نيكولا مولان فنان بصري فرنسي (باريس، 1970)، تخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة سيرجي-بونتواز، يعمل على التخوم بين الصورة والصوت، المعمار والخراب، الأبجدية والظاهرة. تشكل الطوباويات الحديثة اللاحقة على الثورة الصناعية مجال انشغاله واشتغاله، يفكّكها ويعرّيها، ويُشيّد على أنقاضها خرافاته وديستوبياه الخاصة، سواءٌ عبر استعمال الفوتومونتاج أو الفيديو أو المنشأة النحتية المتأثرة بالهندسة المعمارية. كذلك ينكبّ مولان على استقراء القرن العشرين بمجمل أحداثه، خاصة انهيار الاتحاد السوفياتي الذي ترك في نفسه وعمله أثراً بالغاً، كما أنه لا يخفي انبهاره بالمعمار المُتوحّش والخيال العلمي... في هذه المحاورة/الشهادة يتحدث مولان لـ"المدن" عن مواقفه بخصوص القضية الفلسطينية، عن علاقته بالعالم العربي والإسلامي، ويقف على الوضع الداخلي الفرنسي، وتداخل الجمالي والسياسي والحميميّ في ممارساته وخطابه الفني الخاص. يُذكر أن مولان كان من المرشحين لنيل جائزة مارسيل دوشون العام 2009، وهو حتى الآن واحدٌ من الفنانين الفرنسيين المعاصرين المرجعيين، داخل المعاهد الفنية والمدارس المعمارية، وصوت مزعج ينتقد السياسيات العمومية في فرنسا وأوربا، في أعماله الفنية كما في خطابه المديني...
لقد كان لشارلي جانبها "الآنركي" المناهض للرهبنة، والذي كان له معنى وقتها، حينما كان كثير من الناس يحاولون تحطيم أغلال المحافظة الغوليّة (gaullisme)، حتى باستعمال الاستفزاز الصبيانيّ، لكن شارلي تحوّلت مع الزمن إلى منصة لمعاداة الدين، وزادت في انحرافها، ثم صارت مناهضة للإسلام. لقد رحل قدماء شارلي (على رأسهم البروفيسور شورون) وتم تعويضهم بآخرين يمكن وصفهم باليسارين السابقين الرجعيين. يمكننا أن نذكر من بينهم فيليب فال، وغيره كثير، أولئك الذين ربطوا شبكة علاقات مع السلط السياسية وصاروا يشتغلون بأهداف تسويقيّة... ثم جاءت الأحداث التي قضى فيها معظم أعضاء هيئة التحرير على يد متطرّفين سلفيين، وكانت فرصة للسلطة حتى تجذب نحوها المسمى يساراً احتجاجيّاً لتوظفه لغاياتها؛ وكفخّ نصبوا تكتّلاً كارهاً للإسلام أطلقوا عليه "الربيع الجمهوري". حينذاك، حدث في فرنسا شرخٌ حقيقيّ، بين الذين كانوا شارلي والذين لم يكونوها. عن نفسي، لم أكن شارلي. لم أتظاهر مع الديكتاتوريين القادمين من شتى بقاع المعمور. وباسم ماذا كان يحق لي أن أتظاهر أساساً؟ باسم الدفاع عن سخرية غضّة في مواجهة تعقيد العالم؟ دعوني أقول لا وشكراً. أم باسم التحرش الأخلاقي بالمسلمين؟ أبداً لن أفعل. بالتالي لم أشارك في تلك المسخرة التي احتفت بالسخرية الغضّة التي تجر خلفها نتانة حرب مئة سنة مابعد حداثية. لكن هذا الحدث، 11 سبتمبر الخاص بنا في فرنسا، إذا جاز القول، قد قسم البلد إلى قسمين. فصار القسمان متخاصمان لا يتصالحان. وأمام تلك الجهة المُخاصمة أبداً يرتعد النظام. هكذا يمنع أي شكل من الاحتجاج: يُقطّع "السترات الصفراء" ويُنكّل بشباب الضواحي، وبطبيعة الحال يحظر أي تظاهرة في العاصمة للتضامن مع فلسطين. ذلك لأنّ النظام قد أعلن الحرب ضد القسم الآخر، وأصبح يعتبره ضرباً من ضروب "الأهالي". لم تعد المسألة مرتبطة بالعقيدة الدينية ولا بالأصول والهوية، بل أضحت أيُّ معارضة مهما كان نوعها تعتبر "أهلية"، بذات المعنى الذي عرفناها عليه في الجزائر أثناء مقاومة الاحتلال الفرنسي.
- ألا تخشى أن تُتّهم بما أضحى يُدعى الإسلاموية اليسارية في فرنسا
الإسلاموية اليسارية هي ابتداع أتى به بيير-آندريه تاغييف، واقترضه اليمين المتطرف لاحقاً للتدليل على أي شخص لا يركع أمام اللائكية الرجعية. هذه اللائكية الرجعية التي، بعيداً من اللائكية التاريخية الآتية من قانون 1905 (فصل الكنيسة عن الدولة جاعلة من الدين مسألة شخصية)، أصبحت مسألة حظر ممنهج يبتغي حظر التعبير على الدين، ولنقل بصراحة، على دين بعينه، هو الإسلام. هو ذا بالضبط الاستمرار الكريه لمصطلح "يهودي-بلشفي" الذي استخدمه الخونة والنازيون سنوات الثلاثين. بالتالي لا أهاب أن أنعت بالإسلاموي اليساري لأن هذا المفهوم ينتمي إلى بلاغة عنصرية كارهة للإسلام. إنه منبعث من لغة مسمومة من الطبيعة نفسها التي أرسلت ملايين اليهود إلى الأفران.
- كيف تفسّر هذه "النقلة"، نقلتكَ، نحو الكتابة؟ كأنني بك، وأنت تُغيّر الوسيط الفني، كنت بصدد تغيير المعركة، من الفضاء إلى الزمان. هل كان للكاتب الأميركيّ فيليب ك.ديك تأثير ما؟
في الواقع، يبقى فيليب ك.ديك واحداً من شيوخي في التفكير، لكنه ليس الوحيد، هناك أيضاً ويليام فولمان على سبيل المثال، وكذلك جيمس غراهام بالارد، ودون ديليلو، وغيرهم كثر. أحب الأدب، ولن أتحدث عن نقلة نحو الأدب بالنسبة لممارستي الفنية، لأنني لم أترك صنعتي البصرية والصوتية. في المقابل، تمنحني الكتابة حقلاً من الممكن أعتبره مكمّلاً وضرورياً خلال هذه المرحلة من عملي، حيث صار للحكاية مكان بالغ الأهمية. اختلاق العوالم، هو ذا ما يعجبني. من البديهي أن تكون الكتابة دينامو للعوالم التي تلائمني، لكن ما أصعبها، الكتابة، اللّعنة، إنني أقاسي وأقاسي لكني مستمتع أيضاً.
أما حديثك عن المعركة، فلا. البتة، لم أغيّر معركتي. الكتابة هي أداة جديدة أوظّفها في المعركة ذاتها. عندما أفكّر في هذا كله، تعود بي الذكريات إلى سن الـ15، عندما بدأت في الرسم، وشرعت بموازاته في كتابة رواية. كانت شيئاً عن الخيال العلمي، حيث تُغطى باريس بالمستنقعات والغابات. ما يغريني في الكتابة هو استعمال الأبجدية مثل "مَلْونة" رسّام: توليد الصور من الكلمات. ولن أحيد عن قولي: الكتابة دينامو خارق للمناظر، ولذلك لن أحرم نفسي منها. ثم إنّي دائماً ما كتب قصائد كثيرة. بدايةً، بين 18 و24 سنة، كنت أكتب أشياء غريبة أرقنها على الآلة الكاتبة وأنا أسمع الموسيقى. كان ذلك ساحراً بحق، كأني كنت أحاور الأرواح. وهذا كافٍ، ألا تتفق معي؟ (يضحك).
آه، صحيح. كتبتُ لاحقاً ما كنت أسمّيه بالهايكو الصناعيّ: ضربٌ من النصوص العجيبة أيضاً، مثل نص "نزلاء الصيوف الشاحبة" (Les internés des étés ternes)، وهو نص أحبه لأنه يتحدث عن شجن الصيف الفارغ في فرنسا، عندما يذهب الجميع إلى العطلة. يقول:
طريحون، مُتعرّقون بلا حركة.
نتمسّح في أغطية الأسرّة الاستشفائية ذي كأننا عرق على أجسادنا العرقى.
الحقيقة المسكونة حيث تستعجلون لتتقاعدوا فضلات ما كُنّاه ستنتظر دأباً،
إنّنا نزلاء الصيوف الشاحبة إلى الأبد.
- ها أنت تكتب الهايكو، تكتبه ثم تتنكّر له...
هذا كلام كبير، وهذا ليس بهايكو، إنها مجرد قصائد أحببت مشاركتها هنا، في هذه المحاورة، لأنّها من نصوصي الأولى التي تتحدث عن الشجن من خلال صوت مناخي صيفيّ، ولقد كانت من المرات الأولى التي تجسّد لي فيها الشجن الشمسيّ في شكله الصرف. هذا الشجن الشمسي الذي أجده عندما أسافر إلى المغرب وتونس. في هذه المنطقة بالذات من المتوسط تعود إليّ الرغبة في الكتابة. ها أنت ترى، كل شيء منطقيّ...
- لنتحدث عن الموسيقى. أعرف أنّ لك محبة خاصة للموسيقار المصري محمّد عبدالوهاب، فما الذي يفتنك في الميلوديا العربية الرتيبة، أنت القادم من تقاليد موسيقية غربيّة متنوعّة؟
اكتشفتُ محمد عبدالوهاب، بالإضافة إلى موسيقيّين آخرين، خلال إقامتي في المغرب العام 2011. أعشق الأسطوانات وأهتم بجمعها، وكلّما زرتُ مدينة حرصت على البحث عن محلاّت تباع فيها الأسطوانات. في كازابلانكا كان هناك محلاّن: ديسكات "غام" وكونتوار الديسك المغربي. تحدثتُ طويلاً مع الكهل الذي كان يملك محلّ ديسكات "غام" وبلغني أنه مات اليوم، فليرحمه الله. بفضله تعرّفت على أرشيف موسيقيّ كنت أجهله، وحرصت من جهتي أن أحدثه عن الموسيقى التي أحب. طبعاً، لم يتعرّف على معظم ما كلّمته عنه، لكنني حاولت أن أصف له... وهكذا، في يوم من الأيام، قال لنا، صديقتي وأنا: إليكم، وأخرج ألبوم "شكل تاني" لمحمد عبدالوهاب. لقد كان وحياً بالنسبة إلينا، من الانصات الأول. ألبوم تقليليٌّ (minimaliste)، قويّ وعميق. عود وخامة صوتية فحسب.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها