السبت 2021/07/24

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

نيكولا مولان لـ"المدن": من خراب غزّة نفهم بشاعة الأفق

السبت 2021/07/24
increase حجم الخط decrease

 

نيكولا مولان فنان بصري فرنسي (باريس، 1970)، تخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة سيرجي-بونتواز، يعمل على التخوم بين الصورة والصوت، المعمار والخراب، الأبجدية والظاهرة. تشكل الطوباويات الحديثة اللاحقة على الثورة الصناعية مجال انشغاله واشتغاله، يفكّكها ويعرّيها، ويُشيّد على أنقاضها خرافاته وديستوبياه الخاصة، سواءٌ عبر استعمال الفوتومونتاج أو الفيديو أو المنشأة النحتية المتأثرة بالهندسة المعمارية. كذلك ينكبّ مولان على استقراء القرن العشرين بمجمل أحداثه، خاصة انهيار الاتحاد السوفياتي الذي ترك في نفسه وعمله أثراً بالغاً، كما أنه لا يخفي انبهاره بالمعمار المُتوحّش والخيال العلمي... في هذه المحاورة/الشهادة يتحدث مولان لـ"المدن" عن مواقفه بخصوص القضية الفلسطينية، عن علاقته بالعالم العربي والإسلامي، ويقف على الوضع الداخلي الفرنسي، وتداخل الجمالي والسياسي والحميميّ في ممارساته وخطابه الفني الخاص. يُذكر أن مولان كان من المرشحين لنيل جائزة مارسيل دوشون العام 2009، وهو حتى الآن واحدٌ من الفنانين الفرنسيين المعاصرين المرجعيين، داخل المعاهد الفنية والمدارس المعمارية، وصوت مزعج ينتقد السياسيات العمومية في فرنسا وأوربا، في أعماله الفنية كما في خطابه المديني...


- عقب الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على غزّة، قُلتَ إنّ الأمر لم يعد يتعلق بمعركة ضد احتلال فلسطين فحسب، وإنما صار حرباً للحفاظ على مواثيق الأمم المتحدة، ومناهضة الفاشية والآبارتهايد. هل لك أن توضح لنا موقفك هذا؟

في المنشور الذي شاركته في فايسبوك، شدّدتُ وأكّدت على الصيغة السياسية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهناك القرار الأممي 242 الصادر يوم 22 نوفمبر 1967 الذي تتمادى إسرائيل في عدم احترامه منذ يوم صدوره. إنّ إسرائيل دولة مارقة تطبّق نظام الآبارتهايد على الشعب الفلسطيني وتحتل أرضه بشكل غير شرعي، وهذا يعنينا كلّنا. فعندما تقوم دولة عسكرية بتصفية شعوب وتحتل أراضيهم، نكون كلنا، بلا شك، معنيين بالأمر، قضية فلسطين كانت أم غيرها.

- هل تعتبر نفسك فناناً ملتزماً؟ أليس الجدير بالفنان الابتعاد عن السجالات الإيديولوجية؟

لا أعتبر نفسي فنّاناً ملتزماً، ودعني أقول إن التزامي غير مشروط بوضعي كفنان، ومن الضروري في اعتقادي إعادة تعريف مفهوم الالتزام من داخل الفن. أما التزامي الفني فهو ليس سياسوياً لزوماً، لكني أحاول اقتفاء نوع من الإيطيقا، وهي غير مرتبطة بقضية بعينها. لست إذن مناضلاً، لكن جميع المضامين سياسية. هناك فنون ملتزمة، وهناك أناس يغذّون تصوراً سياسياً عن العالم. هذا كل ما في الأمر. لكني غير ملتزم، وأقلّ من أن أكون فناناً ملتزماً. ثم إنني لا أتدخّل في النقاشات والسجالات الإيديولوجية باعتباري فناناً، وإنما باعتباري مواطناً، والفنان مواطن مثل البقية.



- طيب، هل ترى بأن التزام اليوم عندكم شبيه بذاك الذي ترعرعت داخله في باريس الثمانينات؟

الالتزام السياسي المعاصر في فرنسا لم يعد مرتكِزاً على البراديغم ذاته الشائع في الثمانينات، والذي كبرت فيه كما أشرتَ، في حضن عائلة تُصنّف كعائلة يسارية. لقد كانت فرنسا خلال تلك السنوات بلداً حيويّاً، وذلك قبل أن يختطف حزب "الجبهة الوطنية" النقاش السياسي. يجب التذكير بأن هذا الحزب عاد إلى الواجهة بسبب الحسابات الانتخابية الضيقة لما يعرف بالأحزاب "الجمهورية". بل يمكننا القول إن حزب "الجبهة الوطنية" قد تشكل في كل تفاصيله من مجيء الجمهورية الخامسة التي كانت تحتضر منذ ذلك الحين، وهو بالتالي نتيجة فساد قيميّ وزنخ نتن للفطرة الاستعمارية التي لم تهضم هزيمتها بعد تحرير الجزائر، وبعد تحرير البلد من طرف الحلفاء العام 1945. إنّ فرنسا في واقع الأمر بلد صغير يدّعي العَظَمة. من هنا، يكون ساركوزي أو المعتوه الآخر المسمى نابوليون، ممثلين نموذجيين للحالة الفرنسية: صغار يتنطعون بأوهام جنون العَظَمة. يمكننا تفهم غضب عدد كبير من المواطنين بهذا الخصوص، فأن يصيروا تحت لواء هذا النظام بشكل منتظم لهو أمر مُثبّطٌ بعض الشيء. لكن الناس هنا، في فرنسا، ليسوا البتة على صورة النظام الذي يُفترض أن يمثلهم، بل بعيدين من ذلك تماماً. إنني أرى الكثير من الصفح والصداقة هنا، وهنا تكمن ربما علّة العزوف عن التصويت. إنّ الغالبية لم تعد تجد نفسها في هذا النظام، وهذا سبب ابتعادها عنه ومقاطعتها له.

- إذا فهمتُ كلامك جيداً، فإنّك تخبرنا بأن فرنسا قد تغيّرت بالمقارنة مع ثمانينات القرن الماضي...

أجل، هذا صحيح. لقد تغيّرت فرنسا في الأزمنة الراهنة. فرنسا في الثمانينات كانت تحاول إعادة النظر في نفسها، كانت تحاول الانتهاء من شياطين الماضي "البيتيني" (نسبة إلى الماريشال فيليب بيتان). وكما يقول المثل: الطّبع يغلب التطبّع. إننا ندين بخيانة الأفكار الثورية لليسار الفرنسي، ويا لها من مفارقة، لكنها وجيهة على ما يبدو لي. فذلك الحزب المسمى "اشتراكياً" هو الذي باع روحه لليبرالية الاقتصادية، وباعها لاحقاً لحزب الرئيس ماكرون. اليوم، ها نحن نرى، كيف أن أبشع المستبدّين مثل كاستانير (وزير الداخلية) أو مانويل فالس، هم منتوج الحزب الاشتراكي. لنا أن نستمتع بالتمحيص في المشهد السياسي الفرنسي من زاوية "شارلي إيبدو"، وبهذا الخصوص: ما "شارلي"؟ لقد كانت جريدة ساخرة تنضوي تحت لواء اليسار، أو فوضوية السبعينات حتى، قادمة من الحركة الاحتجاجية للعام 1968، وصار تحولها عبر الزمن على صورة الطبقة السياسية للبلد: انهيار أخلاقي وقيميّ صارخ يُذكّرنا بما تحدّثت عنه حنّة آرندت.

قد يبدو كلامك للبعض تحاملاً إضافيّاً على تقاليد الجمهورية الفرنسية، خاصة بعد كل ما حدث وشهده العالم من اعتداء على مقر تلك الجريدة وتصفية جسدية لصحفييها. لكني أعرف جيداً موقفك وقصدك، لذلك أستسمحك في أن تبرز باستفاضة هذا التغير الصدامي في علاقة فرنسا بالإسلام والذي صارت شارلي إيبدو عرّابه في لحظة من اللحظات؟

لقد كان لشارلي جانبها "الآنركي" المناهض للرهبنة، والذي كان له معنى وقتها، حينما كان كثير من الناس يحاولون تحطيم أغلال المحافظة الغوليّة (gaullisme)، حتى باستعمال الاستفزاز الصبيانيّ، لكن شارلي تحوّلت مع الزمن إلى منصة لمعاداة الدين، وزادت في انحرافها، ثم صارت مناهضة للإسلام. لقد رحل قدماء شارلي (على رأسهم البروفيسور شورون) وتم تعويضهم بآخرين يمكن وصفهم باليسارين السابقين الرجعيين. يمكننا أن نذكر من بينهم فيليب فال، وغيره كثير، أولئك الذين ربطوا شبكة علاقات مع السلط السياسية وصاروا يشتغلون بأهداف تسويقيّة... ثم جاءت الأحداث التي قضى فيها معظم أعضاء هيئة التحرير على يد متطرّفين سلفيين، وكانت فرصة للسلطة حتى تجذب نحوها المسمى يساراً احتجاجيّاً لتوظفه لغاياتها؛ وكفخّ نصبوا تكتّلاً كارهاً للإسلام أطلقوا عليه "الربيع الجمهوري". حينذاك، حدث في فرنسا شرخٌ حقيقيّ، بين الذين كانوا شارلي والذين لم يكونوها. عن نفسي، لم أكن شارلي. لم أتظاهر مع الديكتاتوريين القادمين من شتى بقاع المعمور. وباسم ماذا كان يحق لي أن أتظاهر أساساً؟ باسم الدفاع عن سخرية غضّة في مواجهة تعقيد العالم؟ دعوني أقول لا وشكراً. أم باسم التحرش الأخلاقي بالمسلمين؟ أبداً لن أفعل. بالتالي لم أشارك في تلك المسخرة التي احتفت بالسخرية الغضّة التي تجر خلفها نتانة حرب مئة سنة مابعد حداثية. لكن هذا الحدث، 11 سبتمبر الخاص بنا في فرنسا، إذا جاز القول، قد قسم البلد إلى قسمين. فصار القسمان متخاصمان لا يتصالحان. وأمام تلك الجهة المُخاصمة أبداً يرتعد النظام. هكذا يمنع أي شكل من الاحتجاج: يُقطّع "السترات الصفراء" ويُنكّل بشباب الضواحي، وبطبيعة الحال يحظر أي تظاهرة في العاصمة للتضامن مع فلسطين. ذلك لأنّ النظام قد أعلن الحرب ضد القسم الآخر، وأصبح يعتبره ضرباً من ضروب "الأهالي". لم تعد المسألة مرتبطة بالعقيدة الدينية ولا بالأصول والهوية، بل أضحت أيُّ معارضة مهما كان نوعها تعتبر "أهلية"، بذات المعنى الذي عرفناها عليه في الجزائر أثناء مقاومة الاحتلال الفرنسي.


- ألا تخشى أن تُتّهم بما أضحى يُدعى الإسلاموية اليسارية في فرنسا
الإسلاموية اليسارية هي ابتداع أتى به بيير-آندريه تاغييف، واقترضه اليمين المتطرف لاحقاً للتدليل على أي شخص لا يركع أمام اللائكية الرجعية. هذه اللائكية الرجعية التي، بعيداً من اللائكية التاريخية الآتية من قانون 1905 (فصل الكنيسة عن الدولة جاعلة من الدين مسألة شخصية)، أصبحت مسألة حظر ممنهج يبتغي حظر التعبير على الدين، ولنقل بصراحة، على دين بعينه، هو الإسلام. هو ذا بالضبط الاستمرار الكريه لمصطلح "يهودي-بلشفي" الذي استخدمه الخونة والنازيون سنوات الثلاثين. بالتالي لا أهاب أن أنعت بالإسلاموي اليساري لأن هذا المفهوم ينتمي إلى بلاغة عنصرية كارهة للإسلام. إنه منبعث من لغة مسمومة من الطبيعة نفسها التي أرسلت ملايين اليهود إلى الأفران.


- تعود علاقتك بالعالم العربي إلى زياراتك للمغرب. وللمتتبع لمسيرتك أن يلاحظ تغييراً في تصورك الفني والتشكيلي حتى نتحدث عن "قطيعة" جمالية سياسية ميّزتها عودة نحو الرسم والكتابة. هل للقاء بالفضاء المغاربي تأثير في ما تقوم به الآن؟

بالفعل، لقائي الأول بالعالم العربي يعود إلى سفري وإقامتي في المغرب العام 2011. ولن أتحدث عن قطيعة وإنما عن انفتاح. لقد ركّزت مُجمل أعمالي على أوروبا نفسها، وأنا أنتمي إلى ذلك الجيل الذي بدأ يُسافر، مع سقوط جدار برلين، نحو أوروبا الشرقية. إنه جيل كان منغمساً في جو ضبابي متخصص في تلك المناطق وفي الأشباح التي تحوم داخلها باستمرار. في نهاية المطاف، سمحت لي إقامتي في المغرب بتكسير عدد من العادات الجمالية المستهجنة، تلك المتعلقة بالمركزية الأوروبية، سواء على مستوى الاستيطيقا أو التاريخ. كذلك عملتُ على نقل كل اهتماماتي نحو شمال إفريقيا من أوروبا، هذا العالم الصناعي الكئيب والحزين والرمادي، الغارق في نوع من شجن المناظر واليوميّ...

- هذه الكآبة القاتمة التي تصفها لم تعد نفسها حصراً على أوروبا...

بلا أدنى شك، إنها متواجدة على الطرف الآخر من المتوسط بحسب قوانين خاصة، وهذا أيضاً ما سمح لي باستيعاب المسألة باعتبارها تاريخاً أكثر شمولية وكونية. لا أنسى القول بأني مسكون بنوع من التصوف، وقد كان كافياً أن أسيح بعض الوقت بين مدينة آسفي وكازابلانكا (حتى لا أذكر غير هذين المدينتين) حتى أتلقى الشعور، لا أدري بأي قدرة، على أن أصول افتتاني واهتمامي موجودة هنا أيضاً. بهذا الشكل نُسج رابط حميمي بيني وبين تلك المدن. وكي أكون أدق، لقد استوعبتُ أن ما يبرّر عملي يتجاوز الإطار التاريخي الذي يشعر الغرب وأوروبا أنهما يمتلكانه، متناسين أن هذا التاريخ كونيّ بالضرورة.

- إذا كنت لا تفضل الحديث عن قطيعة، فلعل الأمر يُفسّر على نحو آخر...

حسناً، لقد كان معقدا بالنسبة اليّ أن أترجم هذه "الصدمة" من خلال الصورة، من دون أن أسقط في الكليشيه. وهنا حلّ "النص" باعتباره منقذاً. إن النص يساعد على وصف أحاسيس مجردة يصعب التعبير عنها من خلال الصورة، في حالتي على الأقل. لقد أردت الشروع في سرد يوكرونيا: حكاية لا مكان لها، ولا زمان. يوكرونيا يكون المتوسط فيها مركز العالم، وفي نهاية المطاف ليس ذلك بغير المنطقي إذا نظرنا في مرآة التاريخ: في المتوسط، دائماً وأبداً، يمكننا حتى اليوم ملاحظة الهزات الكبرى في تاريخ الشعوب. ليس علينا إلا النظر بتمعن إلى ما يجري في فلسطين أو استذكار مئات اللاجئين الذين قضوا في البحر، هكذا يمكننا أن نفهم الكابوس الذي يُرسم في أفق أزمنتنا الراهنة. 


- في تجهيز الفيديو المعنون بـ"سيدي مخيّر" (2012)، انتقدتَ بشدّة الأنظمة الجديدة وأشكال الاستشراق المتناسلة. بل إنّك اقترحت نوعاً عجيباً من النقد، يمكننا تسميته بالاستشراق المعكوس، حتى لا أقول الاستغراب، بما أنك تنتمي إلى الغرب وحضارته. هكذا حوّلتَ نهر الغارون، الذي ولد فرانسوا مورياك على ضفافه وتغنّى به هولدرن، حوّلته إلى نيل. حدّثنا أكثر عن هذا العمل..

إن زاوية المعالجة التي انطلقتُ منها في اشتغالي على هذا التجهيز البصري الصوتي هي إجابة حُلميّة على دعوة وُجّهت لي من مؤسسة نواحي مدينة بوردو، حيث كان يتربّع بُرج في ملعب خيل قديم شُيّد في بداية القرن الماضي، بتصميم استشراقيّ على شكل مسجد. لم يعد لملعب الخيل هذا وجود اليوم، وذلك البرج قد أضحى خراباً مع أنّه مصنف كتراث وطني. برجٌ وحيد منتصب وسط الحديقة. وبالطبع، إذا اقترضتُ في هذا العمل بعض القوانين والمراجع التي تحيل إلى الاستشراق "المعكوس" فإنني، أبعد من أن أدين ببساطة، أردتُ خلخلة القواعد. لقد أزحتُ هذا الاستشراق في محاولة لجعله شيئاً متحوّلاً يمكن أن يكون أقرب إلى بعض حكايات بول بولز وجيل البِتْ في طنجة، منه إلى الاستشراق المغبرّ العزيز على الغرب الاستعماريّ. أردتُ التأرجح نحو عالم جنيّ وغرائبيّ ومظلم أحياناً. يتعلّق الأمر بتاريخ للأشباح، ثم، نعم، يمكننا رؤيته باعتباره انبعاثاً لضحايا الاستعمار والحروب الكولونياليّة. فتحويل نهر الغارون إلى نهر النيل كان أوّلاً سخريّة من الماضي الاستعماري لفرنسا، وهكذا نرى في العمل، على ضفة النيل المفترض، مقام الشهيد الموجود في الجزائر العاصمة...

- كيف تفسّر هذه "النقلة"، نقلتكَ، نحو الكتابة؟ كأنني بك، وأنت تُغيّر الوسيط الفني، كنت بصدد تغيير المعركة، من الفضاء إلى الزمان. هل كان للكاتب الأميركيّ فيليب ك.ديك تأثير ما؟

في الواقع، يبقى فيليب ك.ديك واحداً من شيوخي في التفكير، لكنه ليس الوحيد، هناك أيضاً ويليام فولمان على سبيل المثال، وكذلك جيمس غراهام بالارد، ودون ديليلو، وغيرهم كثر. أحب الأدب، ولن أتحدث عن نقلة نحو الأدب بالنسبة لممارستي الفنية، لأنني لم أترك صنعتي البصرية والصوتية. في المقابل، تمنحني الكتابة حقلاً من الممكن أعتبره مكمّلاً وضرورياً خلال هذه المرحلة من عملي، حيث صار للحكاية مكان بالغ الأهمية. اختلاق العوالم، هو ذا ما يعجبني. من البديهي أن تكون الكتابة دينامو للعوالم التي تلائمني، لكن ما أصعبها، الكتابة، اللّعنة، إنني أقاسي وأقاسي لكني مستمتع أيضاً.

أما حديثك عن المعركة، فلا. البتة، لم أغيّر معركتي. الكتابة هي أداة جديدة أوظّفها في المعركة ذاتها. عندما أفكّر في هذا كله، تعود بي الذكريات إلى سن الـ15، عندما بدأت في الرسم، وشرعت بموازاته في كتابة رواية. كانت شيئاً عن الخيال العلمي، حيث تُغطى باريس بالمستنقعات والغابات. ما يغريني في الكتابة هو استعمال الأبجدية مثل "مَلْونة" رسّام: توليد الصور من الكلمات. ولن أحيد عن قولي: الكتابة دينامو خارق للمناظر، ولذلك لن أحرم نفسي منها. ثم إنّي دائماً ما كتب قصائد كثيرة. بدايةً، بين 18 و24 سنة، كنت أكتب أشياء غريبة أرقنها على الآلة الكاتبة وأنا أسمع الموسيقى. كان ذلك ساحراً بحق، كأني كنت أحاور الأرواح. وهذا كافٍ، ألا تتفق معي؟ (يضحك).

آه، صحيح. كتبتُ لاحقاً ما كنت أسمّيه بالهايكو الصناعيّ: ضربٌ من النصوص العجيبة أيضاً، مثل نص "نزلاء الصيوف الشاحبة" (Les internés des étés ternes)، وهو نص أحبه لأنه يتحدث عن شجن الصيف الفارغ في فرنسا، عندما يذهب الجميع إلى العطلة. يقول:

طريحون، مُتعرّقون بلا حركة.
نتمسّح في أغطية الأسرّة الاستشفائية ذي كأننا عرق على أجسادنا العرقى.
الحقيقة المسكونة حيث تستعجلون لتتقاعدوا فضلات ما كُنّاه ستنتظر دأباً،
إنّنا نزلاء الصيوف الشاحبة إلى الأبد.

- ها أنت تكتب الهايكو، تكتبه ثم تتنكّر له...

هذا كلام كبير، وهذا ليس بهايكو، إنها مجرد قصائد أحببت مشاركتها هنا، في هذه المحاورة، لأنّها من نصوصي الأولى التي تتحدث عن الشجن من خلال صوت مناخي صيفيّ، ولقد كانت من المرات الأولى التي تجسّد لي فيها الشجن الشمسيّ في شكله الصرف. هذا الشجن الشمسي الذي أجده عندما أسافر إلى المغرب وتونس. في هذه المنطقة بالذات من المتوسط تعود إليّ الرغبة في الكتابة. ها أنت ترى، كل شيء منطقيّ...



- لنتحدث عن الموسيقى. أعرف أنّ لك محبة خاصة للموسيقار المصري محمّد عبدالوهاب، فما الذي يفتنك في الميلوديا العربية الرتيبة، أنت القادم من تقاليد موسيقية غربيّة متنوعّة؟

اكتشفتُ محمد عبدالوهاب، بالإضافة إلى موسيقيّين آخرين، خلال إقامتي في المغرب العام 2011. أعشق الأسطوانات وأهتم بجمعها، وكلّما زرتُ مدينة حرصت على البحث عن محلاّت تباع فيها الأسطوانات. في كازابلانكا كان هناك محلاّن: ديسكات "غام" وكونتوار الديسك المغربي. تحدثتُ طويلاً مع الكهل الذي كان يملك محلّ ديسكات "غام" وبلغني أنه مات اليوم، فليرحمه الله. بفضله تعرّفت على أرشيف موسيقيّ كنت أجهله، وحرصت من جهتي أن أحدثه عن الموسيقى التي أحب. طبعاً، لم يتعرّف على معظم ما كلّمته عنه، لكنني حاولت أن أصف له... وهكذا، في يوم من الأيام، قال لنا، صديقتي وأنا: إليكم، وأخرج ألبوم "شكل تاني" لمحمد عبدالوهاب. لقد كان وحياً بالنسبة إلينا، من الانصات الأول. ألبوم تقليليٌّ (minimaliste)، قويّ وعميق. عود وخامة صوتية فحسب.


كانت الأسطوانة قديمة، وأطلعنا صاحب المحل على صندوق جمع داخله نوادر ترجع إلى العام 1961. كان غلاف الألبوم فاتناً، بطباعة حريريّة، وقد ظهر عليه بورتريه "المُعلّم" في خلفية خضراء. اشترينا الألبوم في الحال، واقتنيا نسخة أخرى منه، خوفاً من تلف الأولى. لقد بقي صوت عبدالوهاب يخترق جنبات "دار المأمون" حيث كنت أقضي إقامتي ناحية مراكش. ومقطوعة "شكل تاني" هي فعلاً من أجمل ما سمعت، مع أني لا أتحدث العربية ولا أفهمها. هذا مثال آخر على ذلك الشجن الحارق والخارق الذي كنت أكلّمك عنه آنفاً. إنّه فن راقٍ. وإذا ما زرتُ القاهرة يوماً ما، سأضع زهرة عند تمثال عبدالوهاب الواقف في دار الأوبرا المصرية.

- تحتلّ الموسيقى مكانة كبيرة في مسارك الفني الممتد أكثر من ثلاثة عقود الآن، بل إنها جزءٌ من عملك اليوم رغم أنك لا تقوم بالتأليف الموسيقيّ...

أدين لكل الأشكال الموسيقية التي رافقتني، فقد قوّت مخيّلتي، وقادت علاقاتي الاجتماعية وقيّدت اختياراتي الجمالية، وولّدت أحلامي حتى. بإيجاز، لقد رعتني الموسيقى في كل أوقات وجودي هذا.

وحدث، لمّا كنت أعيش في برلين، بشكل طبيعي، أن ألتقي الكثير من الموسيقيين. كانت اللقاءات انسيابية... هناك تعرّفت على غازي بركات (شهرته الفنية Pharoah Chromium) العام 2005. قدّمته لي صديقتي الممثلة جوهانا برايس، وصرنا منذ ذلك الوقت أصدقاء لا نفترق. هو الآن عرّاب ابني. غازي بركات فلسطيني من والده، وألمانيّ من أمّه. عاش حياة مُتقلّبة هي حياة ابن قيادي في منظمة التحرير الفلسطينية، متنقلاً بين المدن والبلدان (سويسرا، ألمانيا الغربية، لبنان، إلخ)، وهو أيضاً موسيقيّ عصاميّ. من جهة، يسبر عمله أغوار العلاقات بين الموسيقى التجريبية والإلكترونية، التي ظهرت في ألمانيا، والموسيقى العربية من جهة أخرى، وهي موسيقى تشكّل جزءاً من جذوره وهويته.

في العام 2010، قررّتُ الخوض في إنتاج أسطوانات موسيقية لترسيخ تعاون مهنيّ مع كل أولئك الأصدقاء الموسيقيّين الذين لم تعد الصداقة كافية حتى تدوم العلاقة معهم. هكذا قمنا، بالنظر إلى تقاربنا، بالتأسيس لشيء يقع بين الموسيقى والفنون التشكيلية والبصرية. فجاءت "غراوتاغ" (Grautag) كمجموعة وفرصة سمحت لنا بالاشتغال سويّة على لقاء عوالمنا المختلفة. أنكبّ من جهتي على التصور العام والشق البصري، وينشغل الموسيقيون بالتأليف. كل مرحلة إنتاج أسطوانة في مجموعة Grautag هي خلاصة ارتطام واتحاد تلك العوالم... كما لو كانت تفاعلاً نووياً بشكل من الأشكال. أمّا الفطريّات التي ننتجها فهي على صورة مسار لقاءاتنا والطاقة التي تتولد عنها. اليوم، تكتمل الأسطوانات المزدوجة لـ Grautag بتشكيلة جديدة سمّيناها "سوناترا"، وخصّصناها لعوالم موسيقيّة تستحضر الأجرام السماوية والمجموعة الشمسية والنجوم...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها