ذهب بعض النقاد الفرنسيين، بالاعتماد على درس جيل دولوز الشيق عن
فن الرسم وسؤال المفاهيم، وفي ذهنهم فرانسيس بايكون، لا شك، إلى اعتبار أعمال إقبي تحقيقاً لمراحل حدوث الكارثة. هنا، أتذكر أننا، عبدالرحيم وأنا، قد تحدثنا باستفاضة عن لوحة
طوّافة قنديل البحر لجيريكو، واتفقنا على فُحشها الكارثي الجليل. ما يُمكننا تسميته «البشاعة المُخلّصة»، لدى جيريكو، نراه في شتى مخلوقات إقبي التي لا تحمل اسماً، وتريد تخليصنا، مع أنها لا تخلص حتى أنفسها من قبضته هو. إنها أكباش الفداء التي تُشكّل القول السياسي الأول للإيماءة التشكيلية عنده: عداء سيمولاكر الديموقراطية وخرافة الإيديولوجيات؛ فأولئك الذين خرج إقبي معهم العام 2011، في مظاهرات «الربيع العربي»، هم أنفسهم المُحنّطون في اللوحة. يمكننا الوقوف عند هذا التاريخ إذن كزمن قبليّ للكارثة، للخيبة التي سرعان ما استبدّت به وفجّرت زمناً ثانياً في علاقته باللون، وهو يتخطى السنين شاحباً، فاقداً أوهام التغيير، نحو عقده الخامس. ربما يكون أسلوب إقلبي (حركة يده، ضربة خطه وحظه) قد تبدّل بشكل جذري بعد تلك الخيبة، وبما أنّ "الخطّ أفضل من اللّفظ، لأنّ اللّفظ يفهم الحاضر فقط، والخط يفهم الحاضر والغائب"، فإنّ إقبي اختار حضوره في غياهب النار والرّماد...
برزخ من لا يمبوس له
كذلك تكتمل لوحات إقبي، مع انتهاء كل معركة جديدة بين الغولم وعزرائيل، وبينما نعتقد أن النيران قد خمدت، يطفو زمن ثالث ويترسّخ، زمن لا يتعلق بالكارثة باعتبارها هرجاً ومرجاً، وإنما بحضرة صوفية تجمع المُقدّس بالمُدنّس. عندئذ، يقف إقبي راقصاً، فرشاة ألوانه بيد، وفانوسٌ يُنير عتمة النهار بالأخرى. ومثل المُعلِّم فرنهوفر، في نص أونوريه دو بالزاك، يقوم الفنان قبيل الشفق لينتقم من/لنفسه، ويُدشّن رومنيطقية مدهشة تفرض علينا هذه القراءة الشعرية/الميتافزيقية التي نحاول تشكيلها. إنّ الإقبيّ، وإن كان يلتقي بمرجعيات تشكيلية غربية يُمليها التأويل البصريّ لظاهر إيروتيكي يجمع الأثداء بالأرداف، والأنوف المجدوعة بالبطون المبقورة، فإنه يبقى متصلاً بمخيال وثنيّ مغربي/إفريقيّ وعرفان إسلامي/عربي، يحمله في اسمه: التيس الأمازيغي الذي ينشد التضحية لبلوغ السكن إلى جوار الرحمن. يحدق فينا إقبي، من خلال مخلوقاته، ومن كل جهة، يطوّقنا بالنظر. يقول ابن عربي عن الإدراك المنامي للبرزخ: "وإلى مثل هذه الحقيقة يصير الإنسان في نومه وبعد موته، فيرى الأعراض صوراً قائمة بنفسها، تخاطبه ويخاطبها: أجساد لا شك فيها".
يطوّع إقبي اللوحة لكي تتبدّى، في ظاهرها، كسطح عنيف تتكدّس فوقه دموية العالم وعفنه، لكنه ينسج خيوط حكاية تحتيّة، صافية ومتلألئة وغامضة في آن، يفقد ملامحها ومآلاتها تدريجيّاً، ونحن معه نتحول إلى رائين بعين الخيال، نصغي للناقور وقد تجذّر فينا اللغز، فـ"فاقد اللغز هو فعلاً إذن، وبشكل أبدي، مُلغز؛ فعلاً وبشكل أبدي غير متاح (...) إنّ النار التي لا نقدر إلا على حكايتها، واللغز الذي التُهِم تماماً داخل القصة، يقطعان عنّا الكلام الآن وينغلقان إلى الأبد في صورة"، هي صورة تبعث الأحياء في موضع آخر من الكون، في برزخ يجعل من النظر ورطة الناجين، كأننا في حوار غير منقطع مع لوحة
تحليق الساحرات لدي غويار، معلّقين بين الأرض والسماء...
سبع سنوات من الصداقة، لم أر خلالها عبدالرحيم خارج مشغله، إلى أن أضرم النار في اللوحة ذات ليلة. اضطررننا للخروج، رفقة أخيه إبراهيم، كموسى ومن كان معه. قبل الحرق بقليل، جلست أنظر إلى بورتريهه الخاص، الذي نجا من الحريق، وبدا لي طيف
إيغون شيلي حائماً في الأرجاء. في حقيقة الأمر، كان ممكناً اقتراح عتبة مختلفة لهذا النص. عتبة عزيزة، يقول فيها البسطامي، مُعلّلاً امتناعه عن الترحال: "لأنّ صاحبي لا يسافر وأنا معه مقيم". لقد كان لهذه العتبة أن تُكسب الكلام بريقاً مختلفاً، كأن تصير تحريضاً للفنان على الذهاب إلى طنجة أو الدار البيضاء، عُرس الذئب ونعاجه المتناسلة، لكن اللهيب قد أتى على كل الأسفار، وجعل من المكوث داخل المدينة الحمراء قدر الهارب من اللوغوس.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها