدة، ويبدأ الجسد في الانبعاث من جديد. إنه جسد شاب أسماه بازوليني أحمد. يبدو غاطساً في النوم، ثم يستفيق ليبدأ الحوار. كان اختيار بازوليني قد وقع على آسي دايان، نجل موشيه دايان، رئيس الأركان العامة الإسرائيلية، للعب دور العربي. في ذات الفيلم، تتداخل العربية والعبرية، الأراضي المحتلة المتحوّلة بقوة الاستعمار إلى دولة صناعيّة، تتداخل هي الأخرى مع قرى البدو المُهمشّين الذين تلتهمهم الرغبة في الانتقام. يعود جسد أحمد، وهو في الآن نفسه جسد آسي دايان، إلى حالته الأولى: مبتور الأطراف ومغطى بالكدمات والجروح. على هذا النحو، أدان بازوليني، حسب قوله، كلّ أشكال الوطنية التي تختطف أعمار الشباب ومستقبلهم لدواعٍ تاريخية وإيديولوجية...

ثلاثيّة الموت: عن قدّيس لا أحد ينتظر عودته
حتى أيّامه الأخيرة، ظلّ ببير باولو بازوليني يُفتش عن القداسة في الأسلوب وعن العدل في الوجود، بالأدب والسينما، وبمواقف حاسمة لا تقبل القسمة والتأويل. رافضاً الانخراط في أي شكل من أشكال الإنتلجنسيا، لم يتوقف صاحب «المحاكاة الإلهية» (1975)، رغم التهديدات والملاحقات القضائية، عن التنبيه إلى مثالب التقدمية ومخاطر الرأسمالية. كذلك تصدّى، في مقالات سجاليّة نشرتها صحيفة كوريري ديلا سيرا الميلانيّة بداية السبعينات، لما وجد فيه انتكاسة قيميّة وذوقيّة للمجتمع الإيطالي: هاجم موضة الشَّعر الطويل، وسراويل الجينز والإجهاض والطلاق. وبعيداً عن المحاولات المعاصرة لاختطافه وجعله أيقونة إعلانيّة للمثليّة والفجور الرّخيص والإنشاءات الفنية السّهلة، كان بازوليني وفيّاً لمادية الواقع في فظاظة أحقادها ونزاعاتها، أي في جدليّتها الإبداعية المريرة، ولم يُلجم نفسه عن تعيين أوهام الحرية. إنّ فيلم «الديكاميرون» يقوم على مديح الإيروس لا على الجنس الاستعراضي والمرح. يقول بازوليني: "لقد أخرجت كل تلك الأفلام لأنتقد بشكل غير مباشر الزمن الراهن، هذا الزمن الصناعي والاستهلاكي الذي لا أحبّ".

بعد «الديكاميرون» (1971) و«حكايات كانتربري» (1972)، اختتم بازوليني ثلاثيّة الحياة مع «وردة ألف ليلة وليلة» (1974)، فيلمٌ توّج به افتتانه بالحكايات العربية، موظّفاً سردا تصويريّاً مليئاً بالإيروتيكا والشّعر، في مشاهد جليلة من التلال والأزياء والأجساد الساذجة المغدورة. بيد أنّه، بضعة أشهر قبل وفاته، تنكّر لثلاثية الحياة تلك، ودشّن بداية ثلاثية الموت. مع «سالو أو أيّام سدوم المائة والعشرون» (1975)، نقل بازوليني فظاعة عوالم الماركيز دوساد إلى قلب النزاع الفكري والسياسي مع الديمقراطية المسيحية في إيطاليا، واتهمها بالتحالف مع المافيا، وغسل أدمغة المواطنين باستعمال التلفاز كسلاح يشيع التفاهة والإخضاع.

اختلى بازوليني في قلعة قروسطيّة، ناحية منطقة توشا، لإنهاء روايته «بترول» (1975). تضمّن المتن فصلاً يحمل عنوان "إضاءات حول الوكالة الوطنية للمحروقات (إني)"، تطرّق فيه لكواليس مقتل مديرها إنريكو ماتيي، بل وأحصى بالأسماء مسؤولين سياسيّين متورّطين في الفساد. بعدما اغتيل ليلة الثاني من نوفمبر 1975، ضاع الفصل المعلوم من مخطوط الرواية، وعُثر عليه مشوّهاً كجثة أحمد العربي بعد هزيمة حرب الأيام الستة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها